المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 -شعراء المدائح النبوية - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١٠

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [الجزائر]

- ‌2 - [المغرب الأقصى]

- ‌3 - [موريتانيا]

- ‌4 - [السودان]

- ‌القسم الأولالجزائر

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-الأغالبة-الإباضية-تلمسان

- ‌(ب) الأغالبة

- ‌(ج) الإباضيون

- ‌(د) تلمسان

- ‌4 -الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-بنو حماد

- ‌(أ) الدولة العبيدية

- ‌(ج) بنو حماد

- ‌5 -دولة الموحدين-الدولة الحفصية-بنو عبد الواد

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الجزائرى

- ‌2 -المعيشة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌4 -الدين-المالكية والحنفية-الإباضية-المعتزلة

- ‌(أ) الدين

- ‌(د) المعتزلة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌(ب) دور العلم:‌‌ الكتاتيب-‌‌المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌ الكتاتيب

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -كثرة الشعراء

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ عبد الكريم النهشلى

- ‌ ابن خميس

- ‌ الشهاب بن الخلوف

- ‌ محمد القوجيلى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ بكر بن حماد التاهرتى

- ‌ سعيد المنداسى

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد الرحمن الأخضرى

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ ابن على

- ‌2 -شعراء وصف الطبيعة

- ‌ عبد الله بن محمد الجراوى

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ إبراهيم التازى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والوصايا

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات

- ‌5 -كبار الكتاب

- ‌[(ب)] الوهرانى

- ‌القسم الثانىالمغرب الأقصى

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-ثورة الصفرية-بنو مدرار-الأدارسة-بعد الأدارسة والمدراريين

- ‌(ب) ثورة الصفرية

- ‌(د) الأدارسة

- ‌4 -المرابطون-الموحدون-بنومرين

- ‌(أ) المرابطون

- ‌(ب) الموحدون

- ‌5 -السعديون-الطرق الصوفية-العلويون

- ‌(أ) السعديون

- ‌(ج) العلويون

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع المغربى

- ‌1 -عناصر السكان

- ‌2 -المعيشة

- ‌3 -الثراء-الرّفة-الموسيقى-المرأة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) المرأة

- ‌4 -المالكية-الصفرية-المعتزلة-الظاهرية

- ‌(أ) المالكية

- ‌(ب) الصفرية

- ‌(ج) المعتزلة

- ‌(د) الظاهرية

- ‌5 -الزهاد-المتصوفة

- ‌(أ) الزهاد

- ‌(ب) المتصوفة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌ الكتاتيب

- ‌(ب) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌2 -علوم الأوائل

- ‌3 -علوم اللغة والنحو والعروض والبلاغة

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرب المغرب الأقصى-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب المغرب الأقصى

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 -شعراء الموشحات والأزجال

- ‌(أ) شعراء الموشحات

- ‌ ابن غرلة

- ‌ ابن الصباغ

- ‌ ابن زاكور

- ‌(ب) شعراء الأزجال

- ‌ابن عمير

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ ابن زنباع

- ‌ ابن حبوس

- ‌الجراوى

- ‌ ابن عبد المنان

- ‌الهوزالى

- ‌الدغوغى

- ‌البوعنانى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) الفخر

- ‌ الشاذلى

- ‌(ب) الهجاء

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد العزيز الملزوزى

- ‌ابن الونان

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ أبو الربيع الموحدى

- ‌ عمر السلمى

- ‌2 -شعراء الوصف

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌ ابن شعيب الجزنائى

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن المحلى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ميمون بن خبازة

- ‌ مالك بن المرحل

- ‌الفصل السادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والمواعظ

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌(ب) الرحلات

- ‌ رحلة ابن رشيد

- ‌ رحلة العياشى

- ‌ رحلة ابن ناصر

- ‌5 -كبار الكتّاب

- ‌(أ) القاضى عياض

- ‌القسم الثالثموريتانيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع والثقافة

- ‌1 -المجتمع

- ‌(أ) صنهاجة وقبائل المعقل العربية

- ‌(ب) الزروع والمراعى

- ‌(ج) التجارة

- ‌(د) حياة يدوية

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) نشاط دينى تعليمى كبير

- ‌(ب) التعليم والطلاب والشيوخ

- ‌(ج) أمهات الكتب والمتون والشروح المتداولة

- ‌(د) أعلام العلماء فى موريتانيا

- ‌(هـ) القراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء

- ‌(و) أعلام النحاة والمتكلمين

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرّب موريتانيا

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ ابن رازكة

- ‌3 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ المختار بن بون

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ الأحول الحسنى

- ‌ يقوى الفاضلى

- ‌2 -شعراء التصوف

- ‌ المختار الكنتى

- ‌الشيخ سيديّا

- ‌3 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ محمد بن محمد العلوى

- ‌4 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌القسم الرابعالسودان

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌3 -(ج) دولة الفونج

- ‌4 -محمد على والسودان-عهد إسماعيل

- ‌5 -حركة المهدى-خليفته عبد الله التعايشى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع السودانى-الثقافة

- ‌(أ) نزعة صوفية عامة

- ‌(ب) المرأة ومكانتها فى التصوف

- ‌(ج) التصوف والتربية الخلقية والدينية

- ‌(د) طرق صوفية جديدة

- ‌(هـ) دعوة المهدى ومبادئها الستة

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) كتاتيب-زوايا-مساجد

- ‌(ب) حركة علمية نشيطة فى عهد الفونج

- ‌(ج) سودانيون أزهريون وعلماء مصريون

- ‌(د) التعليم المدنى الحديث وتوقفه

- ‌(هـ) إنشاء معهد دينى وعودة التعليم المدنى الحديث

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ الشيخ حسين زهراء

- ‌ الشيخ محمد عمر البناء

- ‌3 -شعراء الفخر والحماسة

- ‌ الشيخ يحيى السلاوى السودانى

- ‌ عثمان هاشم

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ الشيخ محمد سعيد العباسى

- ‌(ب) رثاء المدن

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل العفيف

- ‌2 -شعراء النقد العنيف والشكوى من الزمن

- ‌الشيخ عبد الله البناء

- ‌ صالح عبد القادر

- ‌3 -شعراء التصوف

- ‌4 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ الشيخ عمر الأزهرى

- ‌ الشيخ عبد الله عبد الرحمن

الفصل: ‌5 -شعراء المدائح النبوية

فى الجزائر شيوخ المتصوفة الحقيقيين. وآخرهم كان شيخه محمد بن عمر الهوارى الذى كان يقول له ذلك قاصدا به أهل الكمال من الصوفية أو الصوفية الحقيقيين.

