الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكأنما حور عيونهن يسلّ سيوف مصمية، ويسأل حادى المطى يرفق به لعل الصّدع الذى أحدثته صاحبته فى فؤاده ينجبر، كما يسأله أن يميل بالركب عليه فقلبه يتمنى لو سمع حديث من قتلن منهم ومن أسرن، وإن تغنين فقف ليرى فؤاده كيف ينفطر ويتصدع ألما. ويعرض حوارا لصاحبته معه منشدا:
تقول والحسن يطغيها فتظلمنى
…
ولا مؤازر إلا صارم ذكر (1)
دع الحسام وضع حمل السلاح فما
…
فى كل وقت يفيد الحزم والحذر
ما للمهنّد حكم فى محلّتنا
…
بل للمنهّد فيها الحكم والنّظر (2)
فإن طمعت بلين فى لواحظنا
…
فنحن أهل قلوب مثلها الحجر
وإن حلت لك ألفاظ نردّدها
…
ما بيننا فهناك الصّاب والصّبر (3)
فارحم شبابك وارحل دون مغلبة
…
واقبل من الحسن ما أعطاكه النظر
حدّثته صاحبته كما يقول وهى شاعرة بحسنها حتى ليجعلها طاغية، وكان يحمل سيفا فقالت له ليس للسيف حكم فى منازلنا وإنما الحكم والرأى القاطع للفتاة، وإن أطمعك لين فى نواظرنا فنحن أهل قلوب كالحجارة أو أشد صلادة وصلابة، وإن أطمعتك ألفاظ حلوة نرددها بيننا فوراءها الصّاب والصبر شديدا المرارة مرارة لا تطاق، فارحم شبابك وارحل دون قهر، واكتف من الحسن بالنظر إليه. وهذه الأبيات التى أجراها الأريسى على لسان صاحبته لتملأ نفس قارئه إعجابا بخصب شاعريته.
ابن (4) على
هو محمد بن محمد بن محمد المهدى بن رمضان بن يوسف العلج، وذكر العلج فى آبائه يدل على أن أسرته عثمانية وأن جده يوسف العلج من أوائل العثمانيين النازلين بالجزائر حين أصبحت ولاية عثمانية. وغلب عليه اسم
ابن على
مما يدل على أن أحد آبائه كان يسمى عليا، ويؤكد ذلك أن شاعرا هو محمد الشباح سمى أباه فى مدحة له كما جاء فى مجموعة أشعار جزائرية محمد بن على قائلا:
وسمىّ غوث الغرب من مجّاجة
…
وافاك من ربّ العلا إقبال
ويريد الشباح بسمىّ غوث الغرب من مجّاجة محمد بن على المجّاجى، فاسمه إذن بشهادة هذا الشاعر ابن على، وإما أن يكون على أباه أو أحد أجداده، وسقط من سلسلة نسب الشاعر.
(1) الصارم الذكر: السيف الشديد.
(2)
المهند: السيف. المنهد: الناهد: الفتاة.
(3)
الصاب: شجر شديد المرارة. الصبر: عصارة شجر مر.
(4)
انظر فى ترجمة ابن على ما كتبه د. أبو القاسم سعد الله فى مجموعة أشعار جزائرية ص 21 وما بعدها وكتابه تاريخ الجزائر الثقافى 2/ 311 وفى مواضع متفرقة. وقد حقق ونشر مجموعة كبيرة من أشعاره فى مجموعة أشعار جزائرية.
واشتهرت هذه الأسرة بنظمها للشعر منذ رمضان بن يوسف ففى مجموعة أشعار جزائرية أبيات له فى الحث على طلب العلم، وكذلك لمحمد المهدى قصيدة ضمنها شكوى إلى علماء إسطانبول وأبيات لوالد الشاعر، فهو من بيت شعر وأدب، وأيضا فإن بيته كان بيت فقه حنفى وقضاء وفتوى، يدل على ذلك بوضوح أن جده محمد المهدى عيّن مفتيا للحنفية سنة 1045 هـ/ 1635 م ولقّب بشيخ الإسلام وهو لقب كان يتلقب به المفتى الحنفى فى الجزائر طوال العهد العثمانى وظل فى هذا المنصب حتى وفاته فى أواخر العقد السابع من القرن الحادى عشر الهجرى. وطبيعى أن يكون والد الشاعر فقيها على غرار أبيه، إذ نرى الشباح ينوه فى مدحته له بقوله:
العالم العلامة القطب الذى
…
ضربت بحسن صنيعه الأمثال
ولا نعرف متى ولد الشاعر، ويبدو أنه ولد فى أواخر القرن الحادى عشر، كما قال الدكتور أبو القاسم سعد الله، مستدلا على ذلك بأنه كان أحد من هنئوا محمد بكداش والى الجزائر بفتحه لوهران وانتصاره فيه على الإسبان سنة 1119 هـ/1707 م ومن قوله فى قصيدته:
وعهدى بحور الشعر عنى أذودها
…
زمانا وفكرى موجه متلاطم
