المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عليه، وسألها كيف نجت من الوأد عرف أنها آوت من - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١٠

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [الجزائر]

- ‌2 - [المغرب الأقصى]

- ‌3 - [موريتانيا]

- ‌4 - [السودان]

- ‌القسم الأولالجزائر

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-الأغالبة-الإباضية-تلمسان

- ‌(ب) الأغالبة

- ‌(ج) الإباضيون

- ‌(د) تلمسان

- ‌4 -الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-بنو حماد

- ‌(أ) الدولة العبيدية

- ‌(ج) بنو حماد

- ‌5 -دولة الموحدين-الدولة الحفصية-بنو عبد الواد

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الجزائرى

- ‌2 -المعيشة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌4 -الدين-المالكية والحنفية-الإباضية-المعتزلة

- ‌(أ) الدين

- ‌(د) المعتزلة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌(ب) دور العلم:‌‌ الكتاتيب-‌‌المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌ الكتاتيب

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -كثرة الشعراء

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ عبد الكريم النهشلى

- ‌ ابن خميس

- ‌ الشهاب بن الخلوف

- ‌ محمد القوجيلى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ بكر بن حماد التاهرتى

- ‌ سعيد المنداسى

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد الرحمن الأخضرى

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ ابن على

- ‌2 -شعراء وصف الطبيعة

- ‌ عبد الله بن محمد الجراوى

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ إبراهيم التازى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والوصايا

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات

- ‌5 -كبار الكتاب

- ‌[(ب)] الوهرانى

- ‌القسم الثانىالمغرب الأقصى

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-ثورة الصفرية-بنو مدرار-الأدارسة-بعد الأدارسة والمدراريين

- ‌(ب) ثورة الصفرية

- ‌(د) الأدارسة

- ‌4 -المرابطون-الموحدون-بنومرين

- ‌(أ) المرابطون

- ‌(ب) الموحدون

- ‌5 -السعديون-الطرق الصوفية-العلويون

- ‌(أ) السعديون

- ‌(ج) العلويون

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع المغربى

- ‌1 -عناصر السكان

- ‌2 -المعيشة

- ‌3 -الثراء-الرّفة-الموسيقى-المرأة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) المرأة

- ‌4 -المالكية-الصفرية-المعتزلة-الظاهرية

- ‌(أ) المالكية

- ‌(ب) الصفرية

- ‌(ج) المعتزلة

- ‌(د) الظاهرية

- ‌5 -الزهاد-المتصوفة

- ‌(أ) الزهاد

- ‌(ب) المتصوفة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌ الكتاتيب

- ‌(ب) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌2 -علوم الأوائل

- ‌3 -علوم اللغة والنحو والعروض والبلاغة

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرب المغرب الأقصى-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب المغرب الأقصى

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 -شعراء الموشحات والأزجال

- ‌(أ) شعراء الموشحات

- ‌ ابن غرلة

- ‌ ابن الصباغ

- ‌ ابن زاكور

- ‌(ب) شعراء الأزجال

- ‌ابن عمير

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ ابن زنباع

- ‌ ابن حبوس

- ‌الجراوى

- ‌ ابن عبد المنان

- ‌الهوزالى

- ‌الدغوغى

- ‌البوعنانى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) الفخر

- ‌ الشاذلى

- ‌(ب) الهجاء

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد العزيز الملزوزى

- ‌ابن الونان

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ أبو الربيع الموحدى

- ‌ عمر السلمى

- ‌2 -شعراء الوصف

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌ ابن شعيب الجزنائى

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن المحلى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ميمون بن خبازة

- ‌ مالك بن المرحل

- ‌الفصل السادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والمواعظ

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌(ب) الرحلات

- ‌ رحلة ابن رشيد

- ‌ رحلة العياشى

- ‌ رحلة ابن ناصر

- ‌5 -كبار الكتّاب

- ‌(أ) القاضى عياض

- ‌القسم الثالثموريتانيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع والثقافة