‌5 -

شعراء المدائح النبوية

يأخذ شعراء المدائح النبوية فى الكثرة بالجزائر والبلاد المغربية منذ القرن السابع الهجرى، وخاصة منذ النصف الثانى منه، وفى مقدمتهم محمد بن الحسن بن ميمون القلعى البجائى الذى أنشدنا له مقطوعة طريفة فى التصوف وكان يكثر من النظم فيه وفى المديح النبوى مثل قوله (1):

أمن أجل أن باتوا فؤادك مغرم

وقلبك خفّاق ودمعك يسجم (2)

وما ذاك إلا أنّ جسمك منجد

وقلبك مع من سار فى الركب متهم (3)

وما ضرّهم لو ودّعوا يوم أودعوا

فؤادى بتذكار الصبّابة يضرم

وإنّي لأدعو الله دعوة مذنب

عسى انظر البيت العتيق وألثم

فيا طول شوقى للنبىّ وصحبه

ويا شدّ ما يلقى الفؤاد ويكتم

إليك رسول الله أرفع حاجتى

فأنت شفيع الخلق والخلق هيّم (4)

وقد أثقلت ظهرى ذنوب عظيمة

ولكنّ عفو الله أعلى وأعظم

وهو لا يخفى صبابته بأصحابه الذين فارقه موكبهم العظيم إلى الحج وزيارة الأراضى المقدسة وقلبه يخفق ودمعه يسجم، فقد أنجد جسمه وفارق قلبه متهما مع من يرودون تهامة إلى مكة والمدينة، ويقول ما ضر رفاقى الذين ستكتحل عيونهم بنور هذه البقاع الطاهرة لو ودعونى يوم رحيلهم حين أودعوا فى فؤادى نار الصبابة مضطرمة ملتهبة، وإنّي لأدعو الله دعوة خاشع بل دعوة مذنب أن يتاح لنظرى أن يكتحل بنور البيت العتيق وأقبّل الحجر الأسود كما قبله الرسول الكريم، وما أشد شوقى للرسول وصحبه، وما أشد ما يلقى فؤادى وأكظم. وإنّي يا رسول الله أتمنى عليك أن تشفع لى كما تشفع لجميع الخلق يوم القيامة، وهم جميعا عطاش عطشا شديدا والحر من الزحام آخذ بخناقهم، وقد أثقلت ظهرى ذنوبى، ولكن أملى فى عفو الله أكبر وأعظم. وكان عبد المنعم الغسانى فقيه مدينة الجزائر وأديبها وشاعرها فصاحة لسان وإحكام بيان وتولى القضاء فى بجاية مدة طويلة، وتوفى فى عشر الثمانين وستمائة، ومن نبوياته قوله (5):

(1) عنوان الدراية ص 70.

(2)

يسجم: يسيل.

(3)

منجد: فى نجد. متهم: فى تهامة.

(4)

هيم: عطاش.

(5)

عنوان الدراية ص 112.

ص: 209

لكل نبىّ دعوة مستجابة

وسيّدهم طرّا خباها لأمّته

إلى يوم لا يغنى عن المرء منطق

فصيح ولا يدلى البليغ بحجته

ويوم يفرّ المرء من ولد له

حبيب ولا يجزى أب بأبوّته

وكل نبىّ يسأل الله نفسه

ويضرب صفحا عن سؤال لأمّته (1)

خلا شافع فينا كريم مشفّع

به يشمل الله العباد برحمته

فيا ربّه بلّغ عبيدك قبره

ليحظى بتقبيل لطاهر تربته

وجازه عنا بالذى أنت أهله

أعزّ الورى أنت الكفيل بمنّته

وهو يقول إن لكل نبى دعوة مستجابة، وسيد الأنبياء جميعا محمد صلى الله عليه وسلم خبأ دعوته إلى يوم القيامة الموصوف فى سورة عبس بقوله جل شأنه: إنه يوم الصاخة التى تصخ الآذان وتصمها، فلا يستطيع أحد نطقا ولا كلاما {(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)} وحتى الأنبياء يشغلون بأنفسهم عن أممهم إلا سيد الخلق جميعا رسول الأمة الإسلامية فيدعو الله متشفعا لأفرادها فى هذا اليوم يوم المحشر الرهيب، ويقبل الله شفاعته، ويشمل بها العباد برحمته. ويتوسل الشاعر إلى ربه أن يبلغه المدينة ليحظى بتقبيل قبره الطاهر، ويسأله أن يجزيه عن أمته بما هو أهله، إنه خير الورى وهو الكفيل بإعطائه ما يتكافأ مع حقه وجزائه. ونلتقى بإبراهيم (2) بن أبى بكر التلمسانى المتوفى سنة 697 هـ/1298 م والذى افتتح به أبو القاسم الحفناوى كتابه:«تعريف الخلف» وله أمداح نبوية منها-كما ذكر من ترجموا له-المعشرات على أوزان العرب، وكانت كل قافية تشتمل على عشرة أدوار، وله مدحة فى المولد النبوى، ولم يذكر من ترجموا له شيئا من شعره فى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم. ويلقانا بأخرة من القرن السابع ومطالع القرن الثامن محمد بن عبد الله بن محمد العطار وسنخصه بترجمة.

