المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(أ) القاضى عياض - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١٠

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [الجزائر]

- ‌2 - [المغرب الأقصى]

- ‌3 - [موريتانيا]

- ‌4 - [السودان]

- ‌القسم الأولالجزائر

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-الأغالبة-الإباضية-تلمسان

- ‌(ب) الأغالبة

- ‌(ج) الإباضيون

- ‌(د) تلمسان

- ‌4 -الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-بنو حماد

- ‌(أ) الدولة العبيدية

- ‌(ج) بنو حماد

- ‌5 -دولة الموحدين-الدولة الحفصية-بنو عبد الواد

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الجزائرى

- ‌2 -المعيشة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌4 -الدين-المالكية والحنفية-الإباضية-المعتزلة

- ‌(أ) الدين

- ‌(د) المعتزلة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌(ب) دور العلم:‌‌ الكتاتيب-‌‌المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌ الكتاتيب

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -كثرة الشعراء

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ عبد الكريم النهشلى

- ‌ ابن خميس

- ‌ الشهاب بن الخلوف

- ‌ محمد القوجيلى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ بكر بن حماد التاهرتى

- ‌ سعيد المنداسى

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد الرحمن الأخضرى

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ ابن على

- ‌2 -شعراء وصف الطبيعة

- ‌ عبد الله بن محمد الجراوى

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ إبراهيم التازى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والوصايا

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات

- ‌5 -كبار الكتاب

- ‌[(ب)] الوهرانى

- ‌القسم الثانىالمغرب الأقصى

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-ثورة الصفرية-بنو مدرار-الأدارسة-بعد الأدارسة والمدراريين

- ‌(ب) ثورة الصفرية

- ‌(د) الأدارسة

- ‌4 -المرابطون-الموحدون-بنومرين

- ‌(أ) المرابطون

- ‌(ب) الموحدون

- ‌5 -السعديون-الطرق الصوفية-العلويون

- ‌(أ) السعديون

- ‌(ج) العلويون

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع المغربى

- ‌1 -عناصر السكان

- ‌2 -المعيشة

- ‌3 -الثراء-الرّفة-الموسيقى-المرأة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) المرأة

- ‌4 -المالكية-الصفرية-المعتزلة-الظاهرية

- ‌(أ) المالكية

- ‌(ب) الصفرية

- ‌(ج) المعتزلة

- ‌(د) الظاهرية

- ‌5 -الزهاد-المتصوفة

- ‌(أ) الزهاد

- ‌(ب) المتصوفة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌ الكتاتيب

- ‌(ب) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌2 -علوم الأوائل

- ‌3 -علوم اللغة والنحو والعروض والبلاغة

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرب المغرب الأقصى-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب المغرب الأقصى

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 -شعراء الموشحات والأزجال

- ‌(أ) شعراء الموشحات

- ‌ ابن غرلة

- ‌ ابن الصباغ

- ‌ ابن زاكور

- ‌(ب) شعراء الأزجال

- ‌ابن عمير

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ ابن زنباع

- ‌ ابن حبوس

- ‌الجراوى

- ‌ ابن عبد المنان

- ‌الهوزالى

- ‌الدغوغى

- ‌البوعنانى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) الفخر

- ‌ الشاذلى

- ‌(ب) الهجاء

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد العزيز الملزوزى

- ‌ابن الونان

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ أبو الربيع الموحدى

- ‌ عمر السلمى

- ‌2 -شعراء الوصف

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌ ابن شعيب الجزنائى

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن المحلى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ميمون بن خبازة

- ‌ مالك بن المرحل

- ‌الفصل السادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والمواعظ

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌(ب) الرحلات

- ‌ رحلة ابن رشيد

- ‌ رحلة العياشى

- ‌ رحلة ابن ناصر

- ‌5 -كبار الكتّاب

- ‌(أ) القاضى عياض

- ‌القسم الثالثموريتانيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع والثقافة

- ‌1 -المجتمع

- ‌(أ) صنهاجة وقبائل المعقل العربية

- ‌(ب) الزروع والمراعى

- ‌(ج) التجارة

- ‌(د) حياة يدوية

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) نشاط دينى تعليمى كبير

- ‌(ب) التعليم والطلاب والشيوخ

- ‌(ج) أمهات الكتب والمتون والشروح المتداولة

- ‌(د) أعلام العلماء فى موريتانيا

- ‌(هـ) القراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء

- ‌(و) أعلام النحاة والمتكلمين

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرّب موريتانيا

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ ابن رازكة

- ‌3 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ المختار بن بون

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ الأحول الحسنى

- ‌ يقوى الفاضلى

- ‌2 -شعراء التصوف

- ‌ المختار الكنتى

- ‌الشيخ سيديّا

- ‌3 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ محمد بن محمد العلوى

- ‌4 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌القسم الرابعالسودان

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌3 -(ج) دولة الفونج

- ‌4 -محمد على والسودان-عهد إسماعيل

- ‌5 -حركة المهدى-خليفته عبد الله التعايشى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع السودانى-الثقافة

- ‌(أ) نزعة صوفية عامة

- ‌(ب) المرأة ومكانتها فى التصوف

- ‌(ج) التصوف والتربية الخلقية والدينية

- ‌(د) طرق صوفية جديدة

- ‌(هـ) دعوة المهدى ومبادئها الستة

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) كتاتيب-زوايا-مساجد

- ‌(ب) حركة علمية نشيطة فى عهد الفونج

- ‌(ج) سودانيون أزهريون وعلماء مصريون

- ‌(د) التعليم المدنى الحديث وتوقفه

- ‌(هـ) إنشاء معهد دينى وعودة التعليم المدنى الحديث

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ الشيخ حسين زهراء

- ‌ الشيخ محمد عمر البناء

- ‌3 -شعراء الفخر والحماسة

- ‌ الشيخ يحيى السلاوى السودانى

- ‌ عثمان هاشم

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ الشيخ محمد سعيد العباسى

- ‌(ب) رثاء المدن

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل العفيف

- ‌2 -شعراء النقد العنيف والشكوى من الزمن

- ‌الشيخ عبد الله البناء

- ‌ صالح عبد القادر

- ‌3 -شعراء التصوف

- ‌4 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ الشيخ عمر الأزهرى

- ‌ الشيخ عبد الله عبد الرحمن

الفصل: ‌(أ) القاضى عياض

التاج، وعن يمينه طبلة من ذهب مرصّعه أعدّها-وصنعها-أيام مقامنا يعد وصولنا، ليجعل عليها البراءة السلطانية إجلالا وتعظيما لمرسلها أعزه الله تعالى».

رحلة (1) محمد بن عثمان المكناسى

ولد محمد بن عثمان بمكناس فى أواسط القرن الثانى عشر الهجرى وتوفى سنة 1213 هـ/ 1799 م وكان أديبا، فعينه السلطان محمد بن عبد الله العلوى كاتبا فى دواوينه، ثم اختاره حاكما لتطوان، ثم عينه وزيرا، وله رحلات متعددة، طبعت جامعة الرباط منها رحلته إلى كارلوس الثالث ملك إسبانيا بدعوة من حكومة الجزائر سنة 1193 هـ/1779 م لافتكاك الأسرى الجزائريين ورد حريتهم إليهم، وقد سماها:«الإكسير فى فكاك الأسير» ونشرتها أخيرا جامعة محمد الخامس بالرباط، وكان أديبا شاعرا وكاتبا ومن قوله فى وصف مدريد:

«هذه المدينة كبيرة غاية فى الكبر وضخامة البناء حاضرة الحواضر ببلاد إسبانيا، بنيت على ربوة ببابها وادى (نهر) مانسنارس زادها حسنا وبهاء، وبهجة وسناء، وقد غرسوا على جانب الوادى الذى من ناحية المدينة أشجارا كثيرة مثل النشم وما أشبهه فى غاية العلو بصفوف معتدلة يتفيئون ظلالها عشية وقت خروجهم، يترددون على حاشية الوادى المذكور على أكداشهم (دوابهم) ومن لم يكن عنده كدش يخرج على رجليه. ولما دخلنا المدينة المذكورة وجدنا بها من الخلائق أضعاف من تلقّانا بخارجها، فسرنا فى سكك متسعة وديار مرتفعة، فجلّ ديارها لها ست طبقات وخمس طبقات، لكل دار شراجيب مفتحة للأزقة، مغلقة بالزاج عليها شبابيك الحديد، وأسواقها عامرة، مشحونة بأهل الحرف والصنائع، والتجارة والبضائع، وجلّ باعتها من النساء» . وحسبنا ما تقدم عن الرحلات الحجازية والأوربية.

‌5 -

كبار الكتّاب

(أ) القاضى عياض

(2)

هو أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبى السّبتى علاّمة عصره، استقرّ أجداده قديما فى مدينة بسطة من أعمال غرناطة، وانتقلوا إلى فاس أيام الأدارسة، وبارحوها إلى مدينة سبتة بعد دخول بنى عبيد الفاطميين المغرب فى القرن الرابع الهجرى، وكان أول من نزلها من أجداد

(1) انظر الحياة الأدبية فى المغرب على عهد الدولة العلوية ص 334 وما بعدها.

(2)

انظر فى سيرة عياض وأعماله كتاب ابنه محمد: التعريف بالقاضى عياض تحقيق الدكتور محمد بن شريفة (طبع الرباط) وكتاب أزهار الرياض فى أخبار عياض للمقرى (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر)، والنبوغ المغربى 2/ 11 وفى مواضع متعددة والوافى 1/ 52.