- ‌1 -المجتمع

- ‌(أ) صنهاجة وقبائل المعقل العربية

- ‌(ب) الزروع والمراعى

- ‌(ج) التجارة

- ‌(د) حياة يدوية

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) نشاط دينى تعليمى كبير

- ‌(ب) التعليم والطلاب والشيوخ

- ‌(ج) أمهات الكتب والمتون والشروح المتداولة

- ‌(د) أعلام العلماء فى موريتانيا

- ‌(هـ) القراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء

- ‌(و) أعلام النحاة والمتكلمين

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرّب موريتانيا

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ ابن رازكة

- ‌3 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ المختار بن بون

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ الأحول الحسنى

- ‌ يقوى الفاضلى

- ‌2 -شعراء التصوف

- ‌ المختار الكنتى

- ‌الشيخ سيديّا

- ‌3 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ محمد بن محمد العلوى

- ‌4 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌القسم الرابعالسودان

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌3 -(ج) دولة الفونج

- ‌4 -محمد على والسودان-عهد إسماعيل

- ‌5 -حركة المهدى-خليفته عبد الله التعايشى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع السودانى-الثقافة

- ‌(أ) نزعة صوفية عامة

- ‌(ب) المرأة ومكانتها فى التصوف

- ‌(ج) التصوف والتربية الخلقية والدينية

- ‌(د) طرق صوفية جديدة

- ‌(هـ) دعوة المهدى ومبادئها الستة

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) كتاتيب-زوايا-مساجد

- ‌(ب) حركة علمية نشيطة فى عهد الفونج

- ‌(ج) سودانيون أزهريون وعلماء مصريون

- ‌(د) التعليم المدنى الحديث وتوقفه

- ‌(هـ) إنشاء معهد دينى وعودة التعليم المدنى الحديث

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ الشيخ حسين زهراء

- ‌ الشيخ محمد عمر البناء

- ‌3 -شعراء الفخر والحماسة

- ‌ الشيخ يحيى السلاوى السودانى

- ‌ عثمان هاشم

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ الشيخ محمد سعيد العباسى

- ‌(ب) رثاء المدن

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل العفيف

- ‌2 -شعراء النقد العنيف والشكوى من الزمن

- ‌الشيخ عبد الله البناء

- ‌ صالح عبد القادر

- ‌3 -شعراء التصوف

- ‌4 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ الشيخ عمر الأزهرى

- ‌ الشيخ عبد الله عبد الرحمن

الفصل: عليه، وسألها كيف نجت من الوأد عرف أنها آوت من

عليه، وسألها كيف نجت من الوأد عرف أنها آوت من حرمه إلى ظل ظليل، وحلّت من فناء داره وساحتها إلى خير معرّس ومقيل، ويقول إن كرمه سيجعله يغضى عن عيوبها، وحسبها شرفا أنها نزلت من جنابه دارا، وكفاها مجد وفخرا أن انعقد بينها وبين فكرك جوار حميد وعقد وثيق. ولابن شبرين المتوفى سنة 747 هـ/1347 م رسالة فكهة كتب بها إلى أبى الحكم بن مسعود الشاهد بالمواريث، ويفتتحها بقوله (1):

«أطال الله بقاء أخى وسيدى لأهل الفرائض يحسن الاحتيال فى مداراتهم، وللمنتقلين إلى الدار الآخرة يأمر بالاحتياط فى أمواتهم، ودامت أقلامه مشرعة (2) لصرم (3) الأجل المنسأ (4)، معدة لتحليل هذا الصنف المنشأ، من الصّلصال والحمأ، فمن ميّت يغسل وآخر يقبر، ومن أجل يطوى وكفن ينشر. . وكلما خربت ساحة، نشأت فى الحانوت راحة، وكلما قامت فى شعب (5) مناحة، اتسعت للرزق مساحة» .

وتمضى الرسالة فى مثل هذه الفكاهة وشاهد المواريث يسأل عن العقار والأملاك، ويقول عن المتوفّى إنه ذكر فى الأسماء الخمسة مع ذو فقيل ذو مال، وأرجل أعوانه تدبّ إلى الأسفاط دبيب الصّقر إلى الحجل (6)، وحضر الموروث والمكسوب، ووزن بالأرطال، وكيل بالأقداح، والشاهد يصيح فتعلو صيحته، والمشرف يشرف فتسقط سبحته، وتقسّم التركة ويحضر الورثة. وكل ذلك فى أسلوب فكه بديع.

