المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 -شعراء الغزل - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١٠

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌1 - [الجزائر]

- ‌2 - [المغرب الأقصى]

- ‌3 - [موريتانيا]

- ‌4 - [السودان]

- ‌القسم الأولالجزائر

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-الأغالبة-الإباضية-تلمسان

- ‌(ب) الأغالبة

- ‌(ج) الإباضيون

- ‌(د) تلمسان

- ‌4 -الدولة العبيدية-الدولة الصنهاجية-بنو حماد

- ‌(أ) الدولة العبيدية

- ‌(ج) بنو حماد

- ‌5 -دولة الموحدين-الدولة الحفصية-بنو عبد الواد

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع الجزائرى

- ‌2 -المعيشة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌4 -الدين-المالكية والحنفية-الإباضية-المعتزلة

- ‌(أ) الدين

- ‌(د) المعتزلة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌(ب) دور العلم:‌‌ الكتاتيب-‌‌المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌ الكتاتيب

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -كثرة الشعراء

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ عبد الكريم النهشلى

- ‌ ابن خميس

- ‌ الشهاب بن الخلوف

- ‌ محمد القوجيلى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌ بكر بن حماد التاهرتى

- ‌ سعيد المنداسى

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد الرحمن الأخضرى

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ ابن على

- ‌2 -شعراء وصف الطبيعة

- ‌ عبد الله بن محمد الجراوى

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ إبراهيم التازى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌الفصل السّادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والوصايا

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات

- ‌5 -كبار الكتاب

- ‌[(ب)] الوهرانى

- ‌القسم الثانىالمغرب الأقصى

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌3 -الفتح والولاة-ثورة الصفرية-بنو مدرار-الأدارسة-بعد الأدارسة والمدراريين

- ‌(ب) ثورة الصفرية

- ‌(د) الأدارسة

- ‌4 -المرابطون-الموحدون-بنومرين

- ‌(أ) المرابطون

- ‌(ب) الموحدون

- ‌5 -السعديون-الطرق الصوفية-العلويون

- ‌(أ) السعديون

- ‌(ج) العلويون

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع المغربى

- ‌1 -عناصر السكان

- ‌2 -المعيشة

- ‌3 -الثراء-الرّفة-الموسيقى-المرأة

- ‌(أ) الثراء

- ‌(ب) الرّفة

- ‌(ج) الموسيقى

- ‌(د) المرأة

- ‌4 -المالكية-الصفرية-المعتزلة-الظاهرية

- ‌(أ) المالكية

- ‌(ب) الصفرية

- ‌(ج) المعتزلة

- ‌(د) الظاهرية

- ‌5 -الزهاد-المتصوفة

- ‌(أ) الزهاد

- ‌(ب) المتصوفة

- ‌الفصل الثالثالثقافة

- ‌1 -الحركة العلمية

- ‌(أ) فاتحون ناشرون للإسلام ومعلمون

- ‌ الكتاتيب

- ‌(ب) دور العلم: الكتاتيب-المساجد-المدارس-الزوايا-المكتبات

- ‌المساجد

- ‌المدارس

- ‌الزوايا

- ‌المكتبات

- ‌(ج) نمو الحركة العلمية

- ‌2 -علوم الأوائل

- ‌3 -علوم اللغة والنحو والعروض والبلاغة

- ‌5 -التاريخ

- ‌الفصل الرّابعنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرب المغرب الأقصى-كثرة الشعراء

- ‌(أ) تعرب المغرب الأقصى

- ‌(ب) كثرة الشعراء

- ‌2 -شعراء الموشحات والأزجال

- ‌(أ) شعراء الموشحات

- ‌ ابن غرلة

- ‌ ابن الصباغ

- ‌ ابن زاكور

- ‌(ب) شعراء الأزجال

- ‌ابن عمير

- ‌3 -شعراء المديح

- ‌ ابن زنباع

- ‌ ابن حبوس

- ‌الجراوى

- ‌ ابن عبد المنان

- ‌الهوزالى

- ‌الدغوغى

- ‌البوعنانى

- ‌4 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) الفخر

- ‌ الشاذلى

- ‌(ب) الهجاء

- ‌5 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌ عبد العزيز الملزوزى

- ‌ابن الونان

- ‌الفصل الخامسطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ أبو الربيع الموحدى