ص: 518

القاضى عياض جده عمرون، وكان موسرا، فاشترى بها أرضا وهى المعروفة باسم المنارة وبنى بها مسجدا وديارا وقفها على المسجد، ووقف بقيتها مقبرة للدفن، وولد له ابنه عياض، وولد لعياض ابنه موسى وولد لموسى ابنه عياض سنة 476 هـ/1083 م ونشأ طالبا للعلم حريصا عليه مجتهدا فيه-كما يقول ابنه-معظما عند شيوخه لما لاحظوا من ذكائه وإكبابه على الدرس إلى أن برع فى زمانه، وتفوق على أقرانه، وكان من حفاظ القرآن الكريم، لا يترك تلاوته والقيام على معانيه وإعرابه وشواهده وأحكامه كما يقول ابنه، وكان-كما يقول-من أئمة زمنه فى الحديث وفقهه وغريبه ومشكله ومختلفه حاذقا بتخريجه، كما كان فقيها حافظا لمسائل مدوّنة سحنون ومختصر ابن أبى زبد القيروانى، وكان نحويا ريّانا من الأدب شاعرا مجيدا من أكتب أهل زمانه خطيبا مفوّها، مقداما على الأمراء فى استقضاء حوائج الرعية عندهم، محبّبا فى قلوب العامة والخاصة. ويضيف ابنه أنه أخذ عن أشياخ بلده، ثم رحل إلى قرطبة بالأندلس سنة 507 للهجرة، وأخذ عن شيوخها، وخرج إلى مرسية فى أوائل سنة 508 ولزم الحافظ الحسين بن محمد الصدفى فترة، وأجازته جماعة كثيرة من أعلام (1) الأندلس وتونس ومصر والحجاز. وولى القضاء فى بلدته سبتة سنة 515 للهجرة ونقل إلى غرناطة قاضيا بها سنة 531 هـ/1136 م وصرف عنها سنة 532 وعاد إلى قضاء سبتة سنة 539 هـ/1144 م. وفى بدء دولة الموحدين غزا عبد المؤمن سبتة فردّ جيشه أهل سبتة ومعهم القاضى عياض، ولما قتل تاشفين وقضى الموحدون على دولة المرابطين وفتحوا مدينتى فاس وتلمسان بايع أهل سبتة عبد المؤمن، ولقيه القاضى عياض فى مدينة سلا وهو يستعد لفتح مراكش فأجزل صلته، ولما انتفضت الأندلس على عبد المؤمن بسبب ثورة محمد ابن هود ثارت سبتة-برأى القاضى عياض كما قيل-وحاربها عبد المؤمن وعادت إلى الطاعة، واستدعى عبد المؤمن القاضى عياضا، فأخذ من سبتة إلى مراكش مغلولا سنة 542 للهجرة حتى إذا اجتمع بعبد المؤمن فى مراكش واستعطفه ببعض منظومه ومنثوره عفا عنه على أبرّ وجه وأكمله، وأمره بلزوم مجلسه، كما يقول ابنه، ومنزلته عنده تزداد كل يوم سموا ورفعة إلى أن توفى بمراكش سنة 544 هـ/1149 م. وكتب ابنه محمد فصلا عن مؤلفاته وأهمها: كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم ودوت شهرة هذا الكتاب فى العالم الإسلامى إلى اليوم، وكتاب ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك فى خمسة أسفار، وكتاب إكمال المعلم على صحيح مسلم، وهو زيادة فى الشرح على شرح المعلم بفوائد مسلم للإمام المالكى الصقلّى محمد المازرى دفين المنستير بتونس إلى غير ذلك من كتب نفيسة من أهمها كتاب له فى النقد والبلاغة سماه «بغية الرائد» كتب عنه الأستاذ محمد بن تاويت فصلا فى ترجمته

(1) راجع فى هؤلاء الشيوخ كتاب ابنه السابق ص 119 وما بعدها والجزء الثانى من أزهار الرياض فى مواضع متعددة.

ص: 519

بالجزء الأول من كتابه الوافى بالأدب فى المغرب الأقصى وهو يعرض فيه بعض صور النقد والمحسنات البديعية من مثل الجناس والطباق والترصيع. وكان له كتاب خطب ومواعظ دينية، وهو مفقود، وفى أزهار الرياض عن ابن خاتمة أن هذا الكتاب يشتمل على خمسين خطبة من خطب الجمعات، وروى له ابنه فى التعريف به خطبتين، يقول فى إحداهما حاضا على التقوى:

«أيها السامع قد أيقظك صرف (1) القدر من سنة (2) الهوى وسكراته، ووعظك كتاب الله بزواجره وعظاته، فتأمّل حدوده وتدبر محكم آياته {وَاُتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (3)} أين الذين عتوا على الله وتعظموا، واستطالوا (4) على عباده وتحكموا، وظنوا أن لن يقدر عليهم حتى اصطلموا (5)، {وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} غرّهم الأمل وكواذب الظنون، وذهلوا عن طوارق الغير (6) وريب المنون {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ} {حَتّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} فهذّبوا-رحمكم الله-سرائركم بتقوى الله وأخلصوا واشكروا نعمته {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها} واحذروا نقمته ولا تعصوا واعتبروا بوعيده {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اِهْتَدى} وأنهضوا لطاعته هذه الهمم العاجزة، واركضوا فى ميدان التقوى تحوزوا قصب خصله (7) الفائزة، وادّخروا ما يخلّصكم يوم المحاسبة والمناجزة، وانتظروا قوله:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} ذلك يوم تذهل فيه الألباب وترجف القلوب رجفا، وتبدّل الأرض وتنسف الجبال نسفا ولا يقبل الله فيه من الظالمين عدلا ولا حرفا وحشر المجرمون يومئذ زرقا {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا} فرادى {كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} إن أحسن الهدى هدى محمد نبيّنا وأصحابه، وأفضل الذكر ذكر الله وتلاوة كتابه، جعلنا الله وإياكم ممن اهتدى بهديه، وتأدّب بآدابه ومن الذين قالوا:{سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً} اللهم انفعنا بالكتاب والحكمة، وارحمنا بالهداية والعصمة وأوزعنا (8) شكر ما أوليت من نعمة {رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً} .

والعظة رائعة بما فيها من دعوة للتقوى وتحذير من وعيد الله ونقمته، ومن غرور بالأمانى

(1) صرف: أحداث.

(2)

سنة: غفلة.

(3)

ملتحدا: ملجأ.

(4)

استطالوا: تطاولوا واعتدوا.

(5)

اصطلموا: استأصلوا.

(6)

الغير: الأحداث.

(7)

خصله: فضله.

(8)

أوزعنا: ألهمنا.

ص: 520

والظنون الكاذبة والذهول عن يوم القيامة مع ما فى ذلك من كفران بنعمة الله ونعمه لا تحصى. وتتخلل العظة أو الخطبة الآيات القرآنية مؤكدة معانى عظته. ولغة العظة لغة جزلة مصقولة تشيع فيها مع الآيات ألفاظ قرآنية كثيرة. ويأسى من يقرأ هذه الخطبة وأختها الموجودتين فى كتاب التعريف بالقاضى عياض لضياع كتاب خطبه. والخطبة مسجوعة وكان يؤثر السجع فى خطبه وأيضا فى رسائله على نحو ما نرى فيما أثبته وسجّله منها ابنه محمد، من ذلك رسالة يعاتب فيها صديقين له:

«ليت شعرى أأعتب أم أعتب، وأعترف بالذنب أم أذنب، لا جرم لو علمت لنفسى جرما لجعلت عليها برد الشراب حراما، ولسلبتها لذيذ المنام غراما (1)، حتى يفئ إليها من وجد عليها (2)، ويرضى عنها المتظلّم منها، بعلائكما ما هذا الجفاء؟ وأين ما تدّعيانه من الوفاء؟ أحين جدّت بنا الحال وشدّت للنّوى الرّحال، ودعا بنا داعى الزّماع، ومجلت (3) عين ويد للوداع، اتخذتمانى ظهريّا، وصرت عندكما نسيا منسيّا، لا أعلم لكما علما، ولا ألقاكم إلا حلما، كأن شملنا لم يزل متصدّعا، وكأنا لطول افتراق لم نبت ليلة معا، ماذا يريب الغريب فى إغباب (4) الأحباب أمجالسة السلطان أو مؤانسة الأوطان، أبى المجد من ذلك وأبيت، ولنا يا بيت بالعلياء بيت، أم صدود وملال ينافيه ذلك الجلال، أم قلة احتمال، لما تشاهدانه من غلظ تلك الخلال، وقيتما! من الذى يعطى الكمال؟ أم ثمّ ذنب يوجب الصدود، ويودى بودّ الودود، أسمعاه، لأرجع إلى المتاب، عن العتاب، وأبادر بنفسى عوض الكتاب، فأعذر ولا أعذل (5) وأنصف من نفسى وأعدل والسلام» .

ونسيج الرسالة نسيج جيد من الألفاظ والأسجاع مع ما يزينها من الجناسات والاستعارات والكنايات، مما يدل-بوضوح-على أن القاضى عياضا كان يحبّر أعماله الأدبية من رسائل وغير رسائل. والرسالة تحمل بجانب ذلك حسّا مرهفا، لا بما يورد فيها من سجع قصير يطير عن الأفواه بخفة، بل بما يصور من حسه الدقيق، بمثل تعقيبه على ما يظن صاحباه به من غلظ الخلال بقوله وقيتما، ويستمر هذا الحس الدقيق فى بناء الكلم ببقية الرسالة، وبدون ريب كان القاضى عياض أديبا كبيرا. ومن طريف ما نقرأ له فى مقدمة كتاب الشفاء تحميده لربه وتمجيده لرسوله إذ يقول:

«الحمد لله المنفرد باسمه الأسمى، المختص بالملك الأعز الأحمى (6)، الذى ليس دونه منتهى

(1) غراما: عذابا وفى الأصل: عزما.

(2)

وجد عليها: غضب منها.

(3)

الزماع: المضىّ فى الأمر. مجلت: كلّت كناية عن الشيخوخة وفى الأصل: خجلت.

(4)

الإغباب: البعد فى الزيارة.

(5)

أعذل: ألوم.

(6)

الأحمى: الأمنع.

ص: 521

ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيّلا ولا وهما، الباطن تقدّسا لا عدما وسع كل شئ رحمة وعلما وأسبغ على أوليائه نعما عمّا (1)، وبعث فيهم رسولا من أنفسهم أنفسهم عربا وعجما، وأزكاهم محتدا ومنمى، وأرجحهم عقلا وحلما، وأوفرهم علما وفهما، وأقواهم يقينا وعزما، وأشدهم بهم رأفة ورحمى، زكّاه روحا وجسما، وحاشاه عيبا ووصما، وآتاه حكمة وحكما، وفتح به أعينا عميا وقلوبا غلفا (2) وآذانا صمّا، فآمن به وعزّره ونصره من جعل الله له فى مغنم السعادة قسما، وكذّب به وصدف (3) عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتما، {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى} صلّى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وسلّم تسليما».

والتحميد والتمجيد فى لغة عذبة سلسة، سواء فى الألفاظ أو فى الأسجاع القصار مع ما يزينها من الألفاظ والآيات القرآنية، وقد افتتح بهما كما أسلفنا كتابه الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم.