وتظل الرسائل الشخصية فى العهدين السعدى والعلوى تكتب بهذا الأسلوب المسجع البديع، والكتاب يتبارون فى انتخاب ألفاظهم وصياغاتهم انتخابا يروق ويروع.

‌4 -

المقامات والرحلات

(أ) المقامات

المقامات جمع مقامة، وهى من أهم فنون النثر العربى، ابتكرها بديع الزمان الهمذانى فى أواخر القرن الرابع الهجرى، عارضا أقاصيص على لسان أديب سيار ممن كانوا يسمون فى

(1) النبوغ المغربى 2/ 177.

(2)

مشرعة: مصوّبة.

(3)

صرم: قطع.

(4)

المنسأ: المؤجل.

(5)

شعب: طريق.

(6)

الحجل: جمع حجلة: طائر فى حجم الحمام.

ص: 503

عصره بالساسانيين الذين كانوا يحترفون الكدية أو الشحاذة الأدبية فى الحصول على أموال الناس بفصاحتهم وحيلهم فى أسلوب قصصى يشيع فيه الحوار، واتخذ بديع الزمان لمقاماته أديبا متسولا كبيرا، هو أبو الفتح الإسكندرى وراوية يروى أقاصيصه وحيله يسمى عيسى بن هشام، وشاعت مقاماته فى العالم العربى. وأوفى بهذا الفن على الغاية الحريرى التى تداولت مقاماته المغرب والبلدان العربية. وكان كثير من العلماء والأدباء يعقدون لإملائها وشرحها للطلاب مجالس متعاقبة، وحاولت كل بلدة أن تدلى بدلوها فى هذا الفن، غير أن كثيرين من البلدان العربية رأوا أن يعدلوا بها عن صورتها الأصلية إلى موضوعات أدبية فيها قصص وحوار. وأول ما يلقانا من ذلك فى المغرب الأقصى مقامة لعبد المهيمن الحضرمى الوزير وصاحب القلم الأعلى فى عهد أبى سعيد المرينى ثم فى عهد ابنه أبى الحسن المتوفى سنة 749 هـ/1349 م، وقد سماها «مقامة الافتخار بين العشر الجوار» وهن بيضاء وسمراء، وطويلة وقصيرة، وسمينة ونحيفة، وعربية بدوية وحضرية، وعجوز وصبية. وكل واحدة منهن تناظر نقيضتها فى حسنها. وقد لقيهن-كما يقول فى مفتتح مقامته بوادى الجوهر فى إحدى المدن، وأجرى على ألسنتهن هذه المناظرة الطريفة. وكانت أول جارية تكلمت وطلبت المناظرة جارية يفوق ضياء وجهها ضياء الشمس فقد وقفت بين الصفوف وتقدمت وقالت (1):

«الحمد لله الذى جعل البياض طراز كلّ جمال، وشرّف أهله بالحياء والكمال، وأعطاهم عزّة لا تبيد، وصيّر السّمر لهم عبيد، ألا وإن على قلبى جمرة، من معاتبتك يا ذات السّمرة، أعندك يا سمراء ما عندى، وليس قدّك كقدّى، ولا خدّك كخدّى، جبينى ذو ابتهاج، وذوائبى (2) كقطع الزّاج (3)، ورشح عرقى كمسك أذفر، يرشح من تحت البرد والمغفر، وثغرى أقحوان (4)، وديباج وجهى أرجوان (5)، وإن أسبلت (6) شعرى المضفور، فظلام ليل على بياض كافور، ثم أنشدت:

قل للذى أزرى بأهل البياض

ما أنت إلا باطل الاعتراض

فورد خدّى أبدا زاهر

فى كل فصل فوق خدّى رياض

يا حاسدى مت كمدا إنما

تجنى المنى من الخدود الغضاض (7)

وتقدّمت السمراء، وحطت اللثام، عن وجه شهىّ الالتثام (8)، وأبلغت فى السلام، وأفصحت فى الكلام، وقالت:

(1) النبوغ المغربى 2/ 195 والوافى 2/ 449.

(2)

ذوائبى: ضفائرى.

(3)

الزاج: عقار أسود يصنع منه المداد.