وكان المشرق قد استنّ الاحتفال بالمولد النبوى فى ليلة الثانى عشر من ربيع الأول فى القرن الحادى عشر الميلادى بمصر أيام الفاطميين بطريقة رسمية، وأول احتفال به بطريقة جماهيرية شعبية كان فى إربل لأوائل القرن الثانى عشر الميلادى إذ احتشد له الحاكم الأيوبى والعلماء والشعراء والمتصوفة من مختلف البلاد العراقية وذبحت فيه ذبائح كثيرة وطاف الناس ليلا فى مواكب بمشاعل متوهجة وشاع ذلك فى البلدان. ونقله أبو العباس (3) العزفى الشريف إلى سبتة مدينته، وعنها شاع فى تلمسان وغيرها من البلاد المغربية. وكان الذى أشاعه فى

(1) يضرب صفحا: يعرض.

(2)

له ترجمة فى بغية الرواد ليحيى بن خلدون 109 والإحاطة 1/ 326 والبستان ص 55 وتعريف الخلف 1/ 13.

(3)

أزهار الرياض 1/ 39.

ص: 210

تلمسان والجزائر وجعله تقليدا للدولة الزيانية أبا حمو موسى (760 - 791 هـ). يقول أبو عبد الله التنسى فى كتابيه (1): «راح الأرواح فيما قاله أبو حمو من الشعر وقيل فيه من الأمداح» ونظم الدر والعقيان فى بيان شرف بنى زيان: إن أبا حمو موسى كان يقيم ليلة مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم ويدعو لها فى احتفال كبير يحشد فيه الناس خاصة وعامة، وما شئت من نمارق (وسائد) مصفوفة ومجالس مبثوثة وبسط موشّاة، ووسائد بالذهب مغشّاة، وشمع كالأسطوانات وموائد كالهالات، وتفاض على الجميع أنواع الأطعمة، رتّب فيها الناس على مراتبهم، تطوف عليهم ولدان لبسوا أقبية الخزّ الملون، بأيديهم مباخر ومرشات، ينال كل منها بحظه. وبعقب ذلك يبدأ المنشدون بأمداح المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبمكفّرات ترغّب فى الإقلاع عن الآثام، يخرجون فى كل ذلك من فن إلى فن ومن أسلوب إلى أسلوب، ويأتون من ذلك بما تطرب له النفوس وترتاح إلى سماعه القلوب. وبالقرب من السلطان خزانة المنجانة «الساعة الدقاقة» الموصوفة فى الحديث عن الرفه بفصل المجتمع، وقد زخرفت، ولها أبواب مغلقة على عدد ساعات الليل الزمانية، وكلما مضت ساعة وقع النقر بقدر حسابها، ويفتح عند ذلك باب من أبوابها، وتبرز منه جارية بديعة وبيدها اليمنى رقعة تشتمل على نظم فيه تلك الساعة، ونسوق ما تقوله بعد انقضاء ثلاث ساعات من الليل، وجميع ما تقوله مديح فى أبى حمو (2):

أمولاى يا بن الملوك الألى

لهم فى المعالى سنىّ الرّتب

تولّت ثلاث من الليل أبقت

لك الفخر فى عجمها والعرب

فدم حجّة الله فى أرضه

تنال الذى شئته من أرب

ولا يزالون فى هذا الحفل النبوى إلى انبلاج عمود الفجر ونداء المؤذن حىّ على الفلاح يبشّر بصلاة الصباح. وكانت كل ليلة فى المولد النبوى لكل عام تبدأ بمدحة نبوية، وتسمى المدحة فى مولده صلى الله عليه وسلم مولدية نسبة إلى أنها نظمت فى مولده، ومن قول أبى حمو فى إحدى مولدياته (3):

حياتى وموتى فى هواكم وإننى

أعلّل نفسى فيكم بالأمانىّ

فيا أهل نجد أنجدونى على الهوى

فإنّى فى بحر من الشّوق لجّىّ (4)

مقيم بأقصى الغرب أشكو به الجوى

وحالى على حكم النّوى غير مخفىّ

(1) أزهار الرياض 1/ 243 وما بعدها وقارن بتاريخ بنى زيان ملوك تلمسان مقتطف من نظم الدر والعقيان لأبى عبد الله التنسى ص 162.

(2)

انظر فى أبيات المنجانة طوال ساعات الليل أزهار الرياض 1/ 246.

(3)

تاريخ بنى زيان ملوك تلمسان لأبى عبد الله التنسى ص 166.

(4)

لجى: متراكم الأمواج.

ص: 211

تناسيتم عهدى وحفظ مودّتى

وحبّكم فى القلب ليس بمنسى

وما أرتجى إلا شفاعة خير من

أتى بالهدى يهدى بدين حنيفى (1)

به يرتجى العاصون غفران ذنبهم

وما عملوا فى الدّهر من عمل سىّ (2)

بمولده قد أشرق الكون كلّه

وكلّ سنا شمس وبدر ودرّىّ

فحياة «أبو حمو» وموته فى هوى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن نفسه لتمتلئ إزاءه بما لا يحصى من الآمال، ويستغيث بأهل نجد أن ينجدوه على الهوى فإنه غارق من الشوق فى بحر لجى كثير اللجج لا أول له ولا آخر، مقيم بأقصى الغرب فى تلمسان يشكو الوجد، وحاله من البعد غير خاف. وتنتابه لحظة شك، فيقول: تناسيتم عهدى ومودتى ونار حبكم فى قلبى لا تخمد ولا تنطفئ، وإن كلى رجاء أن يشفع لى خير مشفع أتى بالهدى وبدين حنيفى مستقيم لا عوج فيه، وإن العاصين ليقفون ببابه آملين فى شفاعته وأن يغفر لهم ربهم ما اقترفوا من آثام أو أعمال بالغة السوء، وإنه لنور الوجود فمنه أشرق الكون كله، ومنه ضوء كل شمس وبدر وكوكب درىّ. وللثغرى مولدية فى نفس السنة التى قال فيها أبو حمو مولديته السالفة وفيها يقول (3):