(ب) أبو جعفر (4) أحمد بن عطية

أول كتّاب المغرب الأقصى النابهين فى ديوان على بن يوسف بن تاشفين وابنه تاشفين، ويقال إنه ولد سنة 517 هـ/1123 م وكأنه كتب فى هذا الديوان قبل العشرين من عمره، وفيه تعرّف على تقاليد الكتابة الديوانية التى أرساها فى الديوان المغربى كتّاب الأندلس أبو بكر بن القصيرة وابن أبى الخصال وعبد المجيد بن عبدون وأضرابهم، ولما قضى الموحدون على دولة المرابطين فرّ وغيّر هيئته، وكان محسنا لرمى السهام، فانتظم فى الجيش الموحدىّ الذى خرج إلى مدينة سوس فى الجنوب لقتال ثائر هناك، وانتصر الجيش الموحدى وقتل الثائر وانهزم أنصاره، فطلب القائد أبو حفص عمر إينتى كاتبا يحسن عرض المعركة ليخبر بها رئيس الدولة عبد المؤمن ومن معه من الموحدين، فدلّ على أبى جعفر، وكتب له رسالة طويلة أعجبت عبد المؤمن، فاستدعاه، واستكتبه وزاده الوزارة إلى الكتابة، لما رأى عنده من شجاعة قلبه وحصافة رأيه، كما يقول المراكشى. ولم يزل وزيره إلى أن أغضبه فقتله، وفى كتاب المعجب أن سبب قتله أنه كان قد تزوج بنت أبى بكر بن يوسف بن ناشفين، وكان أخوها يحيى فارسا وأبلى بلاء شديدا فى مقاومة الموحدين، وانقاد لهم حين تمّ نصرهم وانضوى تحت لوائهم،

(1) نعما عما: نعما كثيرة.

(2)

غلفا: جمع أغلف: كأن على القلب غلافا.

(3)

صدف: أعرض.

(4)

انظر فى ترجمة أبى جعفر أحمد بن عطية كتاب المعجب لعبد الواحد المراكشى ص 266 - 269 والإحاطة لابن الخطيب 1/ 132 - 139 والنبوغ المغربى 2/ 166 والوافى 1/ 251 - وانظر فى رسائله مجموع رسائل موحدية من إنشاء كتاب الدولة المؤمنية (طبع الرباط).

ص: 522

فجعله عبد المؤمن قائدا على من دخل فى عقيدة الموحدين من لمتونة قومه، ولم يزل مكرّما عند عبد المؤمن إلى أن بلغته عنه أفعال وأقوال أحنقته عليه. وتحدث عبد المؤمن بذلك فى مجلسه فخشى أبو جعفر أحمد بن عطية على صهره يحيى من فتك عبد المؤمن به، فقال لزوجته قولى لأخيك يتحفّظ، وإذا دعوناه غدا فليظهر المرض، وإذا استطاع الفرار واللحاق بجزيرة ميورقة فليفعل (وكان صاحبها؟ ؟ ؟ ارجا على الموحدين). وتمارض يحيى وزاره بعض أصحابه فأسرّ إليه ما بلغه عن صهره أبى جعفر، فنقل الرجل ذلك إلى شخص من أبناء عبد المؤمن، فأمر بالقبض على أبى جعفر وأخيه أبى عقيل الكاتب ولم يلبث أن أمر بقتلهما سنة 553 هـ/1158 م، واعتقل يحيى وظل فى سجنه إلى أن مات، ولم تأخذ عبد المؤمن فى أبى جعفر وصاحبيه رأفة ولا شفقة ولا رحمة.

وأبو جعفر أحمد بن عطية يعدّ فى الذروة من كتّاب عبد المؤمن، ويشهد لذلك أن «مجموع رسائل موحدية من إنشاء كتاب الدولة المؤمنية» يشتمل على سبع وثلاثين رسالة، له فيها سبع عشرة رسالة، ولو أنه ظل حتى نهاية عبد المؤمن لتكاثرت رسائله فى تلك المجموعة، ومن رسائله خمس موجهة إلى طلبة سبتة من دعاة الموحدين بها، وهو دائما يبلغ أهلها فى تلك الرسائل انتصارات عبد المؤمن تلويحا لها بعد أن قامت بثورتها سنة 543 أن تلتزم بطاعة عبد المؤمن وعقيدة الموحدين وإلا أنزل بها عقابا أليما. وتبدأ هذه المجموعة للرسائل برسالة بقلم أبى جعفر بن عطية موجهة على لسان عبد المؤمن إلى طلبة سبتة كى يبلغوها أهلها، وفاتحتها على هذه الصورة:

«من أمير المؤمنين-أيّده الله بنصره وأمدّه بمعونته-إلى الطلبة (الدعاة) الذين بسبتة وجميع من فيها من الموحدين خاصة وعامّة-وفّقهم الله وسدّدهم-سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد فالحمد لله مولى الرّغائب، ومسنّى (1) الآمال والمطالب، وقابل توبة التائب، نحمده بما يتعيّن من حمده الواجب، ونصلّى على محمد نبيّه العاقب (2)، وعلى آله وصحبه أولى المفاخر السنيّة والمناقب. ونصل [بذلك] الرضا عن الإمام المعصوم، المهدى المعلوم، المحرز شرف المبادئ والعواقب، المجلّى بنوره الثاقب حجب الظلام الواقب (3). . وقد وصلنا بحمد الله إلى مرّاكش على أتمّ أحوال الظفر واليمن، وعدنا إليها تحت ظل السلامة التامة والأمن، بعد كمال الغزوة المباركة وتمامها، وإطفاء نار الفتنة ببرد الهدنة وسلامها، وإلصاق أنوف الكفرة المرتدين برغامها وقطع دابر القوم المجرمين. . وإن النعمة-وفقكم الله-بهذه الفتوح العميمة العامة شاملة على من أخذ بهذا الأمر العزيز (يريد دعوة الموحدين) ودان، وتزيّا بحلته البهية

(1) مسنى: ميسر.

(2)

العاقب: خاتم الرسل.

(3)

الواقب: الشامل.

ص: 523

فازدان، فهى الفتوح التى ظهر بها من آيات المهدىّ-رضى الله عنه-العجب العجاب، وفاض فيها من بركاته الفيض المنساب، ودرّت بها الأرزاق وانتشر الأمن وكرم المآب، وكان أمرها مخصوصا. بالمرتدين، الخاسرين، فمحقهم وطيسها الشديد الغلاّب، وليس لله على ذلك إلا الحمد والشكر والمتاب». ويقول عبد المؤمن فى الرسالة لأهل سبتة: حافظوا على القرآن والتوحيد.

وواضح أن عبد المؤمن ينعت الخارجين عليه بأنهم كفرة مرتدون، إذ ارتدوا عن دعوة الموحدين، وكأنما أصبحت هى الإسلام، فمن ارتد عنها ارتد عن الدين الحنيف. والرسالة فى أوائلها تدعو بالرضا عن الإمام المعصوم المهدى ابن تومرت الذى أخرج بدعوته الناس من الظلمات. وما تلبث الرسالة أن تذكر أن هذا الفتح وغيره من الفتوح إنما هو من بركاته.

وفى الرسالة الرابعة المكتوبة بقلم ابن عطية والموجهة إلى يحيى بن غانيّة صاحب جزر منورقة الرافض لدعوة الموحدين قطعة يصوّر عبد المؤمن له فيها ابن تومرت داعية الموحدين بهذه الصورة التالية:

«هذا الأمر (يريد دعوة الموحدين) -وفّقكم الله-هو أمر المهدى-رضى الله عنه- حقّ فتأمّل، ومع معالمه الجلاء فلا ظنّ ولا تخيل. والمهدى-رضى الله عنه-قد بشّر به النبى-صلى الله عليه وسلم-فى غير ما حديث، وظهرت علاماته وآياته فى قديم من أمره وحديث، ودلّ على اسمه وزمانه وفعله ومكانه بأدلة رفعت الإشكال والتعسف، فأتى-رضى الله عنه-كما نعت النبى عليه السلام-ووصف، وقال-صلى الله عليه وسلم-فيه وفى طائفته العزيزة ما قد ظهر ظهور الإشاعة والإذاعة، وقضى بوجوب الائتمار والائتمام والطاعة، وأخبر فى جملة ما أخبر به عنهم أنهم يقاتلون على الحق إلى قيام الساعة. . وقد تبيّن الصبح لذى عينين، وجدع الحق أنف الكذب والمين، وتجلت (1) الهداية ضد الضلال والرّين (2)» .

وعبد المؤمن فى هذه الرسالة ينعت ابن تومرت بما كان ينعت به عنده وعند دعاة الموحدين من تبشير النبى به ووصفه، وما أوجب للمهدى من اتباع دعوته، ومن لم يتبعها حكم عليه بالكفر والارتداد عن الدين الحنيف، ويقول إنهم مأمورون بالقتال عليها إلى قيام الساعة. ورسائل ابن عطية فى «مجموع رسائل موحدية» مكتوبة بلغة مروّقة صافية مع السهولة والسلاسة وقصر الأسجاع فى جوانب كثيرة من الرسائل، مع تضمينها صورا من الاستعارات ومن المحسنات البلاغية. واحتفظ له ابن القطان فى كتابه نظم الجمان برسالة كتبها على لسان عبد المؤمن من تينملل حين زار قبر المهدى فيها لشهر ربيع الأول سنة 645 وهى أشبه

(1) فى الأصل: جلت.

(2)

الرين: الدنس.

ص: 524

بدستور لحكم أمراء الولايات المختلفة وأنه ينبغى أن يقوم على العدل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وقد أرسلت نسخ منها إلى جميع الولاة. وحين زجّ به عبد المؤمن فى السجن أرسل إليه يستعطفه برسالة مشهورة استهلها بأبيات يسترحمه فيها وتلتها الرسالة على هذه الصورة (1):

«تالله لو أحاطت بى كلّ خطيئة، ولم تنفك نفسى عن الخيرات بطيئة، حتى سخرت بمن فى الوجود، وأنفت لآدم من السجود، وقلت إن الله لم يوح، فى الفلك إلى نوح، وأبرمت لاحتطاب نار الخليل حبلا، وبريت لقدار ثمود نبلا، وحططت عن يونس شجرة اليقطين، وأوقدت مع هامان على الطين، وقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، وافتريت على العذراء البتول فقذفتها، وكتبت صحيفة القطيعة بدار النّدوة، وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة، وأبغضت كل قرشى، وأحببت لأجل وحشىّ كل حبشى، وقلت إن بيعة السقيفة لا توجب إمامة خليفة، وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة، واعتلقت من حصار الدار وقتل أشمطها بشعبة، وقلت تقاتلوا رغبة فى الأبيض والأصفر، وسفكوا الدماء على الثّريد الأعفر، وغادرت الوجه من الهامة خضيبا، وناولت من قرع سنّ الحسين قضيبا، ثم كنت بحفرة المعصوم لائذا، وبقبر المهدى-رضى الله عنه عائذا، لقد آن لمقالتى أن تسمع، وأن تغفر لى هذه الخطيئات أجمع، مع أنى مقترف، وبالذنب معترف:

وعفوا أمير المؤمنين فمن لنا

بردّ قلوب هدّها الخفقان

والسلام على المقام الكريم ورحمة الله وبركاته».