(4)

يشبه الشعراء الثغر بالأقحوان، وكأن تلك الزهرة تشبهه.

(5)

أرجوان: شجر له زهر شديد الحمرة.

(6)

أسبلت: أسدلت.

(7)

الغضاض: الناضرة.

(8)

لالتثام: يريد القبل.

ص: 504

الحمد لله الذى خلق الإنسان فى أحسن تقويم وجعله أفضل الحيوان، وفرّق بين الصور والألسنة والألوان، وزيّن الأبيض بشعر كالغسق (1)، وباسوداد الحاجبين وسواد الحدق. وأجلّ ما يقف له العاشقون إجلالا، ويرتجلون فيه الأشعار ارتجالا: مسكة الخال، وعقرب الدلال. ثم التفتت إلى البيضاء وقالت: يا أشبه شئ بجبن الروم. . ما زال طعامك قليل الملح، وجفنك كثير الرّشح، ولبنك أذى، وعسلى أنا غذا، ولونى لون الخمر، وطعمى طعم التمر، ثم أنشدت:

الحمد لله ليس التّبر كالورق

قد أحسن الله فى خلقى وفى خلقى (2)

فالجسم منى نضار صيغ منظره

بمسكة فغدا طيبا لمنتشق

يا من يعيّرنا باللون إن لكم

جهلا يقود إلى الطّغيان والحمق

كم أسمر قلبه كافورة وله

من السّعادة نجم لاح فى الأفق

فلما فرغت من كلامها، وما أبدعته من حسن نظامها تبرقعت بنقابها، وسلّمت على الصفّين، وقبّلت أسارير الكفّين».

وواضح أن عبد المهيمن الحضرمى أجرى على لسان الجارية البيضاء النعوت التى تزينها فى الخلق والأخلاق مثل الحياء والكمال، وتوسع فى وصف جمالها بذكر جمال القدّ والخدّ والجبين والضفائر المغرقة فى السواد، وذكر أن ثغرها أقحوان ووجهها أرجوان، وأشاد بورد خدها وأنه يحيل خدودها رياضا ناضرة. ويظن كأنها ضيقت طرق الكلام على صاحبتها السمراء. غير أن عبد المهيمن ما يلبث أن يفتح لها الأبواب على مصاريعها، لتجد مجموعة من الأدلة البينة والبراهين الواضحة على روعة السواد وجماله بشهادة قولهم: شعر كنسق الليل وإعجابهم بسواد الحاجبين وحدق العينين، وبدليل إشادة الشعراء بالخال المشبه للمسك، والشعر المتدلى إلى الخدود كأنه العقرب، وتقول صاحبتها إن اللبن الأبيض المشبه لك كثير، أما العسل الأسمر المشبه لى فكثير الغذا، وتفخر عليها بأن لونها لون الخمر التى طالما تغنى بها الشعراء، ثم أنشدتها شعرا يرفع التبر أو الذهب الذى يشبه لونها على الورق أو الفضة البيضاء التى تشبه لون صاحبتها، فجسمها هى نضار، وصيغ-كالمسك-سوادا وعطرا، وتقول لها ما أكثر السّمر الذين تشبه قلوبهم ما يتخذ من شجر الكافور من مادة بيضاء بلورية، بينما نجمه نجم سعيد كل السعادة. وتليهما جاريتان طويلة كاملة وقصيرة، ومما تقوله الطويلة للقصيرة: «يا زريعة يأجوج ومأجوج، إن الحلىّ على القصار كالدر فى نحور القرود، وتقول لها القصيرة: «يا شقيقة الزرافة، يا ناقة العشير (الزوج) وقصبة النّشير (حبل الغسيل).

(1) الغسق: ظلمة الليل.

(2)

الورق: الفضة.

ص: 505

ويلى ذلك مشهد السمينة والنحيفة أو بعبارة أدق مناظرتهما، وتقول السمينة لصاحبتها إنك منقوضة اللحم إذ حرّم عليك كما حرّم على بنى إسرائيل الشحم، وتقول لها النحيفة إن قلبها بالعلف هائم، كما تفعل البهائم. ونقرأ مناظرة العربية البدوية والجارية الحضرية ومما تقوله الجارية العربية: نحن ربّات القلوب، ومنتهى غاية كل مطلوب، جمالنا أبدع جمال، ولساننا أفصح لسان. ومما تقوله الحضرية: إن رعيان الجمال لا يفتخرون بحسن ولا جمال.

