الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووصف منشئاته العمرانية وخاصة الجامع الكبير الذى شاده والمدرسة الملحقة به وفيها يقول (1) أحمد القرومى:
وترى المدرّس قد علا كرسيّه
…
يلقى على العلماء حبّ الجوهر
تحويه مدرسة غدت آثارها
…
تحييه بالعلم الشريف الأشعرى
وكانت عقيدة الأشعرى قد شاعت فى البلدان المغربية-مثل العراق والشام ومصر- منذ القرن الخامس الهجرى. ويعترف ابن سحنون فى «الثغر الجمانى» بضعف الشعر فى زمنه لغلبة العجمة على الألسنة، فصار الناس يتغنّون بالملحون (العامى) وبه يهجون ويمدحون» ويضيف أن الشعر الفصيح شاع فيه الكسر فى الأوزان والاختلال فى المبانى والمعانى.
ويكثر فى العهد العثمانى مديح التلامذة لشيوخهم على نحو ما يلقانا عند محمد القوجيلى فى مديحه لأستاذه على بن عبد الواحد الأنصارى، وسنفرد له ترجمة عما قليل. ويكثر الشعر المتبادل بين العلماء فى الجزائر وبينهم وبين علماء تونس والمغرب الأقصى، وحرى أن نتوقف لنترجم لبعض شعراء المديح.
عبد (2) الكريم النهشلى
ولد ونشأ فى مدينة المسيلة (المحمدية) بالجزائر الشرقية فى أرض الزاب، وفيها كان مرباه وتلمذته لشيوخها فى الأدب وتفتحت ملكته الشعرية مبكرة، مما جعله يترك بلدته إلى القيروان العاصمة، ولا يلبث أن ينتظم فى دواوين الدولة الصنهاجية، ويقال إنه كتب لتميم بن باديس بن المنصور، غير أنه كتب للمنصور بن بلكين من قبله ثم لباديس من بعده وأصبح شاعرهما. ومر بنا أن له فى الشعر والنقد كتابا سماه الممتع وأن ابن رشيق نقل عنه فى كتاب العمدة فى «صناعة الشعر ونقده» وذكره مرارا وترجم له فى كتابه الأنموذج ومما قاله عنه أنه:«كان شاعرا مقدما عارفا باللغة خبيرا بأيام العرب وأشعارها بصيرا بوقائعها وآثارها» ويدل كتابه الممتع على ثقافة واسعة بالشعر سعة لا حدود لها كما يدل على ذوق أدبى مرهف مع البصر بنقد الشعر وأحكام النقاد عليه. ويقول ابن رشيق إنه توفى بالقيروان أو مدينة المهدية سنة 405 هـ/1014 م وأنشد له أبياتا من قصيدة فى مديح المنصور بن بلكين وما ذكر فيها من هدية أرسلت إليه من الخليفة الفاطمى العزيز نزار سنة 384 هـ/994 م وكان بها طائفة من
(1) انظر تاريخ الجزائر الثقافى للدكتور أبى القاسم سعد الله 2/ 271.
(2)
انظر فى ترجمة
عبد الكريم النهشلى
المراجع التى سبق ذكرها فى هامش ص 89.