شمس الرسالة والنبوة والهدى

بدر الجلالة نورها المتجسّم

هو رحمة الله التى يهمى بها

فى الخلق بالحق المبين ويحكم (4)

يا من له قبل الولاد وبعده

آيات إرشاد لمن يتوسّم (5)

أسريت للسبع الطّباق فأقبلت

أملاكها طرّا عليك تسلّم

وتبرّكت بصلاتك الأرسال إذ

صلّت وأنت إمامها المتقدم

رفعت لك الحجب العظيمة فاعتلى

بك للعلى ذاك المقام الأعظم

حتى سمعت صرير أقلام بما

فى اللوح محفوظا تخطّ وترسم

تلك المراتب لم يكن لينالها

إلا النبىّ الهاشمىّ الأكرم

والثغرى يقول إن الرسول شمس الرسالة الساطعة وبدر الجلالة المنير ونورها الدرىّ المتجسّد، إنه رحمة الله التى لا تزال تنصبّ فى الخلق بالحق وتحكم، يا أيها الرسول العظيم الذى سبقته وجاءت معه آيات ومعجزات لمن يتوسم الخير ويأمله. وهل معجزة أعظم من معجزة المعراج واختراق السموات السبع والملائكة حافون به يسلمون عليه، وهبط إلى بيت المقدس فأمّ به الرسل، إنه إمامهم المقدم الأعظم، ورفعت له الحجب حتى سمع صرير الأقلام وهى تكتب فى اللوح المحفوظ ما خطّ للناس ورسم لهم. وتلك المراتب العليا لم يكن ليظفر

(1) حنيفى: مستقيم لا عوج فيه

(2)

سىّ: سيّئ وخفف للقافية.

(3)

انظر تاريخ بنى زيان ملوك تلمسان ص 171.

(4)

يهمى بها: يصبّ بها وينشر.

(5)

يتوسم: يتفرس ويتأمل.

ص: 212

بها أحد إلا النبى العربى الهاشمى العظيم. ويذكر لنا يحيى بن خلدون فى الجزء الثانى من كتابه بغية الرواد مولدية له ألقاها بين يدى أبى حمو موسى سنة 778 وفيها يقول مادحا الرسول الكريم:

سيّد العالمين دنيا وأخرى

أشرف الخلق فى العلا والسماح

صفوة الخلق أرفع الرّسل قدرا

وسراج الهدى وشمس الفلاح

من رقى فى السّماء سبعا طباقا

ورأى آى ربّه فى اتضاح (1)

ودنا منه قاب قوسين قربا

ظافرا فى العلا بكل اقتراح

من يجير الورى غدا يوم يجزى

كلّ عاص وطائع باجتراح (2)

من إلى حوضه وظلّ لواه

يلجأ الناس بين ظام وضاح (3)

ويحيى بن خلدون يقول إن الرسول سيد العالمين طرا دنيا وأخرى، وأشرف الخلق وصفوتهم وأرفع الرسل قدرا ومنزلة عند ربه، وسراج الهدى وشمس الفلاح، من منحه الله معجزة المعراج الكبرى، فصعد به سبع سماوات طبقة بعد طبقة و {(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى)} كما جاء فى سورة النجم ودنا منه أى من جبريل {(قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)} أى قدر ذراعين تقريبا ظافرا من ربه بكل ما توسل به إليه، منزلة لم يحظ بها رسول قبله. وحسبه من محبة الله له أنه سيكون المجير لا للطائعين فحسب بل أيضا للعصاة يوم الفزع الأكبر: يوم الحشر الموعود، وسيقف على حوضه ويمتد عليه لواء معلم ويسقى منه أمته يوم القيامة. وعلى عادة أصحاب المولديات التى تلقى فى الاحتفالات الكبرى بليلة المولد النبوى يستطرد يحيى بن خلدون فى مولديته-كما استطرد الثغرى أيضا فى مولديته-لمديح أبى حمو موسى. وعادة يتقدم المديح النبوى فى المولدية نسيب يكتظ بالوجد والصبابة وأحيانا يمزج ببعض الوعظ.

وكانت المدائح النبوية لا تزال تنظم بجوار هذه المولديات، واشتهر بالنظم فيها غير شاعر مثل عبد الله البسكرى الصوفى معاصر يحيى بن خلدون، فهو من شعراء النصف الثانى من القرن الثامن الهجرى، وله فى مديح المدينة قوله (4):

دار الحبيب أحقّ أن تهواها

وتحنّ من طرب إلى ذكراها

وعلى الجفون متى هممت بزورة

يا بن الكرام عليك أن تغشاها

فلأنت أنت إذا حللت بطيبة

وظللت ترتع فى ظلال رباها (5)

معنى الجمال منى الخواطر والتى

سلبت عقول العاشقين حلاها

(1) رقى: صعد. طباقا: طبقة فوق طبقة.

(2)

اجتراح: اكتساب السيئات والحسنات.

(3)

ظام: فى أشد العطس. ضاح: أصابته حرارة الشمس.

(4)

تعريف الخلف 2/ 240.

(5)

طيبة: المدينة.

ص: 213

لا تحسب المسك الذّكىّ كتربها

هيهات! أين المسك من ريّاها (1)؟ !

طابت فإن تبغ التطيّب يا فتى

فأدم على الساعات لثم ثراها

والبسكرى يقول إن دار الحبيب أحق دار بأن تهواها ويملؤك الحنين شوقا إلى ذكراها ومتى هممت بزيارة أصبح واجبا عليك أن تغشى تلك الدار وتكتحل جفونك بمرآها وما أعظمك إذا حللت بها وتنقلت فيها، إنها معنى الجمال وبها جميع منى الخواطر، وطالما سلبت حلاها عقول عاشقيها الهائمين بها وجدا وصبابة. وإن ترابها ليفوق المسك العاطر وهيهات؟ أين المسك من شذاها الطيب، لقد طابت فإن تبغ التطيب والتعطر فأدم تقبيل ثراها الذكى العطر.