إلا إنما الحسن حسن الحضر

علينا ومنا وفينا ظهر

وتناظرت العجوز والصبية، وكانت العجوز مخضوبة البنان، وليس لها أسنان، وبدأت كلامها بقولها:«الحمد لله راحم الشيب، وساتر العيب» ومما قالته الصبية للعجوز: «أما رأيت شعرى الفاحم، وثغرى الباسم، وغصنى الناعم» . وقالت لها العجوز: «بورك فيك من صبية، وفى ألفاظك الزكية» . واستدار الجوارى حول العجوز، فقالت لهن:«سأقول بينكن مقالة إنصاف، يقتضيها الحق وجميل الأوصاف» وقالت لكل منهنّ كلمة أرضتها، وبذلك ارتفع بينهن العتاب واللوم. وإذا كان عبد المهيمن الحضرمى لم يحاول أن يحاكى بديع الزمان ولا الحريرى فى مقاماتهما فإن مقامته تعدّ طرفة أدبية بديعة.

ونلتقى فى العصر السعدى بمحمد بن عيسى المتوفى سنة 999 هـ/1591 م، وله مقامة نقدية عرض فيها طائفة من أدباء زمنه، وعادة يسأل أين الأديب فلان؟ ويجيب بسطور مسجوعة منوها بأدبه، وقد يكون السؤال عن مفت أو فقيه ويجيب، ونذكر لذلك مثلا إذ يقول (1):

«قلت: وأين الكاتب الأديب أبو العباس الغرديس، فقال: الدر النفيس. . ووارث المجد الذى له التهويم (2) والتعريس، فعل سؤدده غير مقيس، فهو والسيادة سليمان وبلقيس، وإنه اليوم بفاس دار قراره، ومشرق أنواره، ومنبت رنده وعراره (3)، فلا تسل عن النبيه والنباهة. والفضل هناك الحب الوضّاح، والمجد الصّراح، والأدب المزرى بالراح، ممزوجا بالماء القراح، ينظم وينثر، وعلى كل ما يشاء الخاطر عنده يعثر» .

وعلى هذا النمط نعوت دائما مسجوعة تضاف للشخص تنويها به وثناء عليه، وهى بذلك لا تعد مقامة إنما هى مقال عن بعض أدباء عصره وعلمائه. وأسلوب عبد المهيمن الحضرمى السابق فى مقامته القائم على المناظرة والمفاخرة شاع بين الكتاب المصريين فى زمن المماليك وشاع معه المفاخرة والمناظرة بين الأزهار فى ضروب من السفسطة والمغالطة وقلب المحاسن

(1) انظر فى هذه المقامة كتاب الوافى بالأدب العربى فى المغرب الأقصى 3/ 699.

(2)

التهويم: النوم الخفيف ولعله يريد الارتحال. التعريس: الإقامة.

(3)

الرند والعرار: من أزهار البوادى.

ص: 506

مساويء لغرض الإفحام والغلبة. ويمكن أن نعد من هذا النوع مقامة محمد بن أحمد المكلاتى التى كتبها فى أواخر العصر السعدى تحية لمحمد بن أبى بكر صاحب الزاوية الدلائية، وسماها:«المقامة (1) الزهرية فى مدح المكارم البكرية» ويجعلها على لسان شخص يسمى «بسّام» يقول إنهم نزلوا روضا بهيا وأمطرتهم السماء مطرا باتوا فيه، واستيقظ فى السحر بين الضياء والغبش، وخال كأن وجوه الروض تسيل دما، وتوهّمه من بقايا الشفق أسفر عنه ضوء الصباح، وناداه أنا أخو الرياض الشقيق كم كسوته جمالا. يقصد أن ما يراه ويظنه دما إنما هو زهر شقائق النعمان. ويأخذ فى الافتخار بحسنه، ويجاذبه الفخر زهر النمام فعود البان الذى طالما وصف الشعراء بقدّه قدود محبوباتهن الحسان، والنرجس يقول لغصن البان مفاخرا وواصفا نفسه:

«أما راقك الياقوت الأصفر، وسط الدر الأبيض، على الزمرد الأخضر. . شموا النرجس، ولو يوما فى السنة، فأنا غذاء الروح، لمن يغدو عنى ويروح، لطيف المزاج، أصلح للعلاج، وأزيل من الدماغ مضرّة دخان السراج، وأخفّ على العشّاق، يوم التلاق، وينشد قول بعض الشعراء:

وإذا قضيت لنا بعين مراقب

يا ربّ فلتك من عيون النرجس

ويعترض زهر البنفسج ثائرا مفاخرا، وقائلا له: لا يسلم لك فخر إلا على الورد فما لأمرك عليه من ردّ، وينشد قول ابن الرومى فى تفضيل النرجس على الورد:

خجلت خدود الورد من تفضيله

خجلا تورّدها عليه شاهد

للنّرجس الفضل المبين وإن أبى

آب وحاد عن الحقيقة جاحد

وما يلبث أن يدخل الورد فى المعركة للرد على ابن الرومى ومن فضلوا عليه النرجس، يقول المكلاتى:

وتدخّل البنفسج «فأقبل الورد فى جنوده، ناشرا لراياته وبنوده، محمرّ الوجنات، منكرا على البنفسج ما جاء به من التّرهات:

ولقد رأيت الورد يلطم خدّه

ويقول وهو على البنفسج يحنق

لا تقربوه وإن تضوّع نشره

من بينكم فهو العدوّ الأزرق (2)

وكيف يفخر النّرجس من بين الرياحين، على نخبة الملوك والسلاطين:

إن كنت تنكر ما ذكرنا بعد ما

وضحت عليه دلائل وشواهد

فانظر إلى المصفرّ لونا منهما

وافهم فما يصفرّ إلا الحاسد

(1) انظر فى هذه المقامة النبوغ المغربى 2/ 208.

(2)

تضوّع نشره: فاحت رائحته.

ص: 507

ألم تسمع ما قيل، مما سيلقى عليك القول الثقيل:

من فضّل النرجس فهو الذى

يرضى بحكم الورد إذ يرأس

أما ترى الورد غدا قاعدا

وقام فى خدمته النّرجس

أنا مشرّف الربيع. ومظهر ما له من البديع، أنعش الأرواح، وأنا عروس الأفراح، نوافح ذكية (1)، وروائح شذية (2)، أبديت ألوانا لأهل الأدب، يقضون لها بالعجب، فمنىّ الأبيض والأسود الحالك، ومنى وراء ذلك: أصفر فاقع، وما نصفه قان (3) ونصفه ناصع، وبالهند منى شجر يخرج وردا عليه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فأنا للرياحين ملك ملوكها، ووسط عقودها وسلوكها:

فمن ذا يضاهينى بوصف فضيلة

وفضلى على كل الرياحين ظاهر

زمانى على الأزمان بى متشرّف

وفخرى لمن يبغى التفاخر قاهر

وفخر الورد بديع، وقد أنشد فيه المكلاتى ما أثر من الأشعار التى تثنى على الورد وتفضله على النرجس بل على جميع الأزهار. ونثر الفخر بل نثر المقامة جميعها بديع إذ كان يعرف المكلاتى كيف ينتخب ألفاظه وكيف يقابل بين سجعاته بألفاظ مألوفة ليس فيها غريب ولا شاذ نادر. وكانت تستمع إلى هذا الحوار حمامة مطوّقة، فأقبلت على الأزهار مفاخرة بدورها، تقول:

«فناحت بشجنها، وتكلمت على فننها، وقالت: كلّ يحاول جهده، ويقول بما عنده، إلىّ لا لكم الفخار، وأنتم لنا أعشاش وأوكار، وفروعكم لخطبائنا منابر، ولقياننا ستائر، أليس رءوسكم لأقدامنا خاضعة، ولنا كلما نزلنا ساجدة وراكعة، وإنا على ما زعمتم بنا من الجوى (4) وتباريحه، آخذون فى ذكر الله وتسبيحه، شغلنا بذلك فى الأسحار، والعشىّ والإبكار. . . ونشأت غمامة تصافح أهدابها الأرض، وتسد الآفاق على الطول والعرض، يحدوها الرعد، ويستنجز منها الوعد (وينشد):

وكأن صوت الرعد خلف سحابة

حاد إذا ونت الركائب صاحا

أخفى مسالكها الظلام فأوقدت

من برقها كى تهتدى مصباحا

جادت على التّلعات فاكتست الرّبى

حللا أقام لها الربيع وشاحا (5)

فنثرت بالأرض جواهر تغار منها البحور، وتزدان بها من أجياد الأزهار اللبّات والنحور،

(1) ذكية: ساطعة.