الخيل الكريمة والإبل البخاتيّ النجيبة وحمارا مخططا من حمر الوحش وفيلا ضخما، ووصفها النهشلى جميعا وصفا بارعا، استهله بقوله:
هنتك أمير الجود خير هديّة
…
تقدّمها الإيمان واليمن والفخر
ومضى يصف الهدية، وكان حريا بابن رشيق أن ينشد شيئا من مديحه الذى كان يبرع فيه براعة فائقة كما تشهد بذلك بائية له فى المنصور بن بلكين أنشد منها طائفة كبيرة فى كتابه الممتع، وفيها يصور هيبة مجلسه منشدا:
ومجلس موقور الجلالة تنثنى
…
عيون الورى عنه وينبو خطابها
ترى فيه رفع الطّرف خفضا كأنما
…
لحاظ الرجال ريبة تستريبها
إذا حكتها ظلّت نواسج عبقر
…
حواسد مدسوسا إلىّ عتابها
على ملك تهدى إلى مكرماته
…
عقائل أشعار يرفّ شبابها
همام دعت كفّاه قاصية العلا
…
فلبّاه منها صفوها ولبابها
فهو مجلس محفوف بالجلال حتى لتنثنى عنه العيون مهابة ويتعثر الكلام فى الأفواه وينخفض الطرف ريبة يستشعرها. وإذا حاك قصيدته الرائعة فيه ظلت نواسج عبقر تحسده على إحسانه فيها إحسانا يفوق كل وصف، وما تزال نفائس الأشعار تزفّ إليه، وإنه لهمام تستجيب إليه ذروة العلا فينال منها صفوها ولبابها الخالص ويقول:
إذا ورد المنصور أرضا تهلّلت
…
وجوه رباها واستهلّ ربابها (1)
إذا اغبرّت الآفاق بلّت سماؤه
…
ثراها بأيد ما يجفّ رغابها (2)
كأن العوالى الزّرق عنه مضاؤها
…
وخضر السحاب من نداه عبابها (3)
فمن يوله سعدا ينله ومن يرد
…
يه شقوة تخلع عليه ثيابها
يحلّ بنا-ما حلّها-البرّ والتّقى
…
ويخضرّ من بعد اصفرار جنابها
فما ينزل المنصور أرضا حتى تمتلئ رباها بشرا ويسقط بها الغيث مدرارا، وما إن تغبرّ الآفاق وتجف الديار حتى يهطل عليها من سمائه ما يرويها ويحيلها أرضا سهلة خصبة. ويقول كأن أسنة العوالى أو الرماح الزرق من مضائه وعزمه، وكأن غيث السحاب المنهمر من نداه وكرمه الفياض، وإن من يمنحه سعدا ينله ومن ينزل به شقاء يصبه، وإن أى أرض يحلّ بها يحلّ فيها التقى والرحمة والربيع الزاهى، ويمضى قائلا:
وما بلد لم يؤتك الطّوع أهلها
…
بآمنة أن لا تدكّ هضابها
تحطّ بها الأسد الضوارى خواضعا
…
لديك ولو أن الكواكب غابها
(1) الرباب: السحاب.
(2)
الرّغاب بفتح الراء: الأرض اللينة السهلة.
(3)
العوالى: الرماح. عباب السحاب: الأمطار المنهمرة.
ولو أنها عاصتك غير مجيبة
…
أجابتك من تحت السيوف رقابها
تهابك آفات الخطوب فتنتهى
…
ولا تنتهى عن خطّة فتهابها
رماحك أحناء الضلوع نقافها
…
وخيلك تامور النفوس شرابها (1)
وهو يقول للمنصور إن بلدا لم تستسلم لك ولم تأتك طاعة أهلها لا تأمن أن تدكّ هضابها دكّا كأن لم تكن شيئا مذكورا، وإن الأسد الضارية المفترسة بها لتحطّ لديك خواضع مهما كان غابها وغيلها بعيدا ولو أنها أعلنت عصيانك لأجابتك رقابها من تحت السيوف ذليلة خانعة، وإن الخطوب-مهما عظمت-لتهابك، بينما أنت لا تهاب خطة، إذ لا تزال تبرم الخطط، وتلك رماحك لا تزال تضرب فى أحناء الضلوع، ولا يزال شراب خيلك دم الأعداء. والقصيدة مكتوبة بلغة جزلة رصينة وكأنها تقرع الآذان قرعا بموسيقاها اللجبة، وكأنما تمتلئ برعد قاصف. وبدون ريب كان عبد الكريم النهشلى شاعرا مبدعا.
عبد (2) الله بن محمد التنوخى (ابن قاضى ميلة)
تقع ميلة فى الشمال الغربى لقسطنطينية والجنوب الشرقى من بجاية، وبها نشأ عبد الله بن محمد التنوخى فى بيت علم إذ كان أبوه قاضيها، ولذلك اشتهر باسم ابن قاضى ميلة، ويقول ابن رشيق إنه صحب أباه إلى جزيرة صقلية، فاتصل عن طريقه بواليها ثقة الدولة (379 - 388 هـ) وكان حسن السيرة، ضبط صقلية وساس رعيتها سياسة عادلة حببته إليها، ودوّخ الروم واستقامت له فيها الأمور، وكان كريما كرما فياضا فقصده كثيرون من كل فجّ، فأكرمهم وفى مقدمتهم قاضى ميلة. وكان ابنه عبد الله شاعرا محسنا، فمدحه بقصيدة فائية بارعة، فقرب منزلته ومنزلة أبيه وأجزل صلته، ويبدو أنهما لم يمكثا طويلا بصقلية. وأشاد بابن قاضى ميلة من ترجموا له، فابن رشيق يقول فيه:«شاعر لسن مقتدر يؤثر الاستعارة ويسلك طريق ابن أبى ربيعة وأصحابه فى نظم الأقوال والحكايات، وله فى الشعر قدم سابقة ومجال متسع، وربما بلغ فى الإغراق والتعمق إلى فوق الواجب، وهو لهج بذلك طالب له» . ويقول ابن بسام فيه: «ضرب فى الأدب بأعلى قدح وافترّ عنه على أوضح صبح» . ونوه ابن خلكان بفائيته فى ثقة الدولة، ويقول أحببت إثباتها لحسنها وغرابتها، وأنشدها. وهو يستهلها بغزل حوارى لصاحبة له التقى بها محرمين فى الحج، وهو غزل بديع سنذكر طرفا منه فى غير هذا الموضع، وخرج منه إلى مديح ثقة الدولة والى صقلية فى يوم عيد من أعيادهم، وفيه يقول:
(1) النقاف: مضرب الرماح. تامور: دم.