وهو يقول لعبد المؤمن لو أنى سخرت بكل من فى الوجود من خلق الله، واستنكفت لإبليس من سجوده لآدم وأنكرت أن الله أوحى إلى نوح فى فلكه ما أوحى، وأبرمت حبلا للمحتطبين لنار إبراهيم الخليل، وبريت لقدار ثمود عاقر الناقة نبلا، وحططت عن يونس شجرة اليقطين التى أنبتها الله لتظله، وأوقدت مع هامان لفرعون على الطين ليبنى له صرحا حتى يرى ربه كما زعم، ولو أنى السامرى الذى قبض على شئ من دين موسى ثم كفر به ونبذه ودفع بنى إسرائيل لعبادة العجل فى غيبة موسى، وكذبت على السيدة مريم العذراء البتول فقذفتها، وكتبت صحيفة المقاطعة بين قريش وبين الرسول وصحبه قبل هجرته، وظاهرت الأحزاب وعاونتهم فى حصار المدينة، وأبغضت كل قرشى وأحببت لأجل وحشى

(1) انظر فى هذه الرسالة كتاب روض القرطاس لابن أبى زرع (طبع الرباط) ص 196 وكتاب النبوغ المغربى للأستاذ كنون 2/ 166 وراجع ترجمة ابن عطية فى الإحاطة.

ص: 525

الحبشى قاتل حمزة بن عبد المطلب فى غزوة أحد كلّ حبشى، وقلت إن بيعة السقيفة لا توجب إمامة أبى بكر وخلافته، ولو أنى شحذت شفرة خنجر غلام المغيرة بن شعبة طاعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أو لو أنه تعلق بشعبة فى حصار عثمان من شعب الدار وقلت تقاتلوا على الدرهم والدينار وسفكوا الدماء وتركت الوجه الكريم لعلى بن أبى طالب خضيبا بالدماء، وناولت يزيد بن معاوية قضيبا ليقرع السن-كما قيل-فى ثغر الحسين. لو أنه صنع شيئا من ذلك ثم لاذ بحفرة ابن تومرت وقبره لقد آن أن تسمع لقولى وتغفر لى خطيئاتى وتعفو عنى. ولم يلن له قلب عبد المؤمن بل ازداد قسوة وأمر بقتله. ولا يقلل من روعة هذه الرسالة أنه استوحاها من الرسالة الجدية لابن زيدون، والحق أنه كان كاتبا بارعا وأن رسائله تعد فى الذروة من النثر المغربى فى مختلف عصوره.

(ج) ابن (1) بطوطة

هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد اللّواتي الطنجى المشهور باسم ابن بطوطة، ولد فى طنجة سنة 703 هـ/1304 م لأسرة كانت تشتغل بالفقه والدراسات الدينية وكانت فى بسطة وسعة من العيش، واهتم أبوه-وكان فقيها-بتربيته فحفظ القرآن، ودفعه لدراسة الفقه المالكى واستوعب ما عند شيوخه فى نحو العشرين من عمره، وطمحت نفسه لقضاء فريضة الحج، فخرج من بلده فى الثانية والعشرين من سنه مع رفقة، واتجه معها شرقا إلى الجزائر ونزل؟ ؟ ؟ سنتها الشمالية، وتنقل بين رفاق حتى تونس وفيها رأى الالتحاق بقافلة من قوافل الحجاج، وعرفوا فيه فقهه فأقاموه قاضيا بينهم، ونزلت القافلة الإسكندرية فطاف بمشاهدها وزار علماءها وعبّادها وتعرّف على ناسك زاهد يسمى «الشيخ خليفة» وقال له: إنّي أراك تحب السياحة والجولان فى البلاد فأجابه: نعم. فقال له: «لا بد لك-إن شاء الله-من زيارة أخى فريد الدين بالهند وأخى ركن الدين زكريا بالسند وأخى برهان الدين بالصين، فإذا بلغتهم فأبلغهم منى السلام» فعجب ابن بطوطة من قوله وكأنما تنبأ له أنه سيصبح رحالة كبيرا يطوف بلدان العالم الإسلامى حتى أقصاها وأنه سيمد رحلاته إلى الهند والصين. وترك الإسكندرية ميمما وجهه نحو القاهرة ولم يذهب إليها مباشرة إذ طاف قبلها ببعض البلاد فى الوجه البحرى مثل دمنهور وفوّة بالقرب من رشيد ودمياط والمحلة الكبرى. وفى فوة تعرف على شيخ صالح يسمى أبا عبد الله المرشدى، وأكرمه وبات على سطح زاويته، فرأى فى منامه حلما عجيبا: أنه على جناح طائر عظيم، يطير به فى سمت القبلة يتيامن ثم

(1) انظر فى ابن بطوطة ورحلته النبوغ المغربى 1/ 222 ورحلة ابن بطوطة للدكتور شاكر خصباك (طبع بغداد) وابن بطوطة ورحلاته: تحقيق ودراسة وتحليل للدكتور حسين مؤنس (طبع دار المعارف بالقاهرة).

ص: 526

يشرّق ثم يذهب فى ناحية الجنوب ثم يبعد فى طيرانه إلى ناحية الشرق وينزل فى أرض مظلمة خضراء ويتركه بها. ويقص حلمه على الشيخ ويطلب إليه تأويله، فقال له: سوف تحج وتزور النبى صلى الله عليه وسلم وتجول فى بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك وبلاد الهند وتظل بها مدة طويلة.

وكان هذا التفسير لحلم ابن بطوطة وما حمله له الشيخ خليفة من السلام إلى إخوة له فى الهند والسند والصين إرهاصا ليصبح رحّالة بل ليصبح أعظم رحالة عرفه العرب فى تاريخهم الوسيط. ونزل القاهرة والفسطاط، ثم أخذ طريقه إلى الحج عن طريق الصعيد وعيذاب على البحر الأحمر وفيها رأى الطريق البحرى إلى جدّة معطّلا لخروج قبائل البجّة على سلطان مصر محمد الناصر بن قلاوون، فعاد إلى الفسطاط، واتجه إلى صحراء سيناء وتجول فى بلاد الشام من بيت المقدس ومعان إلى حلب، وخرج من الشام مع ركب من الحجاج إلى المدينة المنوّرة فمكة، واتجه بعد أداء فريضة الحج إلى العراق وغربى إيران ونزل فى النجف وواسط والبصرة وشيراز فى إيران وبغداد وبلدان الموصل. وحج حجته الثانية وأقام بمكة سنة، ورأى أن يزور اليمن وطاف ببعض بلدانها وعبر البحر إلى أفريقيا الشرقية وزار الصومال وزيلع ومقدشو، وعاد إلى الجزيرة العربية مارا بشواطئها الجنوبية وظفار وعمان ودخل الخليج العربى وبعض بلدانه. وحج حجته الثالثة واتجه بعدها إلى مصر، ولم يلبث أن رحل إلى آسيا الصغرى حيث بلدان السلاجقة وأمراء الدولة العثمانية الأوائل، وأبحر إلى شبه جزيرة القرم وكانت تابعة لسلطان مغول القفجاق محمد أوزبك وتجول فى بلاده وفى بلاد القوقاز والبلغار، ورغب فى أن يدخل بلاد الظلمة (روسيا) وعدل عن ذلك. وأنس به السلطان محمد أوزبك ويعدّه من أعاظم ملوك الدنيا، وأرسله فى ركب مع زوجته بنت ملك الروم لزيارة أبيها فى القسطنطينية فتعرف على بلدان الدولة البيزنطية. ويرحل إلى خوارزم، ويدخل سمرقند، ويتجوّل فى بلدان خراسان مثل بلخ وبخارى وبلاد أفغانستان مثل هراة، ويدخل إلى الهند فى سنة 734 هـ/1333 م ويكرمه سلطان السند أو البنجاب محمد شاه ويوليه قضاء دهلى ويقيم بها ثمانى سنوات. وأرسله السلطان فى وفد بهدية إلى ملك الصين، وأبحر إلى قاليقوط إحدى ثغور الهند فى الغرب، وهبت عاصفة أغرقت المركب وأسرته والهدية، ولم يرجع إلى السلطان، ورحل إلى جزائر ذيبة المهل (الملديف) جنوبى الهند، وتولّى القضاء بها عاما وبعض عام، وتركها إلى الصين عن طريق جزيرة سيلان والبنغال، ويركب البحر وينزل سومطرة وجاوة، ثم يتجه إلى الصين ويتجول فى بلدانها، ويعود إلى سومطرة ويمر بإيران والعراق والشام ومصر، ويبحر من عيذاب لقضاء العمرة. ويصمم على العودة إلى موطنه، ويصل إلى تونس ويركب منها البحر إلى الجزائر ويمر بسردانية وبتلمسان، ويصل إلى فاس سنة 750 ويرحب به سلطانها أبو عنان ويلحقه بحاشيته. ولا يلبث أن يزور الأندلس ويتجول فى بلدان إمارة بنى