(2)

شذية: عطرة نسبة إلى الشذى.

(3)

قان: شديد الاحمرار.

(4)

الجوى: الوجد.

(5)

التلعات جمع تلعة: ما ارتفع من الأرض. الوشاح: شريط عريض مرصع بالجوهر.

ص: 508

واختفت بعد ما تجلّت، وألقت على البطاح ما فيها وتخلّت، ثم قالت: يا ذوات الأطواق، البائحات بالأشواق، المفتخرات على الأدواح، بالغدو والرواح، بكاءكن كذب، ونوحكن لعب. . ما الفضل إلا لمن أحيا الأرض بعد أن كاد زرعها يهيج ف (اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) فقلائدها مدبّجة، ورءوس أشجارها متوّجة، ولولاى لم يكن لكن مرعى، ولا مسرح فى الأرض ولا مسعى. . وطلعت الغزالة، وهى فى مشيها مختالة. وقالت: أعمال كسراب، وعارض منجاب، إذا طلعت عليه الشمس ذاب، ألم تعلموا أنى يوح (1)، أغدو فى مصالح العالم وأروح، ولولاى ما جرت الأنهار، ولا تفتّقت الأزهار». ويقول الراوى: إن جامع هذه الفضائل وإمامها عالم المسلمين. . محمد بن أبى بكر صاحب الدلاء الكريم الجواد، ويقول بعد التنويه بفضائله إنه وقع التسليم بمناقبه ومناقب أبيه البكرية، فطاف بالروض طواف الوداع عازما على أن يخدم جنابه بهذه الفكاهة.

وإنما أكثرت الاقتباس من هذه المقامة لأدل بوضوح على روعة ما جلبه فيها المكلاتى من أشعار وإبداعه فى نثرها المسجوع سجعا يكتظ بالعذوبة مع مابثه فيه من ألفاظ قرآنية بديعة من مثل آية آل عمران: {وَاُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ} وآية سورة الانشقاق فى وصف الأرض: {وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ} وآية سورة الحج: {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اِهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .

ونمضى إلى عصر الدولة العلوية وعهد سلطانها إسماعيل وما كان فيه من نهضة أدبية واشتهر بين الأدباء حينئذ محمد بن الطيب العلمى المتوفى سنة 1134 للهجرة وسنفرد له ترجمة بين كبار الكتاب، وكان يعاصره محمد المسناوى الدلائى المتوفى بعده بعامين سنة 1136 هـ/ 1724 م وله مقامة سماها المقامة الفكرية يبكى فيها زاوية الدلاء حين هاجمها وخرّبها السلطان إسماعيل العلوى، وهو يطيل الحديث عن متنزهاتها ورياضها وأنهارها التى كانت تملأ بطاحها وتلالها، ويشعر بحزن عميق حين يراها تحولت أطلالا عافية، يقول (2):

«منازلها خاوية، والذئاب فى أرجائها عاوية، وليس بها إلا الغربان واليوم، والحمائم تنوح فى أطلالها وتحوم، فخرجت منها ودموعى نهر غزير، بقلب كسير» .

ونلتقى أخيرا بمحمد بن إدريس وزير السلطان عبد الرحمن العلوى المتوفى سنة 1264 هـ/1847 م وله مقامة يصف فيها حملة لتأديب إحدى القبائل، ويصور مسيرتها بين الزروع والرياض، وينسب الحديث فيها إلى نصر بن كرامة، وفيها يقول (3):

(1) يوح: اسم للشمس.

(2)

انظر الحياة الأدبية فى المغرب على عهد الدولة العلوية للدكتور محمد الأخضر ص 199.

(3)

انظر المقامة فى النبوغ المغربى 2/ 243.

ص: 509