(2)
انظر فى ابن قاضى ميلة أنموذج الزمان لابن رشيق ص 209 وابن خلكان 6/ 159 وراجع 5/ 843 والذخيرة لابن بسام 4/ 529.
أغرّ قضاعىّ يكاد نواله
…
لكثرة ما يدعو إلى الشّكر يجحف (1)
سعى وسعى الأملاك فى طلب العلا
…
ففاز وأكدوا إذ أخفّ وأقطفوا (2)
ويقظان شاب البطش بالبرّ والتّقى
…
بكفّيه ما يرجى وما يتخوّف
حسام على من ناصب الدين مصلت
…
وستر على من راقب الله مغدف (3)
يسايره جيشان: رأى وفيلق
…
ويصحبه سيفان: عزم ومرهف
مطلّ على من شاءه فكأنما
…
على حكمه صرف الرّدى يتصرّف
وهو يقول إن كثرة نواله وعطائه تكلّف من الشكر ما لا يكاد يطاق لعظم ما ينثر من أمواله على الناس، وقد سعى وسعى الملوك من حوله فى طلب العلا ففاز وخابوا إذ أسرع فسبقهم وأبطئوا فتخلفوا، وإنه ليقظان دائما يجمع بين البر والتقوى والبطش الشديد، ففى كفيه ما يرجى من الجود ويخشى من البأس العنيف، وإنه لحسام مسلول على أعداء الدين وستر مسبل على أوليائه، يرافقه جيشان من حزمه وجنده، وسيفان: سيف مرهف وسيف من عزمه، وكأنما ينزل صرف الهلاك على رأيه ويتصرف على حكمه، ويدعو له الله أن يرعاه:
رعى الله من ترعى حمى الدين عينه
…
ويحمى حمى الإسلام والليل أغضف (4)
ومن وعده فى مسرح الحمد مطلق
…
وإيعاده فى ذمّة الحلم موقف
ومن يضرب الأعداء هبرا فتنثنى
…
صناديدهم والبيض بالهام تقذف (5)
رماهم بمجر ضعضع الأرض رزّه
…
كأن الروابى منه بالنّبل تدلف (6)
كأن الرّدينيّات فى رونق الضّحى
…
أراقم فى طام من الآل تزحف (7)
يعود الدّجى من بيضه وهو أبيض
…
ويبدو الضحى من نقعه وهو أكلف (8)
وهو يدعو الله أن يحمى حامى الدين والإسلام والليل أشد ما يكون ظلاما، الوافى بوعده والممسك بوعيده يمسك به حلمه، وإنه ليضرب الأعداء ضربات متوالية والسيوف تقذف بالرءوس إذ رماهم بجيش كثيف تهتز الأرض تحت أقدام خيله حتى لكأن الروابى تقدم إليها، وكأن الرماح أراقم تزحف فى أمواج من السراب، وشاب الدجى، وبدا الضحى كلفا مغبرا فى احمرار لكثرة النقع وغبار الحرب، ويقول:
(1) أى يكلفهم ما لا يطيقون.
(2)
أكدوا: خابوا. أخف: أسرع. أقطفوا: أبطئوا
(3)
مصلت: مسلول. مغدف: مسبل.
(4)
أغضف: مظلم شديد الإظلام.
(5)
هبرا: ضربا. البيض: السيوف.
(6)
مجر: جيش كثيف. رزه: أصواته. تدلف: تسير مبطئة.
(7)
الردينيات: الرماح. أراقم: حيات. الآل: السراب.
(8)
النقع: غبار الحرب. أكلف: كدر.