ص: 527

الأحمر بغرناطة، ويعود منها عازما على زيارة السودان الغربى، ويدخل الصحراء إليه سنة 753 ويتجول فى بلدان مالى ويصل إلى تمبكتو على النيجر، ويعود فى أواخر سنة 754 إلى المغرب. وكان السلطان أبو عنان معجبا أشد الإعجاب بما يقصه عن رحلاته فأمر كاتبه ابن جزىّ أن يساعده فى كتابة رحلته التى سماها:«تحفة النظّار فى غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» . ونجد ابن جزىّ يقول فى آخرها: «انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبى عبد الله محمد بن بطوطة» وكان فراغه من هذا التلخيص فى شهر صفر سنة 757 هـ/فبراير 1356 م. ويبدو أن ابن بطوطة كان قد قيد رحلته فى أسفار كثيرة وأن ابن جزى لخصها مما جعل بعض الباحثين يظن أنها من تحريره. وابن جزى نفسه يعترف بأن كل ماله إنما هو تلخيص واختصار لجوانب من تفاصيلها الكثيرة، ولذلك نذهب إلى أنها مكتوبة فى جملتها بأسلوب ابن بطوطة نفسه، ونعدّه لذلك من كبار كتاب المغرب الأقصى. وهو لا يدخل بلدة إلا وصف سورها إن كان لها سور مثل الإسكندرية ودورها ومطاعم أهلها وملابسهم وأسواقها ومدارسها وعلماءها ونسّاكها وحكامها وعادات سكانها وتجاراتها وزروعها وعملتها وكل ما يتصل بها، وكيف لابن جزى بوصف ذلك وهو لم يشاهد شيئا منه. وكانت فيه نزعة دينية قوية فأطال الحديث عن الزوايا والنساك والأولياء وأصحاب الكرامات، ونقتطف بعض ما جاء فى رحلته الضخمة، فمن ذلك قوله عن مصر:

«أم البلاد، وقرارة فرعون ذى الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة، والبلاد الأريضة (ذات المزارع والرياض الجميلة) المتناهية فى كثرة العمارة، المتباهية بالحسن والنضارة، مجمع الوارد والصادر، ومحطّ رحل الضعيف والقادر، بها ما شئت من عالم وجاهل، وجادّ وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف، وتموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم على سعة أماكنها ومكانها، وشبابها يجدّ على طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح عن منزل السعد» . والسجع قليل فى الرحلة، إذ لا يعدو المقدمة وكلمات قليلة تقال فى وصف بعض البلدان، والأسلوب العام أسلوب مرسل طليق اختاره ليكون دقيقا وواضحا فى وصف مشاهداته.

ويقول عن أهل مصر إنهم «ذوو طرب وسرور ولهو» أما المدارس فلا يحيط أحد بها لكثرتها، ويشيد بمارستان قلاوون وأن الواصف يعجز عن بيان محاسنه إذ أعدّ فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر، ويقول إن مجباه (ما يجبى إليه وينفق عليه) ألف دينار كل يوم. ويقول إن الزوايا الخاصة بالزهاد والمتصوفة تكثر فى مصر كثرة مفرطة. وينزل آسيا الصغرى ويتجول فى بلدانها ويصف مشاهدها ومساجدها ومدارسها وحماماتها ويتحدث عن حكامها من السلاجقة والعثمانيين، ويعجب فيها بنظام للفتوة يقوم به فتيان على حسن الضيافة وإيواء

ص: 528

الغريب. ووجدهم فى كل بلدة يتخذون لهم رئيسا كما يتخذون مقرّا يتعاونون فيه على البر بالضيف وإكرامه، وكان هذا النظام للفتوة هناك يسمّى «الأخيّة» ويصفه قائلا:

ذكر الأخيّة الفتيان: واحد الأخيّة أخى على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية، فى كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد فى الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدى الظّلمة. والأخى عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم من الشبان الأعزاب والمتجرّدين ويقدمونه على أنفسهم، وتلك هى الفتوة. ويبنى زاوية ويجعل فيها الفرش والسّرج وما يحتاج إليه من الآلات، ويخدم أصحابه بالنهار فى طلب معايشهم، ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم، فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق فى الزاوية، فإن ورد فى ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم. وكان ذلك ضيافته لديهم، ولا يزال عندهم حتى ينصرف. وإن لم يرد وارد اجتمعوا على طعامهم، فأكلوا وغنّوا ورقصوا، وانصرفوا إلى صناعتهم بالغدوّ (صباحا) وأتوا بعد العصر إلى مقدّمهم بما اجتمع لهم، ويسمّون الفتيان، ويسمى مقدمهم- كما ذكرنا-الأخى. ولم أر فى الدنيا أجمل أفعالا منهم، ويشبههم فى أفعالهم أهل شيراز وأصفهان (فى غربى إيران) إلا أن هؤلاء أحبّ فى الوارد والصادر، وأعظم إكراما وشفقة. وفى اليوم الثانى من يوم وصولنا. . أتى أحد هؤلاء الفتيان إلى الشيخ شهاب الدين الحموى (رفيق لابن بطوطة) وتكلم معه باللسان التركى، ولم أكن يومئذ أفهمه (إذ تعلّمه فيما بعد) وكان عليه أثواب خلقة، وعلى رأسه قلنسوة لبد (صوف) فقال لى الشيخ أتعلم ما يقول الرجل فقلت: لا أعلم ما قال، فقال لى: إنه يدعوك إلى ضيافته أنت وأصحابك فعجبت منه وقلت له: نعم. فلما انصرف قلت للشيخ: هذا رجل ضعيف ولا قدرة له على تضييفنا ولا نريد أن نكلفه، فضحك الشيخ، وقال لى هذا أحد شيوخ الفتيان الأخيّة، وهو من الخرّازين (إسكافى) وفيه كرم نفس وأصحابه نحو مائتين من أهل الصناعات قد قدّموه على أنفسهم، وبنوا زاوية للضيافة، وما يجتمع لهم بالنهار ينفقونه بالليل. فلما صلّيت المغرب عاد إلينا ذلك الرجل وذهبنا معه إلى زاويته، فوجدناها زاوية حسنة مفروشة بالبسط الرومية الحسان، وبها الكثير من ثريّات الزجاج العراقى، وفى المجلس خمسة من البياسيس، والبيسوس شبه المنارة من النحاس، وله أرجل ثلاث، وفى وسطه أنبوب للفتيلة، ويملأ من الشّحم المذاب، وإلى جانبه آنية نحاس ملأى بالشحم وفيها مقراض لإصلاح الفتيل، وأحدهم موكّل بها، ويسمّى عندهم الجراغجى. وقد اصطفّ فى المجلس جماعة من الشبان، لباسهم الأقبية وفى أرجلهم الأخفاف (جمع خفّ) وكل واحد منهم متحزم، وعلى وسطه سكين فى طول ذراعين، وعلى رءوسهم قلانس بيض من الصوف، بأعلى كل قلنسوة قطعة موصولة بها فى

ص: 529

طول ذراع وعرض إصبعين، فإذا استقرّ بهم المجلس نزع كل واحد منهم قلنسوته ووضعها بين يديه، وتبقى على رأسه قلنسوة أخرى من الزردخانى (ضرب من الحرير) وسواه حسنة المنظر، وفى وسط مجلسهم شبه مرتبة موضوعة للواردين. ولما استقرّ بنا المجلس عندهم أتوا بالطعام الكثير والفاكهة والحلواء، ثم أخذوا فى الغناء والرقص فراقنا حالهم، وطال عجبنا من سماحتهم وكرم أنفسهم، وانصرفنا عنهم آخر الليل».

وبهذا الأسلوب المرسل فى حبكة السرد ودقة الوصف تتميز كتابة ابن بطوطة فى رحلته، ويقول إنه كان بعد ضيافته فى هذه الزاوية كلما نزل من بلاد الأناضول سأل عن الأخيّة، وأحيانا كانوا لا ينتظرون حتى يسأل عنهم، بل يسرعون إليه، وتتعارك جماعاتهم عليه. ويذكر صناعاتهم وحاكم كل بلدة ومن حوله من الفقهاء والعلماء وما منحه من الهدايا والصلات، ودائما-كعادته فى كل بلدة نزلها-يذكر حكايات النسّاك ومن فيها من أصحاب الكرامات المسمون بالأولياء. وينتقل إلى شبه جزيرة القرم وبلدان مغول القفجاق وسلطانها: محمد أوزبك وذهابه لزيارته فى عاصمته «السرا» شمالى بحر خوارزم وكان معسكرا بجيشه قريبا منها، وركب إليه مع حاكم شبه جزيرة القرم عربة تجرها الجياد «وعلى العربة شبه قبة من قضبان خشب مربوط بعضها إلى بعض بسيور جلد رقيق، وهى خفيفة الحمل وتكسى باللبد (الصوف) أو الملف (الجوخ)، وفيها طيقان مشبكة ويرى الذى بداخلها الناس ولا يرونه، ويتقلب فيها كما يحب، وينام، ويأكل، ويقرأ، ويكتب وهو فى حال سيره» .

ووصل إلى معسكر السلطان وقال إنه يشبه مدينة عظيمة تسير بأهلها، ففيه المساجد والأسواق والمطابخ، وكل ذلك تحمله وتجره العربات. ودخل على السلطان محمد أوزبك فأكرمه. ويعده من أعاظم ملوك الدنيا، ويصف مجلسه الذى كان يتخذه فى كل يوم جمعة بعد الصلاة يقول:«إنه يجلس فى قبة تسمى قبة الذهب، مزينة بديعة، وهى من قضبان خشب مكسوة بصفائح الذهب، وفى وسطها سرير من خشب مكسو بصفائح الفضة المذهبة وقوائمه فضة خالصة ورءوسها مرصعة بالجواهر، ويقعد السلطان على السرير، وعلى يمينه زوجتان وكذلك على يساره، وكلما جاءت إحداهن قام لها السلطان وأخذ بيدها حتى تصعد على السرير، وهذا كله على أعين الناس دون احتجاب» . ويفيض فى الحديث عن كل زوجة وجواريها، ومماليكها وما أهدينه. ويعرف السلطان رغبته فى زيارة بلدان البلغار فيرسل معه من يهديه الطريق، وحاول أن يدخل فى إقليمى ويسوا ويورا (روسيا) فى شمال البلغار حتى المحيط المتجمد الشمالى ويسميها أرض الظّلمة. ويعدل عن ذلك لعظم المئونة. ومن طريف ما قاله عنها مما سمعه من الناس: أن السفر إليها لا يكون إلا فى عجلات صغار تجرّها كلاب كبار، فإن تلك المفازة فيها الجليد فلا يثبت فيها قدم الآدمى ولا حافر الدابة، والكلاب

ص: 530

لها الأظفار فتثبت أقدامها فى الجليد». ويصف العجلات التى تجرها الكلاب ومسيرتها. فحتى ما يسمعه عن بعض الأقاليم يعرف كيف يقصّه بدقائقه. وتزور إحدى زوجات محمد أوزبك أباها ملك القسطنطينية فيرسله فى رفقتها يتجول فى بلدان تلك الدولة، ويعود إلى حاضرة السلطان، وينوه بفقيه يسمى نعمان الدين الخوارزمى كان السلطان يزوره كل يوم جمعة فلا يقوم إليه ويقعد السلطان بين يديه ويتواضع إليه والشيخ يترفّع عليه حتى إذا حضره المساكين والفقراء تواضع لهم وكلمهم بألطف كلام.