وتلقانا شروح كثيرة لبردة البوصيرى فى المديح النبوى، من ذلك شرح لسعيد (2) العقبانى المتوفى سنة 811 للهجرة وثلاثة (3) شروح لابن مرزوق الحفيد أكبر وأوسط وأصغر، وسمى الأكبر إظهار صدق المودة فى شرح البردة، وسمى الأصغر الاستيعاب لما فى البردة من البيان والإعراب، وشرح قصيدة الشقراطسى التونسى النبوية بشرح سماه المفاتيح القرطاسية فى شرح الشقراطسية. ونلتقى بالشهاب بن الخلوف بأخرة من القرن التاسع الهجرى، وله ديوان جميعه مديح نبوى، ولم يتح لى أن أراه، غير أن ديوانه الكبير المنشور بتونس به مجموعة من المدائح النبوية، ونذكر منها توسلا بديعا بالرسول كى يغفر الله له ذنوبه، وفيه يقول (4):

يا أرحم الراحمين ارحم وجد كرما

فأنت أنت أمان الخائف الوجل

واغفر بطه ذنوبا ليس يغفرها

إلاّك يا غافر الأوزار والخطل (5)

ونجّنى واعف عنى وأتنى منحا

تنيلنى الفوز فى حلّ ومرتحل

وصلّ ربّ على المختار من مضر

خير النبيين والأملاك والرّسل

روح العوالم سرّ الكون أجمعه

إكسير كنز المعالى علّة العلل (6)

عليه صلّى إله العرش ما اتضحت

آيات شمس الضحى فى دارة الحمل (7)

وآله الغرّ والأصحاب ما خطرت

معاطف البان فى أثوابها الخضل (8)

وهو يدعو ربه أن يجود عليه بالرحمة، فإنه أمان الخائف الفزع، ويتوسل إليه بالرسول أن يغفر ذنوبه وآثامه، وهل يغفرها سواه؟ إنه الرحيم الغفار، ويسأل رب العزة النجاة والفوز مقيما وراحلا، كما يسأله أن يصلى على رسوله العربى خير النبيين والملائكة والرسل، ويقول إنه روح الوجود وسر الكون، وإكسير المعالى الذى يرفعها إلى الذرى وعلة العلل فى الوجود

(1) ريّاها: رائحتها الذكية الطيبة.

(2)

البستان ص 106.

(3)

البستان ص 210.

(4)

الديوان ص 66.

(5)

الأوزار: الآثام.

(6)

الإكسير: مادة تحول المعدن ذهبا.

(7)

الدارة: الهالة. الحمل: برج الشهر الأول فى الربيع.

(8)

الخضل: الخضراء الندية.

ص: 214

جميعه. وهذا البيت يجمع كل ما قاله البوصيرى وغيره عن الحقيقة المحمدية وأنها سر الكون وعلته، ومنها يستمد نوره وضياءه. ويقول صلّى عليه إله العرش طالما اتضحت شمس الضحى فى أزمنة الربيع أى طوال الدهر، وصلّى أيضا على آله الأشراف وأصحابه ما ظلت أغصان البان ريّانة ندية أى على مر الزمن.

ونمضى إلى العهد العثمانى، وفيه يكثر المديح النبوى كثرة مفرطة حتى لينظم فيه كل شاعر مدحة أو أكثر، وقد ينظم فيه ديوانا مثل عبد الكريم الفكون المتوفى سنة 1073 هـ/1662 م إذ له ديوان فى المديح النبوى وقد رتبه على حروف المعجم، وجعل مبدأ كل مجموعة من أبيات كل قافية حرفا من حروف:«اللهم اشفنى بجاه محمد آمين» وجملة حروف هذه الصيغة خمسة وعشرون حرفا، فى كل حرف مثلها أبياتا ففى قافية الهمزة خمسة وعشرون بيتا، وهكذا إلى آخر الحروف، وانتهى الفكون من نظم الديوان سنة 1031 هـ/1621 م وكان قد أصيب بشلل فى هذه السنة ألزمه الفراش، فشفاه الله منه، وله قصائد مختلفة فى التوسل إلى ربه. وكان يعاصره سعيد المنداسى التلمسانى الذى ترجمنا له فى شعراء الهجاء وكان يجمع بين الشعر الشعبى والشعر الفصيح، ونظم كثيرا من الشعر الأول، واشتهر فيه بقصيدة نبوية فى نحو ثلاثمائة بيت سماها «العقيقة» وشاعت بين أهل الجزائر شيوعا كبيرا، ولأبى راس عليها شرح سماه الدرة الأنيقة، ويقال له عليها سبعة شروح، ولكل شرح عنوانه الخاص. وفى الديوان الذى نشره له الأستاذ رابح بونار أربع قصائد نبوية، وقد أنشدنا قطعة من غزل أولاها فى باب الغزل، ومن قوله فى مديحها النبوى (1)

هل رأيتم أو سمعتم حسنا

فى الورى من حسنه الحسن اكتمل

أحمد المبعوث فينا رحمة

خير من قام بحقّ وكفل

آية الله أمين صادق

وحبيب الله برّ منتضل (2)

قد تحلّى-إذ تجلّى-بدره

بالبها من ربّه عز وجل

فامتطى متن جواد للعلا

خافق كالبرق للوصل رفل (3)

أمّ رسل الله ليلا وارتقى

للمنى يطوى من السّاح الكلل (4)

آدم المبرور صلّى خلفه

وأولو العزم مصابيح الملل

قد رأى من ربّه مالا رأى

قبله طرف نبىّ مرتسل

والمنداسى يقول: هل رأيتم أو سمعتم حسنا فى الورى، كل حسن يستمد من أشعته النورانية؟ إنه أحمد المبعوث رحمة هدية للعالمين، أعظم من رعى الحقوق وأداها، آية الله الأمين

(1) ديوان سعيد المنداسى تحقيق الأستاذ رابح بونار ص 40.