وكأنه قد عالج الشعر قبل عام فتح وهران مما يدل على أن سنه كانت حينئذ فى نحو العشرين من عمره على الأقل. وكان يكبّ على حلقات فقهاء المذهب الحنفى والحديث النبوى وتفسير الذكر الحكيم مما أهّله فيما بعد ليدرس للطلاب التفسير والحديث والفقه الحنفى، وليصبح خطيب المسجد الكبير يعظ الناس كل جمعة مواعظ مؤثرة، ويختار سنة 1150 هـ/1738 م مفتيا حنفيا للجزائر ويلقب بشيخ الإسلام، ويظل شاغلا هذا المنصب حتى وفاته سنة 1169 هـ/1756 م. ويعد ابن على فى الذروة من شعراء الجزائر فى القرن الثانى عشر الهجرى، وكان ينظم فى المديح والمنشئات ووصف الطبيعة والرثاء، وأكثر من شعر الغزل إكثارا يسبق فيه شعراء عصره، وجمع لنفسه ديوانا ضم أشعاره وأشعار بعض معاصريه وأشعار آبائه ومعاصريهم فى القرن الحادى عشر الهجرى. وسقط هذا الديوان من يد الزمن غير أن أكثره- أو كثيرا منه-مبثوث فى المجموعة التى أشرنا إليها المنشورة باسم أشعار جزائرية. ويبدو أنه أخذ ينصرف عن نظم الغزل حين ولّى الخطابة والتدريس فى المسجد الكبير، وولّى منصب الإفتاء الجليل، ويصرح بذلك قائلا:
لولا-وحقّك-خطّة قلّدتها
…
زهرت بها فى الخافقين شموعى
ومنابر فيها رقيت إلى العلا
…
وقد استدار بها كثيف جموع
لنحوت منحى العامرى صبابة
…
ولكان من حرق الجوى مشفوعى
وهو يقول لولا خطّة الفتوى-على المذهب الحنفى-التى تقلدتها وتلألأت وتألقت بها شموعى فى الجزائر، ولولا منابر فيها صعدت بها إلى العلا بوعظى الجموع الكثيفة من أهل
الجزائر لظللت أنظم غزلا عذريا عفيفا مثل غزل قيس العامرى مجنون ليلى كله صبابة وهيام وحرق من الحب والوجد تضطرم اضطراما، وله يتغزّل:
يمينا لقد عزّت علىّ المطالب
…
ولى أبدا من سحر عينيك طالب
فسبحان من سوّاك فى الحسن صورة
…
لها اعترفت بالحسن حور كواعب (1)
مراشف من شكل العقيق مصوغة
…
ومبسم درّ للعقيق مناسب (2)
وصدر بدت رمّانتاه كحقّتى
…
لجين ونحر مشرق وترائب (3)
تحوم عليها الشمس غيرى كئيبة
…
تجاذب ثوبا للسّنا وتجانب (4)
وقد حاولوا منى التسلّى بغيرها
…
لقد أخفقت تلك الظنون الكواذب
وهل يستوى المصباح والشمس فى السّنا
…
وهل يستوى بدر السما والكواكب
وهو يعجب بسحر عينى صاحبته فى البيت الأول وبجمالها فى البيت الثانى الذى تعترف به الحور الجميلات الشابات، وكأن مراشفها مصوغة من فصوص العقيق، ويلتئم بها مبسم اللآلى البديعة، وينوه بجمال صدرها ونحرها وترائبها، ويقول إن الشمس تغار من جمالها وتشعر بغير قليل من الحزن حين تراها وتجاذبها ثوب ضوئها، وتحاول تجنّبها شعورا منها بأنها أروع وأبهج. ويظن غير واحد أننى أستطيع التسلّى عنها بغيرها وخابت ظنونهم جميعا، وهل يمكن أن يتساوى المصابح والشمس أو يمكن أن يتساوى البدر فى تمّه وكماله بالكواكب والنجوم؟ ! . ومن غزلياته قوله:
أغصون تأوّدت أم قدود
…
أم ورود تفتّحت أم خدود (5)
أم وجوه بدت لنا أم بدور
…
طالعات يحفّهنّ السّعود
فى سماء الجمال تسطع نورا
…
وبقلبى منها-الزمان-وقود
كم لها فى الأسود من فتكات
…
وبروق-من صدّها-ورعود
سحر تلك العيون فيه تناهت
…
وتفانت زيانب وهنود
جنّتا وجنتيه عذّ بتانى
…
وجنا الجنّتين عنى بعيد (6)
وهو لا يدرى أيرى قدودا وقامات لهؤلاء الحسان أم يرى غصونا تتثنى دلالا، وهل يرى خدودا فاتند بحمرتها أم ورودا تتفتح جمالا، وهل يرى وجوها فاتنة أم بدورا يحفها السعد بل سعد السعود، وكأنها كواكب تسطع فى سماء الجمال نورا، ولقلبه منها وقود ماينى مشتعلا، وكم لها فى الأسد من فتكات وكم لها بروق ورعود، وإن سحر عيونها ما بعده سحر، ذاب
(1) كواعب، جمع كاعب: الفتاة الشابة.
(2)
العقيق: حجر كريم أحمر تتخذ منه الفصوص.
(3)
لجين: فضة.
(4)
السنا: الضوء.
(5)
تأودت: تثنت.
(6)
الجنا: كل ما يجنى من الشجر.