ويطوف ابن بطوطة ببلدان سلاطين المغول فى التركستان ويمر ببلدان خراسان وأفغانستان إلى الهند، وعيناه الواسعتان ترصد وتسجل كل ما بها من أنهار وغروس وأشجار وحبوب وفواكه. ويعرض سكانها بعاداتهم وحكامها وضيافتهم له. ويعجب لحرق الهندوس لموتاهم بالنار وتحريق النساء مع أزواجهنّ حين يموتون وتقربهم إلى إلههم بالغرق فى نهر الكنج المقدس، ولا يكتفى برواية ذلك بل يعرض فى تفصيل مشاهد من ذلك عرضا بديعا. ويحتفى به الأمراء والقضاة والفقهاء فى بلاد الهند حتى يصل إلى دهلى (دلهى) ويصف سورها ومزاراتها وجامعها ويذكر أن به ثلاث عشرة قبة وأربعة من الصحون، وفى صحنه الشمالى صومعة (مئذنة) لا نظير لها فى بلاد الإسلام ورأسها من الرخام الخالص وتفاحاتها (رءوس أعمدتها) من الذهب الخالص وسلمها واسع بحيث تصعد فيه الفيلة. ويتحدث عن علماء دهلى ونسّاكها وتاريخها منذ فتحها المسلمون وسلاطينها حتى سلطانها الأخير لأيامه محمد شاه، كما يتحدث عن هذا السلطان وقصره ومجلسه وكثرة ما بخزائنه من الحلى والذهب، ويقول إن سريره أو عرشه من الذهب الخالص وأن قوائمه مرصعة بالجواهر، وأن طوله ثلاثة وعشرون شبرا، وعرضه نصف ذلك، ويطيل وصفه. ويخلع عليه الخلع السنيّة وينعم عليه بوظيفة القضاء فى عاصمته، ويظل يتولاها ثمانى سنوات كما مرّ بنا. ويتحدث عن انتشار السحر فى الهند ويذكر ما رآه من عجائب فيها. وينزل جزائر ذيبة المهل (الملديف) ويفصل القول عن سكانها وملابسهم وعاداتهم فى الزواج وغير الزواج. ويتجه إلى الصين وينزل سومطرة أو بلاد الجاوة ويصف بعض أشجارها مثل اللبان والكافور والعود الهندى والقرنفل، وفيها جميعا يقول:

«شجرة اللّبان صغيرة تكون بقدر قامة الإنسان إلى ما دون ذلك وأغصانها كأغصان الخرشف (الخرشوف) وأوراقها صغار رقاق، واللبان صمغية تكون فى أغصانها. وأما شجرة الكافور فهى قصب كقصب بلادنا، إلا أن الأنابيب منها أطول وأغلظ، ويكون الكافور فى داخل الأنابيب. وأما العود الهندى فشجره يشبه شجر البلوط إلا أن قشره رقيق، وأوراقه كأوراق البلوط سواء ولا ثمر له. وأما أشجار القرنفل فهى ضخمة، والمجلوب منها إلى بلادنا هو العيدان، والذى يسميه أهل بلادنا نور القرنفل فهو الذى يسقط من زهره وهو شبيه بزهر النارنج، وثمر القرنفل هو المعروف فى بلادنا بجوز الطيب، رأيت ذلك كله وشاهدته» .

ص: 531

وينزل الصين ويقول: فى كل مدينة منها حى للمسلمين ينفردون فيه بسكناهم ومساجدهم، ويقول إن لكل شخص من أهل الصين عكازا يعتمد عليه فى المشى، ويذكر أن الحرير عندهم كثير جدا وأنهم لا يتبايعون بالدينار والدرهم إنما بيعهم وشراؤهم بورق كل قطعة منه بقدر الكف مطبوعة بطابع السلطان (وهم بذلك أول من تعامل بأوراق نقدية) وينوّه ببراعتهم فى التصوير ويطيل الحديث فى ذلك، وقال إنهم يتخذون بيوتا لذوى العاهات. ويقص ما شاهده من عجائب هناك. ويعود من الصين إلى موطنه بعد أن أدّى فريضة الحج، ويرحل رحلته الثانية إلى الأندلس ثم رحلته الثالثة إلى السودان الغربى على المحيط الأطلسى.

والرحلة تصور العالم الإسلامى فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى أروع تصوير لا بقلم كاتب كبير فحسب بل بريشة فنان بارع وقد اهتم بها المستشرقون فنشروها مع ترجمتها للغاتهم كما نشروا منها قطعا أو أقساما مع ترجمتها والتعليق عليها.

(د) محمد (1) بن على الفشتالى

من قبيلة فشتالة التى كانت تنزل فى الشمال الغربى لمدينة فاس، وهى قبيلة صنهاجية وقد ولد بها سنة 956 هـ/1549 م وتركها مبكرا للتزود من حلقات العلماء فى فاس، وتفتحت موهبته الأدبية سريعا، فكان شاعرا كاتبا وعمل فى دواوين الدولة السعدية، وعرف المنصور الذهبى فضله، فما زال يرقى به حتى أسند إليه رياسة القلم بديوانه، واستعان فيها ببلديّه ومواطنه عبد العزيز الفشتالى، وهو يثنى عليه كثيرا فى كتابه:«مناهل الصفا» وكان المنصور الذهبى يأنس إليه، ففسح له فى مجالسه الأدبية والعلمية وشارك فيما كان بها من مساجلات، وكان ما يزال ينظم فيه مدائح بديعة فى مقدمتها مولدياته التى كان يلقيها فى احتفال المنصور بالمولد النبوى الشريف، وفيه يقول أحمد بن القاضى فى كتابه: درة الحجال: «وزير القلم الأعلى الأديب البليغ الشهير الذكر بالمغرب، وهو علم فى الفضيلة والسراوة (2) ومكارم الأخلاق وكرم النفس، واسع الإيثار، متين الحرمة، عالى الهمة، كاتب بليغ أديب شاعر، حسن الخط، فصيح اللسان، مؤثر لأهل العلم والأدب» . ويذكره فى كتابه المنتقى مرارا بمثل قوله: «وزير القلم الأعلى، وحائز القدح (3)، المعلى، الكاتب الأعظم، والخضمّ المفخّم، الناظم الناثر، وحائز قصبات السبق فى الدفاتر» . وكلفه المنصور الذهبى بسفارة إلى الخليفة العثمانى مراد بن السلطان سليم فأداها على خير وجه، وتعرف فى أثناء ذلك على الخفاجى

(1) انظر فى ترجمة محمد بن على الفشتالى كتاب درة الحجال 2/ 190 والمنتقى 1/ 329 وريحانة الألباء للخفاجى ص 148 - 161 والنبوغ المغربى 1/ 275 لكنون وكتابه رسائل سعدية والوافى 3/ 692.

(2)

السراوة: الشرف.

(3)

القدح المعلى: أكثر أقداح القمار نصيبا ويكنى به المكانة الرفيعة.

ص: 532

صاحب كتاب الريحانة وانعقدت بينهما صداقة مما جعل الخفاجى-وقد أعجب به-يترجم له فى كتابه، وفيه يقول:«وزير مولاى أحمد (المنصور) أديب فاس، وريحانة فضلائها الأكياس (1)، تقدم فيها متقلدا قلادة إنشائها، فائقا برسائله على سائر أدبائها. . وله ماء شعر تشربه أفواه الأسماع، ورياض منثور تغرّد حمائم قوافيه بمطرب الأسجاع. ويحتفظ كتاب «رسائل سعدية» بكثير من رسائله إلى البلدان المغربية وباشوات الدولة العثمانية ووزرائها والجيش الجزائرى. ويقول الأستاذ كنون فى تقديمه لتلك الرسائل إن لمحمد بن على الفشتالى منها 18 فصلا ومكتوبا، من ذلك رسالة إلى أهل فاس أهل الحضرة السعدية يخبرهم فيها بفتوح السودان سنة 698 للهجرة قائلا (2):

«أما بعد حمد الله الواسع الجود والعطاء، المصرّف الأقدار على حكم السرعة من إرادته والإبطاء، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذى سنّ تجهيز البعوث لتدويخ الأقطار، بتوالى تكاثف القبائل والقطار (3)، والرّضا عن آله وصحبه الذين اقتفوا من ذلك أوضح سبيل، واغتنموا نشر نسيمه البليل، والدعاء لهذا الأمر الكريم (الفتح) بما يزيده عزّا وظهورا، ويجعله فى عين الوجود نورا، فإنا كتبناه إليكم من حضرتنا العليّة، ومجمع المفاخر القريبة والقصيّة: حمراء مرّاكش، حرسها الله. هذا وإنّا ننهى إليكم-عرّفكم الله عوارف آلائه الجسام، وأطلع عليكم أوجه البشائر واضحة القسام-بأنه لما انصبّ عزمنا الميمّن فى سالف التاريخ، وتاقت هممنا العلية لتدويخ بلاد السودان بأتمّ وجوه التدويخ، وجّهنا من عساكرنا الكثيفة، ذات الأنفس الأبية المنيفة (4)، جملة يتكفّل معها الإسعاد، بكمال المراد، ونبذة نشرت عليها من ألوتينا الظافرة كلّ فتخاء (5) قاهرة، أطارها اليمن كلّ مطار، ولجّج بها الإقبال لجج القفار، تخوض آلا (6) تتراكم أمواجه، وتفتح بابا طالما طلسم رتاجه (7)، فاقتحم العساكر أحياء وحللا (8) وارتدى من المهابة وبعد الصيت برودا وحللا، حتى أدخل ربقة (9) طاعة هذه الإيالة (10) من الشعوب الصحراوية، والقبائل الوبريّة من أعاريب الكراع (11)، التى لم ترتض بولايته ولا طاعته، جموعا كثيرة ينتهى التعداد بهم على حكم ما أدّوه من الزكاة الشرعية لستة وأربعين ألف خيمة. وهذه الجملة بالنسبة إلى ما وراءها من القبائل العربية الوحشية بعض من كلّ، وجزء من جلّ. وانتهى الغوص والإبعاد، بما وجّهناه من الأجناد،

(1) الأكياس، جمع كيس: الحصيف.