(2)

منتضل: شجاع.

(3)

رفل: زها وتبختر فى سيره

(4)

الساح: يريد السموات. الكلل: يريد الطباق.

ص: 215

الصادق وحبيبه البر المجاهد فى سبيله، وقد حفّه الله بهالة من البهاء، فسخّر البراق له يعرج به إلى السموات السبع، وأمّ الرسل ليلا تكريما له. ويفيض سعيد المنداسى فى بيان معجزاته، ثم يعود إلى معجزة المعراج ويقول إن الله خص به رسولنا من دون الرسل جميعا تكريما لا يماثله تكريم. ويتحدث المنداسى عن مولد الرسول فى مدحة نبوية ثانية قائلا (1):

طه الأمين الذى ترجى شفاعته

يوم التلاقى وطىّ الخلق منشور (2)

من سبق الرّسل عند الله فى أزل

فضلا وللخلق بعد الرسل تأخير

وانقضّ إيوان كسرى عند مولده

وغاب من نار وسط الفرس تسعير (3)

وجلّل الأفق منه النور فى سحر

كأنّ فى الفجر هدى الصبح منحور (4)

وفى السماء خيول الشّهب راكضة

كأنها فى وغى الجو الزنابير (5)

وفى المنازل تحت العرش إذ علمت

بمولد المصطفى الولدان والحور

تزينت وازدهت وساغ مشربها

وطرّبتها من الطير الزمامير (6)

حول الخيام الغصون اللّدن ساجدة

وللملائك تهليل وتكبير

وهو يقول إن طه الرسول الأمين الذى ترجى شفاعته يوم الحشر الأكبر يوم كل إنسان يرى عمله المطوى منشورا تحت بصره. قد سبق الرسل فى الخلق والقدم الأزلى كما أن الرسل سابقون فيه بقية الخلق. ولقد حدثت معجزات شتى يوم مولده، فقد انقض إيوان كسرى وانطفأت نار الفرس المجوس بعد أن ظلت مشتعلة متوهجة قرونا، وعم الأفق منه نور فى السحر، حتى ظن أن هدى الإبل وغيرها إلى الكعبة ذبح فى فجر هذا النور استبشارا به. أما فى السماء فإن الشهب-ملأتها-زنابير. ويقول إن الولدان والحور العين فرحت بمولد الرسول وتزينت وامتلأت زهوا وسرورا وغنتها الطيور بمختلف الأغانى، وحتى الغصون اللينة الناعمة حول الخيام سجدت لربها شكرا. وهللت الملائكة وكبرت تكبيرا.

وينقل أبو القاسم الحفناوى فى كتابه تعريف الخلف عن أحمد (7) بن عمار بترجمته أن مجلّى حلبة المولديات ومقدّم الجماعة فيها وإمام الصناعة وركاب صعابها ومذللها عاشق الجناب المحمدى ومادحه بلا معارض، ومثلّث طريقتى البوصيرى وابن الفارض، الشيخ أبو العباس أحمد المانجلاتى، أتحفه الله بمنفهق رضوانه، وألحفه مطارف (حلل) التكريم فى

(1) ديوان سعيد المنداسى التلمسانى ص 69.

(2)

طى الخلق: الكتاب الذى كان مطويا عن الخلق.

(3)

تسعير: اشتعال وتوهج.

(4)

الهدى: ما يضحى به من الإبل وغيرها نسكا.

(5)

الزنابير جمع زنبور: حشرة تلسع.

(6)

الزمامير: يريد أصوات الطير وألحانها.

(7)

انظر تعريف الخلف 2/ 89.

ص: 216

أعالى جنانه، ويقول الحفناوى أثبتّ من مولدياته ما يطرب ويروق، ويبهر الشمس عند الشروق، فمن ذلك قوله من موشحه (1):

بالله حادى القطار

قف لى بتلك الديار واقر السّلام

سلّم على عرب نجد

واذكر صبابة وجدى كيف يلام

من بادرته الدّموع

شوقا لتلك الربوع مع المقام

وهو ينادى بالله على حادى القطار أى القافلة أن يقف بديار الحبيب ويقرئه السلام، ويسلم على عرب نجد، أصحاب الصبابة والوجد، ويتساءل كيف يلام من ابتدرته الدموع شوقا لتلك الربوع وساكنها ومقامه العظيم. والمانجلاتى من شعراء القرن الحادى عشر الهجرى وذكر ابن عمار أنه كان له ديوان نبوى جميعه قصائد مولدية تزرى بالأزهار الندية، ويقول: وجاء مصليا خلفه (تالياله) سحبان البلاغة وقسّ البراعة شيخنا أبو عبد الله محمد بن محمد المشهور باسم ابن على. وأنشد له موشحا نبويّا على غرار موشح المانجلاتى وفيه يقول:

بالله طاوى القفار

عرّج بذاك المزار حيث الكرام

عرّج بربع المعال

وابرد بذاك الوصال حرّ الغرام

حسب المشوق الكئيب

أن شمله بالحبيب له التئام

نأت علينا الديار

وفى الفؤاد جمار لها انضرام

وابن على يقول: بالله يا قاطع القفار عرّج نحو مزار الأحبة الكرام، عرج نحو منزل المعالى وبرّد بهذا الوصال النار المضطربة فى الفؤاد وحسبى أن اجتمع شملى بالحبيب. ولقد بعدت عنا الديار، وفى الفؤاد قطع من الوجد الملتهب تضطرم نارا حامية. ولأحمد بن عمار نفسه فى موشحة:

يا نسيما بات من زهر الرّبى

يقتفى الركبان

احملن منى سلاما طيّبا

لأهيل البان

اقرأن منى سلاما عبقا

إن بدت نجد

إن لى قلبا إليها شيّقا

شفّه وجد

وموشحته يهبط أسلوبها درجة عن الموشحتين السابقتين، ومع ذلك كان يعد من كبار الشعراء فى القرن الثانى عشر الهجرى، وله شعر كثير فى الوصف وغيره من الموضوعات، ويقال كان له ديوان فى المديح النبوى، يشتمل على منظومات من القصائد والموشحات. ونتحدث الآن عن أبى عبد الله محمد بن عبد الله العطار أهم شعراء المديح النبوى الجزائريين.

