الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى توكله عليه كفاه هم العيش، إذ هو المهيمن على كل عيش وكل شئ. ويقول عمر الفاسى المتوفى سنة 1188 للهجرة (1).
الجأ إلى الله فى أمر تحاوله
…
وابرأ إلى الله من حول ومن حيل
وكل إلى الله كلّ الأمر واغن به
…
عمّن سواه فإنّ الله خير ولى
وهو يدعو قارئه إلى اللجوء لله فى كل أمر يحاوله ويبرأ إليه من كل قوة وكل حيلة، ويتكل عليه اتكالا صادقا مخلصا فى كل أمر، وليكتف به عمن سواه، فإنه خير المعينين على تحقيق الآمال، وهو فى ذلك يصدر عن مبدأ التوكل الصوفى. ونرى محمد بن عبد السلام بن ناصر الرحالة يصدر عن مبدأ الثقة فى الله الصوفى بمقطوعة فى أحد عشر بيتا ختمها جميعا بلفظ الجلالة، وفيها يقول (2):
لله فى الخلق ما اختارت مشيئته
…
ما الخير إلا الذى يختاره الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته
…
ما لامرئ حيلة فيما قضى الله
تجرى الأمور بأسباب لها علل
…
تجرى الأمور على ما قدّر الله
إذا ابتليت فثق بالله وارض به
…
إن الذى يكشف البلوى هو الله
إن الأمور إذا ضاقت لها فرج
…
كم من أمور شداد فرّج الله
الله لى عدّة فى كلّ نائبة
…
أقول فى كل حال حسبى الله
فهو يسلم أمره لربه مؤمنا بأن الخير ما اختارته المشيئة الإلهية له، ويقول إنه ينبغى الاستسلام لقضاء الله، فليس لشخص حيلة فيما قضى الله وقدّره على عبده، ويذكر أن الأمور تجرى بأسباب ولها علل قد تغيب معرفتها عن الإنسان فيما قدّر له، وينصح المرء إذا نزل به بلاء أن يثق فى الله ويرضى به، فإنه هو الذى يكشف غمّة البلوى عنه، ولا ييأس أبدا فإن الأمور مهما ضاقت ومهما اشتدت لا بد أن يزيحها من لدن الله فرج، ويقول إنه يتخذ الله عدة له فى كل نائبة وكل كارثة معلنا دائما فى صدق وإخلاص أن الله حسبه. ونقف قليلا لنتحدث عن صوفى مبكر فى عصر الموحدين هو
ابن المحلى
.
ابن (3) المحلى
هو محمد بن حسن بن عمر الفهرى، من أهل سبتة، كان أبوه قوّالا يغنى فى المحافل والأسواق-والمتلبّس بذلك يعرف فى المغرب بالمحلى-وقد ولد له محمد سنة 583 هـ/1187 م ونشأ نشأة ادبية وعلمية ممتازة أصبح بها من كبار أساتذة سبتة، وكان أديبا بليغا ناظما وناثرا، فقيها عاقدا للشروط نحويا ماهرا برع فى الأدب ودرّسه للطلاب عمره مع الفقه ومسائل
(1) الحياة الأدبية فى المغرب على عهد الدولة العلوية للدكتور محمد الأخضر ص 310.
(2)
انظر د. محمد الأخضر ص 371.
(3)
راجع فى ترجمة ابن المحلى وشعره الصوفى كتاب صلة الصلة لابن الزبير، كتاب الذيل والتكملة 8/ 1/289 والوافى 1/ 349.
الشريعة، وكان حسن القيام على تفسير القرآن مذكرا، وعقد له حلقات مدة فانتفع به خلق كثير، وكان واعظا ولوعظه تأثير كبير فى سامعيه. وظل يعظ الناس طويلا بمسجد مقبرة زقلو فى سبتة، وولى القضاء بها سنة 654 هـ/1257 م وظل يليه محمود السيرة مشهورا بالعدل إلى نهاية عمره سنة 661 هـ/1263 م. وكان شاعرا، وتعمقته النزعة الصوفية، وله فيها غير قصيدة، من ذلك قوله فى إحدى قصائده:
[هل يبرح] العشق قلبا أنت مطلبه
…
أو يذهب الشوق روحا أنت مذهبه
وكيف يرجو وصالا من تبعّده
…
أو كيف يخشى بعادا من تقرّبه
يا من أناجيه والأشواق توهمنى
…
نيل الوصال كأنّ الشوق يوجبه
كم طيبة لك بالألطاف توجدها
…
عند اللقا وفنائى فيك أطيبه
ومنّة الجود تدنيه فتؤنسه
…
وخشية الردّ تقصيه فتحجبه
مناى أنت وحسبى أن تكون منى
…
يا واهبا رغباتى قبل أرغبه
كن كيف شئت فما لى عنك منصرف
…
فالعبد ليس سوى مولاه مطلبه