(2)

رسائل سعدية ص 192.

(3)

القطار: قوافل الإبل على نسق منتظم.

(4)

المنيفة: المتسامية.

(5)

فتخاء: عقاب.

(6)

آلا: سرابا.

(7)

الرتاج: الباب العظيم.

(8)

الحلل جمع حلة: مجتمع البيوت والناس.

(9)

ربقة: حبل.

(10)

الإيالة: إقليم من أرض الدولة.

(11)

الكراع: عدة الجيش من الخيل والسلاح.

ص: 533

بعد مقربة من ثمانين مرحلة فى المفاوز الصعبة المجاز إلى بلاد السودان، والأنحاء التى جنا (1) طاعتها لهذه الإيالة-إن شاء الله-دان، فتناهضت أجناسهم للدفاع، بحكم التأليف والاجتماع، بما ينيف (2) على أربعين ألف مقاتل ما بين حشود الأعراب وأخلاط الأتباع، وجيوش السودان، فانتفخ هرّهم ليصول، وانتفض بومهم يشير للعقبان بالنزول، فما كان إلا اجتماع الفريقين، وتدافع الجانبين. والغرض أن أنصار هذه المثابة وحماتها قد مسّهم النّصب بأوجه التأثير، وأفنى جلّ خيلهم مواصلة المسير، حتى إنهم لم يتوفر من أعدادهم حين الالتحام، مع الأشقياء أبناء حام، سوى سبعمائة رام، وقرب عشرين فارسا، وكان كلهم بالمكافحة والمنازلة ممارسا، فهبّ عليهم من رياح النصر كل صبا، واتخذوا الشهامة والجلاد سبيلا ومذهبا، فخفقت الألوية العلويّة بالنّصر والظّفر، وانبتّ (3) -بحمد الله-سلك انتظامهم وانتثر، وأتى الحين والأسر على جموعهم فى الحين {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} .

وإنما ذكرنا هذه الرسالة يتمامها لندل على أسلوب محمد بن على الفشتالى المسجع، وأنه كان يمتلك ناصية اللغة بما يؤلف من الألفاظ المصقولة الرصينة، كما كان يعنى أحيانا بالجناس والاستعارات الملائمة كاستعارة العقبان لجنود جيشه، وعبر عن سلوكهم الصحراء الجنوبية بأنهم «فتحوا بابا طالما طلسم رتاجه، فاقتحم العسكر أحياء وحللا، وارتدى من المهابة وبعد الصيّت برودا وحللا» . ويقول عن أهل السودان الغربى فى محاولتهم منازلة جند المنصور: «انتفخ هرّهم وانتفض بومهم يشير للعقبان (جنود المنصور) بالنزول» . ولعل فى هذه الاستعارات وما يماثلها فى الرسالة ما يدل على أن الفشتالى كان يمتلك ذهنا خصبا. ومن رسائله رسالة بلسان المنصور يعزى فيها رئيس وزراء الدولة العثمانية سنان باشا فى وفاة السلطان مراد خان، وهى تستهل على هذه الصورة:

«الوزارة العظمى التى تجال بأنظارها المسدّدة قداح التدابير الجلائل، والمنزلة التى لها وفور الاختصاص من أثرة (4) الإيالة العثمانية بأوضح الدلائل، والمكانة التى ضعضعت عروش عظماء المشركين وطأطأت رءوس رؤساء الكفار، والقطب الذى عليه فى دولة بنى عثمان أعظم المدار، الوزير الأجلّ، الأعظم، الأفخم، الكبير، الخطير، الأشمخ، الأرسخ، الأطول، الأكمل، المعتبر، المشتهر، الحظىّ، السّرىّ (5)، الأقرب، الأنجب، الأثير، الشهير، الأخصّ، الأخلص، الأسعد، الأصعد، الأرقى، الأنقى، الأظهر، الأطهر، المثيل، الحفيل (6)، سنان باشا أبقى الله حوزته (7) محروسة، وربوعه بالمسرات مأنوسة. . . هذا

(1) جنا: ثمر.

(2)

ينيف: يزيد.

(3)

انبتّ: انقطع.

(4)

أثرة: خلصاء.

(5)

السرى: الشريف.

(6)

المثيل: الفاضل. الحفيل: المحتفى به.

(7)

حوزته: دياره.

ص: 534

وقد طنّ بهذه الأقطار، نبأ فظيع التذكار، فتّت الأكباد، وأذكى (1) -على التنائى-لواعج الفؤاد. خطب جلل، ورزء فلّ ظبا (2) الصّفاح والأسل، ذلكم ما نزل به القضا، وانتهى فيه الأمد وانقضى، وهو انتقال السلطان الجليل الضخم ذى البسطة فى السلطان، والملك الموطّد بتمهيد الأركان: الخاقان (3) الأعظم، والشاهق الأعصم، السلطان مراد بن السلاطين الكبار. . وليس بمستنكر كونه-رحمه الله-لأهل التوحيد يدا، ولهمم المسلمين مددا. . وإنا لله وإنا إليه راجعون من مواراة الحفر منه بدرا طالعا، وإغمادها سيفا كان فى حماية الدين قاطعا. . . واللجأ فيه إلى الصبر الجميل، والضّراعة إلى الله فى الجزاء الجزيل، علما أن لا بقاء لمخلوق مع تهيّئ رواحل الليالى والأيام».

وهذه الرسالة بدورها تصور مهارة محمد بن على الفشتالى فى صوغ السجع، وقد نعت سنان باشا فى أوائلها بنعوت متوالية جعلها جميعها مسجوعة، فكل نعت يقترن بأخيه، فى سجعات متعاقبة تكثر فيها الجناسات كما تكثر الاستعارات. ومضى فى الرسالة بعد ما اقتبسناه منها يهنئ سنان باشا بتولى السلطان محمد بن السلطان مراد كرسى السلطنة العظمى بعد أبيه، فقد آسى (4) الدهر به». وبين رسائله رسالة على لسان المنصور إلى بدر الدين القرافى شيخ المالكية فى مصر، وكان كثيرون من طلاب الفقه المالكى وشيوخه فى المغرب يزورون القاهرة للاستماع إلى محاضراته ويحملون عنه مؤلفاته، ومن قول الفشتالى فى نعوته التى جعلها مقدمة لرسالته إنه «العمدة الراسخة البناء فليس إلا فى باب نعم اشتغاله، والفذ الذى ما جرى التنازع فى الفهوم الدقيقة من أعراف النقدة الشوامخ، إلا جاءت آيات غوصه وتحصيله لشبه الجموع نواسخ» وقد تصنع لإدخال بعض مصطلحات نحوية فى هذه السجعات هى: باب نعم والاشتغال والتنازع والنواسخ. ونلتقى فى الرسالة بطرائف استعاراته، ويذكر عن المنصور إقامته للرسوم الشرعية، والشعائر المرعية، وجميل الالتفات للمتفقهة فى الدين ولحملة الرواية فى حفظ سنّة سيد المرسلين». وحقا نهض المنصور بالمغرب الأقصى نهضة علمية وأدبية كبرى، مما جعل حلقات العلماء تزخر بالدروس والطلاب. وتنتهى الرسالة بقول المنصور:

«وهؤلاء خدّام جنابنا العلىّ واردون على تلكم الديار برسم جلب ما لعلكم تستفرغون فيه الوسع من الكتب لخزائننا العلمية الحافلة. . وأما التشوق لموضوعكم (لشرحكم) على مختصر خليل فشئ لا يكيّف، ومعهود لا يحتاج أن يعرّف، وبودّنا أن يكون من خزائننا الحافلة بحيث المراجعة والمعاهدة، والحضور والمشاهدة» .

(1) أذكى: أوقد.

(2)

ظبا الصفاح والأسل: حد الرماح والسيوف.

(3)

الخاقان: لقب سلاطين الترك.

(4)

آسى: عزّى وواسى.

ص: 535

والمنصور فى هذه الخاتمة لرسالته يقول للقرافى شيخ المالكية فى مصر أنه مرسل له ببعثة علمية لينتقى لها كتبا نفيسة، مما ينبغى أن لا تخلو منها مكتبات فاس، ويسأله أن يرسل إليه بمؤلفه أو بشرحه على مختصر خليل بن إسحاق المصرى فى الفقه المالكى، وكانت له شهرة مدوية فى البلاد المغربية. ولعل فى كل ما سبق ما يدل-بوضوح-على أن محمد بن على الفشتالى كان كاتبا بارعا، وكانت وفاته سنة 1021 هـ/1613 م.

(هـ) محمد (1) بن الطيب العلمى

من الكتاب الشعراء فى أوائل عصر الدولة العلوية، لا يعرف تاريخ مولده، ولكن يعرف تاريخ وفاته إذ توجه إلى المشرق لأداء فريضة الحج، وفى الطريق صعدت روحه إلى بارئها فى القاهرة سنة 1134 هـ/1721 م وهو تلميذ الشاعر ابن زاكور وحامل لواء الأدب المغربى بعده لا فى فاس مسقط رأسه وحدها بل فى المغرب الأقصى جميعه. ومثل لداته التحق بكتاتيب فاس لحفظ القرآن الكريم، ثم أكبّ على حلقات العلماء فى جامع القرويين، وتفتحت موهبته الأدبية مبكرا، فنظم الشعر، وأنشأ قصائد مديح للسلطان إسماعيل، وطارت شهرته لا لما كان ينظم من أشعار فحسب، فقد كان يجيد نظم المسمطات والموشحات كما كان يجيد التأليف الأدبى على نحو ما يتضح فى كتابه «الأنيس المطرب فيمن لقيه مؤلفه من أدباء المغرب» وقد عرض فيه اثنى عشر أديبا من معاصريه، لعل أشهرهم أستاذه ابن زاكور، وفيه يقول:

«وحيد البلاغة، وفريد الصياغة، الذى أرسخ فى أرض الفصاحة أقدامه، وأكثر وثوبه على حل المشكلات وإقدامه، فتصرف فى الإنشاء، وعطف إنشاءه على الأخبار وأخباره على الإنشاء، وقرع (2) الرجال، فى ميادين الارتجال» . وله بجانب هذا الكتاب الطريف رسائل شخصية يزينها بسجعاته وما يختار لها من أشعار وبجناساته واستعاراته إذ كان أديب عصره غير منازع ولا مزاحم، وإحدى هذه الرسائل موجهة إلى صديقه محمد بن العربى الشرقى، وفيها يقول:

«بعد ما تستحقه تلك السيادة، الممنوحة بالحسنى وزيادة، من السلام الذى طابت نفحاته، وطالت غدواته وروحاته. . فإنه لما طال أمد الفراق، وبلغت الروح التراقى وظنّ أنه الحين وقيل: من راق، فكرت فيمن يفك من يد الأشواق أسرى، ويجبر بين الأصحاء كسرى فقلت:

وبى منك ما لو كان بالشمس لم تلح

وبالبدر لم يطلع وباللّيل لم يسر

(1) انظر فى ترجمة ابن الطيب العلمى ورسائله ومقامته النبوغ المغربى 1/ 324 و 2/ 221 والوافى 3/ 789 والدكتور الأخضر 177.