(1) انظر فى المقطوعة التالية وتاليتيها تعريف الخلف 2/ 90 وما بعدها.

ص: 217

محمد (1) بن عبد الله العطار

هو محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن العطار، هكذا نقلا عنه فى آخر ديوانه النبوى الذى سماه:«نظم الدرر فى مدح سيد البشر» وسماه أيضا: «الورد العذب المعين فى مولد سيد الخلق أجمعين» والاسم الأول هو الذى اشتهر به الديوان لأنه أخف وأطرف، وجاء فى ختامه:«كان الفراغ منه ضحوة يوم الجمعة الثانى من شعبان سنة ست وتسعين وستمائة ما عدا أربع قصائد، فإنها تقدمت على إنشائه أودعتها فيه، وذلك بمدينة الجزائر، جزائر بنى مزغنة من أقصى إفريقية من أرض متيجة» . ومتيجة هى الإقليم الذى تقع فيه مدينة الجزائر. وبذلك يكون قد فرغ من نظم هذا الديوان النفيس بمدينة الجزائر سنة 696 هـ/1297 م ويقول المقرى: «ليس هو بابن العطار المشرقى الذى كان معاصرا لابن حجة الحموى [المتوفى سنة 837 هـ/1433 م] فإن ذلك متأخر عن هذا. . وهذا مغربى وذلك مشرقى فلم يتفقا لا فى زمان ولا فى مكان سوى فى اشتراكهما بابن العطار» . ويذكر المقرى-وتبعه فى ذلك الحفناوى-أن محمد بن أحمد بن الأمين الآقشهرى روى الديوان عن ناظمه ابن العطار وأنه قرأه عليه قراءة ضبط وتصحيح ورواية مقابلة بأصله بموضع الحكم فى مدينة الجزائر فى ذى القعدة أواخر عام سبعة وسبعمائة. ويدل هذا النص على أن ابن العطار كان فى سنة 707 هـ/1308 م قاضيا بمدينة الجزائر. وقد اطلع المقرى على ديوانه، وجاءنا منه ببعض روائعه، بادئا بتسديس، وقوافيه تكون عادة بعدد الحروف الهجائية، ولكل حرف أربع شطور، يليهما شطران ينتهيان بحرف يلتزم فيهما بكل دور كقوله فى تسديس له (2):

صلّوا على البدر المنبر الأكمل

صلّوا على الرّوض البهىّ الأجمل

صلوا على الهادى النبىّ الأحفل

المصطفى الأرقى لأنزه محفل

فيه تقدّم وحده تقديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

وهو يقول صلوا على البدر المنير الكامل والروض البهىّ العاطر الهادى لأمته الحانى عليها والمحتفى بهداها، المصطفى الذى صعد به ربه لأنزه وأروع مقام-تقدم فيه وحده دون الرسل جميعا يناجى ربه؟ ؟ ؟ ، صلّوا عليه وسلّموا تسليما. والشطر الأخير يكرر فى كل دور مع شطر منته بالميم محدثا رنينا صوتيّا بديعا للتسديس. ويذكر المقرى للعطار تسديسا ثانيا، نذكر منه هذا الدور:

(1) انظر فى ترجمة العطار نفح الطيب للمقرى (طبعة د. إحسان عباس) 7/ 480 وما بعدها وكتاب تعريف الخلف لأبى القاسم الحفناوى 2/ 550.

(2)

نفس المرجعين السابقين.

ص: 218

صلّوا على من قد تنامى فخره

صلّوا على من قد تعاظم قدره

صلّوا على من قد تأرّج نشره

صلّوا على من قد تناسق درّه

عقد السّناء لمجده إكليلا

صلوا عليه بكرة وأصيلا

وهو يقول صلوا على من فخره لا يقف عند حد بل كل يوم فى نمو وازدياد لمحبة الخلق له ومحبة ربه. صلوا على من يتعاظم قدره عند الناس وعند الذات العلية. صلوا على من عطره يفوح من كل جانب، ومن لآلئ تعاليمه تطرد لأتباعه فى أنساق محكمة، وقد عقد له الشرف والمجد تاجا عظيما، صلوا عليه بكرة وأصيلا. ويختم بهذا الشطر كل دور مع شطر لامى قبله. ويبثّ العطار فى قصيدة له حنينا ظامئا إلى زيارة يثرب والرسول الكريم منشدا:

أهدت لنا طيب الروائح يثرب

فهبوبها عند التنسّم يطرب

رقّت فرقّ من الصبابة والأسى

قلب بنيران البعاد يعذّب

شوقا إلى أسنى نبىّ حبّه

يحلو على مرّ الزمان ويعذب

فزنا به بين الأنام بديمة

أبدا علينا بالأمانى تسكب

حاز السيادة والكمال محمّد

فإليه أشتات المحامد تنسب

محبوبنا ونبيّنا وشفيعنا

يدنى إلى ورد الرضا ويقرّب

إن طابت الأنفاس من زهر الرّبى

ريّاه أذكى فى النفوس وأطيب

والعطار يقول إن يثرب أهدت لنا مع الرياح طيبا، واختلاطها فى هبوبها بالأرج يملأ قلوبنا طربا، ويقول إنها رقّت ورق معها قلبى المعذب بالصبابة والوله شوقا إلى أعظم نبى حبه دائما عذب مستحب مهما كان الزمان مرّا كريها، ويقول إننا فزنا منه بسحابة لا تزال تسكب علينا بكل ما نريد من الأمانى. وقد حاز السيادة والكمال، إنه محبوبنا ونبينا وشفيعنا يوم الفزع الأكبر، وإن حبه ليدنى من رضا الله، وحسبك بذلك نعمة كبرى. ويقول إن أريج زهر الربى لا يقاس فى شئ إلى شذاه العطر، إنه أذكى فى النفوس وأطيب فى القلوب. ومن قوله متشوقا إلى طيبة وزيارة الرسول الكريم:

أبدا تشوقك أو تروقك يثرب

فإلى متى يقصيك عنها المغرب

هى جنّة فى النّفس يعذب ذكرها

والقرب منها والتدانى أعذب

والشّوق يثنينا إليها كلما

وقف الحمام على الأراكة يخطب

يا حبّذا فى ربع طيبة وقفة

بين الركائب والمدامع تسكب

حتى يرقّ للوعتى وصبابتى

ودموع عينى كلّ من يتغرّب

شوقا لمن زان الوجود وحبّه

يدنى إلى ربّ الرّضا ويقرّب

خير الورى محبوبنا ونبيّنا

حزنا به الجاه الذى لا يسلب

ص: 219

فدائما تشوق العطار يثرب ودائما يقصيه عنها المغرب، إنها الجنة التى يحلو له ذكرها، والقرب منها والدنو أكثر حلاوة وعذوبة. وإنه ليحن إليها كلما سمع الحمام يشدو ويترنم على أغصان الأراك والأشجار. ويتمنى وقفة فى ربع الأحبة ودموعه تهطل صبّا ملتاعا حتى ليعطف عليه المحبون مثله، شوقا للرسول الكريم الذى زان الوجود بطلعته السنية، والذى يدنى حبه من رضا رب العباد، خير الورى، محبوب أمته، ونبيها الذى حازت به جاهها ومكانتها العالمية. ويشيد بالرسول ويحمّل السلام إليه من يزورونه من جيرانه وصحبه، منشدا:

أسنى النبيّين قدرا نوره أبدا

يزيد حسنا على الأقمار باهره

وأفضل الخلق من عرب ومن عجم

أربت على الرّمل أضعافا مآثره

روض من الحلم غضّ راق منظره

بحر من العلم عذب فاض زاخره

إن جاد صاح بلقياه الزمان فمل

إلى مقام حبيب أنت زائره

وصف له حال صبّ مغرم دنف

رام الدنوّ فأقصته جرائره (1)

واذكر هناك بعيد الدار غرّبه

غرب فما غائب من أنت ذاكره

أهدى السلام بلا حدّ ولا أمد

إلى محلّ رسول الله عامره

وهو يصف الرسول بأنه أعظم النبيين قدرا، ونوره يزيد حسنا على نور الأقمار حين تكون بدورا كاملة، وهو أفضل الخلق عامة من عرب ومن عجم، ومآثره أضعاف الرمل إحصاء وعدّا، وإنه لروض زاه من الحلم يروق منظره، وبحر عذب من العلم يفيض زاخره. ويتجه إلى بعض من أسعدته الظروف بالرحلة إلى زيارته، فيطلب إليه أن يصف له صبابته بزيارته وغرامه، وكيف حاول الاقتراب منه وأبعدته ذنوبه، ويقول له اذكر حال بعيد الدار عاجز عن الوصول إليه. وإنه ليهدى السلام إلى يثرب بلا حد ولا غاية ولا نهاية. ويتخيل نفسه وقد اكتحلت عيناه بطيبة وترابها، فينشد مبتهجا:

ولما بدت أعلام طيبة قصّرت

من الشوق ما قد طوّلته السباسب (2)

وقفنا وسلّمنا وفاضت دموعنا

وحنّت إلى ذاك الجناب الركائب

نزلنا وقبّلنا من الشوق تربها

وطابت بذاك التّرب منا التّرائب (3)

فللعين من تلك المعاهد نزهة

وللقلب فى تلك الرسوم مآرب

حوت سيّد الرّسل الذى جلّ قدره

له فى مقام القرب تقضى المطالب

ترقّى إلى السّبع الطباق وما بدا

له فى ترقّيه من الحجب حاجب

(1) مغرم دنف: أشفى على الهلاك. جرائره: ذنوبه.

(2)

السباسب جمع سبسب: المفازة والفلاة.

(3)

الترائب: عظام الصدر.

ص: 220

لقد أشرقت شمس النهار بنوره

وبدر الدّجى لما بدا والكواكب

أعلّل قلبى بالوصول لقبره

وإن غبت ما قلبى-وحقّك-غائب

وإنّي أناديه وإن كنت نازحا

نداء غريب غرّبته المغارب

والعطار يقول إنه حين بدت علامات طيبة أى المدينة قصّرت خطا الشوق التى كانت قد طوّلتها مفازات الطريق فى إفريقيا وجزيرة العرب، وما أعظم فرحته-كما يقول-فقد وقفوا وسلموا على ربوع طيبة أو ربوع الحبيب، وحنت معهم الركائب لهذه المنازل. ويقول إنهم نزلوا وقبّلوا تراب طيبة العطر وطابت به صدورهم وأفئدتهم، ونعمت العيون بمشاهد تلك المعاهد ونعمت القلوب، إذ حوت تلك المعاهد سيد الرسل الذى تجاب عنده المطالب، والذى صعد به جبريل إلى السموات السبع طبقة بعد طبقة ورفعت من دونه الحجب. وإنه لنور خالص، نور أزلى، ومن نوره تستمد الشمس والقمر والكواكب. وكأنما يفيق العطار من حلمه، فيرى نفسه لا يزال فى مدينة الجزائر لم يبرحها، ويقول إنه يمنّى نفسه بزيارة الرسول، وإن غبت عنه فإن قلبى ليس غائبا، وإنّي أناديه، وسأظل أناديه نداء غريب ظامئ أشد الظمأ لرؤية قبره العطر الشريف.

ص: 221