وهو يقول إن حبه للذات العلية لن يبرح فؤاده لأنه مطلب قلبه وأمنيته. ولن يذهب الشوق روحا، الله مذهبه وعقيدته. فحبه لربه لن يفارقه أبدا، ويتجه إليه مخاطبا كيف يرجو الوصل من تبعّده، بل كيف يخشى البعد من تقرّبه. ويقول إنه يناجيه، وتوهمه أشواقه أنه سينيله الوصل كأن مجرد الشوق يوجبه، ويعترف بأنه ينثر عليه كثيرا من الأشياء الطيبة، ويقول إن أطيب ما تفضل به ربه عليه فناؤه فيه، فهو يفنى بحبه فى الذات الإلهية، ودائما تقرّبه من ربه منحة الجود، فيشعر بأنس لا حد له، وفى الوقت نفسه يخشى الرد وأن يقصيه فيحجبه عنه، ويقول إن ربه مناه وحسبه أن يكون أمنيته أو مطلبه. ويذكر أن الله دائما يحقق له رغباته حتى قبل أن يفكر فيها، ويقول سواء قبله أو رفضه فليس له منصرف عنه، إذ هو عبده الذى يطلب القرب من مولاه دائما أبدا. ويقول فى قصيدة أخرى:
فؤادى منقاد إليكم مذلّل
…
ومالى-إذا لجّ العذول-جماح
وهل من سبيل أن أطير إليكم
…
وقد حصّ بى ريش وقصّ جناح (1)
وأوحشتم فالكلّ فى الأذن نائح
…
لدىّ وآفاق الوجود فساح
خرست عن الشكوى إليكم مهابة
…
وألسن حالى بالغرام فصاح
ويا عجبا أنى أسير وأننى
…
أناشدكم أن لا يتاح سراح
إذا هزّ أرباب السماع تواجد
…
فحظى منه زفرة وصياح
وها أنا عند الباب منّوا أو اطردوا
…
فما لى عنه-كيف كان-براح
(1) حصّ: حلق ونتف.
وهو يقول إن فؤاده منقاد إلى ربه مذلّل لحبه، وليس له-إذا لجّ العذول اللائم-جماح عنه ولا انفكاك منه، بل إنه ليتمنى أن يطير طيرانا إلى الذات العلية غير أن ريشه حصّ وجناحه قصّ، يكنى بذلك عن أنه مقصر فى نسكه، ويقول إنه طال نأى الله عنه وينوح ويسمع نواح الكون وصياحه من كل جانب مشاركة له فى وجده وما يجد فى غرامه بربه. ويذكر أنه خرس عن الشكوى لمحبوبه مهابة وحياء، وهو يذوب حبا وغراما، ويعجب أنه أسير، ويناشد ربه أن لا يسرّحه ولا يرد إليه حريته، بل يظل فى أسره. ويذكر أنه حين يهز أرباب السماع للشعر الصوفى تواجد، فإنه يظل من بينهم يرسل الزفرات والصيحات هائما بحب ربه، ويقول إننى سأظل واقفا بعتبة الباب سواء منّ الله عليه بالقبول أو حرمه وطرده، ولن يبرحها أبدا، ومن قوله فى إحدى قصائده:
غرامى دعانى والعذول نهانى
…
فوجد وعذل كيف يجتمعان
أما علما أنى على الشّحط والنّوى
…
مقيم وأنى والهوى أخوان
يقولان لى: من ذا دعاك لما نرى؟
…
فقلت دعانى حبّه فدعانى
أعلّل نفسى بالسلوّ تعلّلا
…
وتلك أمان ما بهنّ أمانى
إذا خفق البرق اليمانى بأفقكم
…
أقابل ذاك الخفق بالخفقان
رعى الله جيران العذيب وأهله
…
وإن أترعونى من هوى وهوان
لئن حجبوا عن ناظرى فكأنهم
…
لقلبى يراهم فيه رأى عيان
وهو يقول إن غرامه بحب الذات العلية يدعوه للاستغراق فيه، بينما يلومنى عذول، والعذول والوجد أو الهيام لا يجتمعان، ويقول إنه ملازم للحب فى النأى والبعد، وإنه والهوى أخوان فكيف يظن أحد أنهما سيفترقان، ويقول له صاحباه: ما الذى دعاك لما نرى؟ فأجابهم دعانى حبه ودعانى أو اتركانى، ويذكر أنه يعلل نفسه أحيانا بالسلو، ولكن أنّى له. ويتحدث كشاعر عذرى فيقول إنّي إذا خفق البرق اليمانى بأفقكم خفق قلبى معه، ويدعو لجيران العذيب فى نجد وأهله أن يرعاهم الله وإن ملئوه من شراب الهوى والهوان ما ملئوه، ويقول إنهم إن غابوا عن ناظرى فإن قلبى يراهم متجسدين فيه رأى عيان. ويستمر منشدا:
أورّى بسلع والعذيب وحاجر
…
وتلك مغان ما لهن معانى
وأذكر سكان العذيب تستّرا
…
وما ذكر سكان العذيب بشانى
ولكن بقلبى من هو الحبّ كله
…
ومن ذكره فى خاطرى ولسانى
حبيب إذا لاحظت لم أر غيره
…
على أنه إذ لا أراه يرانى
ومن فضله وجدى به وتولّهى
…
ومن جوده ما أشتكى وأعانى
وطرت على حبّى له وكأنما
…
برانى لمعنى الحب حين برانى