(2)

قرع الرجال: فاز عليهم.

ص: 536

فما عثرت بعد معاناة البين، ومعاتبة الدهر المفرّق بين المحبّين، إلا على بعض درر من كلامك، استخرجت من بحور مددك بمداد أقلامك، كنت ادّخرتها عن القوم، لمثل هذا اليوم:

تفقّدتها بعد السرور بكونها

وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر

فما زالت تذكّرنى أيام الوصال، وتقطع من غرائب البين وتخرسه إن صاح أوصال:

ذكرت بها بعد التفرّق ما مضى

زمان النّقا والشئ بالشئ يذكر

إلى أن استولت على يد الضيّاع، وأعقبت لى ذلك الأمن بالارتياع، فأصبحت من فراقك ملتاعا بلوعتين، واحترقت بجمرتين، والتدغت من جحر مرتين:

وكنت كذى رجلين رجل مريضة

ورجل رماها الدهر يوما فشلّت

غير أن الآمال كانت تشوّفنى (1)، والليالى لكتابك تشوّقنى، فكنت أصدّق فيك الأوهام، وأعدّ حديثها من الإلهام:

صدّقت وهمى فى الحديث ولم أقل

خبر رواه الوهم وهو ضعيف»

وهو فى مطلع رسالته يقتبس من سورة يونس: (الحسنى وزيادة) كما يقتبس من سورة القيامة: {إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ: مَنْ راقٍ} ، ويتأثر بالحديث النبوى:«لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» ويتمثل بأبيات تتضح فيها رهافة ذوقه وبصره بالشعر العربى ودقة اختياره، ولغة الرسالة وأساليبها تكتظ بالسلاسة والعذوبة، مع ما يشيع فيها من الجناسات والطباقات والاستعارات. وكل ذلك يرفع من نثره وبلاغته فيه. ومن آثاره النثرية مقامة بديعة سماها «مقامة الحجام» رواها عن بعض الظرفاء وأنا أوجزها فى السطور التالية:

استهلّها بأنه جلس يوما مع جماعة من الأحباب. . يتذاكرون ما مرّ فى أيام الشباب، وكان بينهم شاب حسن الصورة إلا أنّ شعر شاربه طال، واسترسل غاية الاسترسال، فسألوه عن سبب طول شاربه، فقال لهم: أنا أخبركم بخبر عجيب، فقد صلّيت يوما صلاة الاستخارة، فوجدتنى مائلا إلى التجارة، فقصدت مدينة سنجار، وفتحت بها حانوتا بسوق التجار، لبيع القماش، والاستعانة به على المعاش، وزيّنت الدكان، وكسوته الستائر على أربعة أركان. فحاول يوما دخول الحمام، فوجد فى طريقه جماعة من النسوة بينهن فتاة جميلة، فتبعتها حتى دخلت دارا أنيقة، ورأى أمام الدار خياطا يخيط الثياب فى دكان. ويذكر الشاب أنه احتال على عقد صلة بينه وبين الخياط، ونجح فى عقدها، فأنبأه أن أباها خطيب البلد، وهو كثير المال وليس له من أولاد سواها وخطبها كثيرون، وردّهم ولم يسمح لها بالزواج، وتلطف

(1) تشوّفنى: تجعلنى أتطلع وأطمح.

ص: 537

له الشاب حتى أنس به، فدلّه على عجوز مشهورة فى تزويج الفتيات، ولقيته العجوز، فوعدها بمال وتحف كثيرة إن هى نجحت فى وساطتها. وغابت عنه فترة وعادت إليه بعد شهر، فأيأسته منها، فقال لها إنّي لا أريد منها سوى قبلتين، وأعطاها من الذهب ما أرضاها، فعادت إلى الوساطة عند أم الفتاة، وأقنعتها بلقاء الشاب المتيم لابنتها، واتفقا على أن يزورها فى صلاة إحدى الجمع وأبوها مشغول عنها فى المسجد. وفى يوم الجمعة المضروب دخل عند حجّام ليستتم حسن مظهره، فوجد الحجام شاربه طويلا فقصّ أطرافه، وبدلا من أن يعطى الشاب الحجام درهما أعطاه لارتباكه دينارا، فطار صوابه، وخرج وراءه، ولازمه ولاصقه طامعا فى دنانيره حتى إذا دخل دار الفتاة ولول الحجّام وصاح ولم يزل يصرخ ويستغيث، ويقول ألا منجد ألا منجد ألا مغيث والعجوز راجفة والبنت واجفة (1) ومثلها الأم، واجتمع الناس والحجام يصيح: يا سيداه، يا مولاه، وخرج الناس من صلاة الجمعة وتجمع الناس عند الدار، ووصل الخبر إلى خطيب البلد فحضر، وسأل الحجام ما الخبر؟ فقال له إن سيدى دخل إلى هذه الدار ومعه كيس فيه ألف دينار فطمعوا فيه فأدخلوه وقتلوه. ووجد الشاب فى الدار بئرا فرمى نفسه فيها ليختبئ عن عيون الناس، ودخل الخطيب الدار ومعه الحجام يبحثان عن الشاب، وعرف الحجام مخبأه فى البئر، فسأل الخطيب أبو الفتاة الشاب عن سبب دخوله الدار، فأجابه مموّها عليه: دخلت لكى أسرق، فحمل إلى الوالى على أقبح حال وأسوأ شان، وأمر بسجنه، وبقى فى الحبس سنة. وكان المساجين يعرضون كل عام على السلطان فى شهر رمضان لينظر فى أمرهم، وعرض عليه الشاب فسأله عن الأمر الذى حبس من أجله، فقال له، إنها قضية أذكرها بين يديك لتحكم فيها، وذكر له حكايته على وجهها الصحيح، فأمر برد ماله كما أمر الخطيب أن يزوجه من ابنته، ودفع له الصداق. وسلم الحجام للشاب فصلبه على باب داره. ثم قال: وأنا من هذا الحين لا أقص شاربى أبدا.

وقارن الأستاذ محمد بن تاويت بين عناصر هذه المقامة لابن الطيب العلمى وبعض عناصر المقامة السنجارية للحريرى، ولاحظ كثيرا من التشابه بين عناصر المقامتين حتى فى بعض العبارات والصيغ، ونجد ابن الطيب العلمى يذكر عن بطلها أنه قصد مدينة سنجار بقصد التجارة، وهى المدينة التى عقد عليها الحريرى مقامته السنجارية. ومقامة العلمى لا تدور على الشحاذة الأدبية مثل مقامة الحريرى. وقد أخلاها-كما ذكر الأستاذ ابن تاويت-من الألفاظ الغربية الكثيرة التى استظهرها الحريرى فى مقامته، وأجرى فيها روح الفكاهة مع السلاسة والعذوبة على نحو ما يبدو فى القطعة التالية المقتطفة من أوائلها:

(1) واجفة: مضطربة.

ص: 538

«اتفق لى فى بعض الأيام ضرورة إلى دخول الحمام، فوجدت فى طريقى جماعة من النسوان، بينهن فتاة كأنها قضيب البان، فلمحت من تحت الإزار معصمها وقد سطع صفاؤه، وأبصرت من تحت النقاب جسمها وقد لمع ضياؤه، فوقفت وقد جرى من الجفون الدم، وعجزت عن نقل القدم، ثم تبعتها من بعيد، ولاحظتها إلى أين تريد، فدخلت دارا يدل إتقان بابها، على سعادة أربابها، ونظرت فإذا بالقرب من ذلك المكان، خيّاط يخيط فى دكان، وعنده من الصناع والأعوان، ذوو أذقان ومردان (1)، صنوان (2) وغير صنوان، فقلت فى نفسى: من هذا الخياط أستفهم، عمّا علىّ أبهم. فرجعت إلى دكانى، ثانيا عنانى، وأحضرت عدّة من التفاصيل، وجئت بها إلى حانوت الخياط بقصد التفصيل، فجالسته وحاورته وآنسته، وفصلت ذلك القماش، وعجّلت له من الأجرة ما يحصل به الانتعاش، ففرح بحضورى، واعتنى بأمورى، ووجدت عنده معرفة بالأدب، وشكا إلىّ من ضيق الحال والسّغب (3)، وأنشدنى لنفسه من شعره المستعذب:

أنا الخيّاط لى رزق ولكن

أرى حالى من الإفلاس عبره

ذراعى فيه من فقرى مقصّ

ورزقى خارج من عين إبره

فاستحسنت نظمه، وحملت همّه وسألته عن صنّاع دكانه، وديار جيرانه، فما زال يشير إلى كل دار ويشرح حالها، ويعرّفنى تفصيلها وإجمالها، حتى أفضى الحديث إلى الدار التى أختارها، وقصدى أن تتضح لى أخبارها، فقال: هى دار خطيب البلد، وهو رجل كثير المال قليل الولد، مشهور بالتّوقرة الزائدة، ولا له من الأولاد إلا ابنة واحدة، وهى روحه التى بين جنبيه، والسواد الذى فيه نور عينيه، وقد منعها الأزواج ولم يسمح لها بالزواج».

والمقامة تجرى بهذه الروح الفكهة التى ترسم الابتسامة على الشفاه، وهى سجع خالص، سجع قصير يحدث ضروبا من التلاؤم الصوتى بين العبارات ويحسّن جرسها ووقعها فى الأسماع، حتى لتنساب انسياب الجدول الرقراق المتدفق بالماء العذب القراح.

(1) مردان: جمع أمرد: شاب.

(2)

صنوان: شقيقان أو متماثلان.

(3)

السغب: الجوع.

ص: 539