- ‌ عمر السلمى

- ‌2 -شعراء الوصف

- ‌3 -شعراء الرثاء

- ‌ ابن شعيب الجزنائى

- ‌4 -شعراء الزهد والتصوف

- ‌(أ) شعراء الزهد

- ‌(ب) شعراء التصوف

- ‌ ابن المحلى

- ‌5 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ميمون بن خبازة

- ‌ مالك بن المرحل

- ‌الفصل السادسالنثر وكتّابه

- ‌1 -الخطب والمواعظ

- ‌2 -الرسائل الديوانية

- ‌3 -الرسائل الشخصية

- ‌4 -المقامات والرحلات

- ‌(أ) المقامات

- ‌(ب) الرحلات

- ‌ رحلة ابن رشيد

- ‌ رحلة العياشى

- ‌ رحلة ابن ناصر

- ‌5 -كبار الكتّاب

- ‌(أ) القاضى عياض

- ‌القسم الثالثموريتانيا

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع والثقافة

- ‌1 -المجتمع

- ‌(أ) صنهاجة وقبائل المعقل العربية

- ‌(ب) الزروع والمراعى

- ‌(ج) التجارة

- ‌(د) حياة يدوية

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) نشاط دينى تعليمى كبير

- ‌(ب) التعليم والطلاب والشيوخ

- ‌(ج) أمهات الكتب والمتون والشروح المتداولة

- ‌(د) أعلام العلماء فى موريتانيا

- ‌(هـ) القراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء

- ‌(و) أعلام النحاة والمتكلمين

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 -تعرّب موريتانيا

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ ابن رازكة

- ‌3 -شعراء الفخر والهجاء

- ‌(أ) شعراء الفخر

- ‌ المختار بن بون

- ‌(ب) شعراء الهجاء

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل

- ‌ الأحول الحسنى

- ‌ يقوى الفاضلى

- ‌2 -شعراء التصوف

- ‌ المختار الكنتى

- ‌الشيخ سيديّا

- ‌3 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ محمد بن محمد العلوى

- ‌4 -الشعراء والشعر التعليمى

- ‌القسم الرابعالسودان

- ‌الفصل الأوّلالجغرافية والتاريخ

- ‌1 -الجغرافية

- ‌2 -التاريخ

- ‌3 -(ج) دولة الفونج

- ‌4 -محمد على والسودان-عهد إسماعيل

- ‌5 -حركة المهدى-خليفته عبد الله التعايشى

- ‌الفصل الثّانىالمجتمع السودانى-الثقافة

- ‌(أ) نزعة صوفية عامة

- ‌(ب) المرأة ومكانتها فى التصوف

- ‌(ج) التصوف والتربية الخلقية والدينية

- ‌(د) طرق صوفية جديدة

- ‌(هـ) دعوة المهدى ومبادئها الستة

- ‌2 -الثقافة

- ‌(أ) كتاتيب-زوايا-مساجد

- ‌(ب) حركة علمية نشيطة فى عهد الفونج

- ‌(ج) سودانيون أزهريون وعلماء مصريون

- ‌(د) التعليم المدنى الحديث وتوقفه

- ‌(هـ) إنشاء معهد دينى وعودة التعليم المدنى الحديث

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌2 -شعراء المديح

- ‌ الشيخ حسين زهراء

- ‌ الشيخ محمد عمر البناء

- ‌3 -شعراء الفخر والحماسة

- ‌ الشيخ يحيى السلاوى السودانى

- ‌ عثمان هاشم

- ‌4 -شعراء الرثاء

- ‌(أ) رثاء الأفراد

- ‌ الشيخ محمد سعيد العباسى

- ‌(ب) رثاء المدن

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 -شعراء الغزل العفيف

- ‌2 -شعراء النقد العنيف والشكوى من الزمن

- ‌الشيخ عبد الله البناء

- ‌ صالح عبد القادر

- ‌3 -شعراء التصوف

- ‌4 -شعراء المدائح النبوية

- ‌ الشيخ عمر الأزهرى

- ‌ الشيخ عبد الله عبد الرحمن

الفصل: ‌1 -شعراء الغزل

‌الفصل الخامس

طوائف من الشعراء

‌1 -

شعراء الغزل

يعد الغزل من أهم الموضوعات التى شغلت شعراء العرب من الجاهلية إلى العصر الحديث، فمن قديم يتغنون بعاطفة الحب الخالدة، ويصورون مشاعرهم وأحاسيسهم إزاء المرأة وما يكون بينهم وبينها من لقاء ووداع ووصال وهجران، وهم تارة سعداء بوصالها وتارة أشقياء يشكون الهجران والحرمان، ويتمنون ولو نظرة من بعيد، وكأنها الفردوس الذى حرموا منه، وهم يألمون لذلك أشد الألم مع الإكثار من الاستعطاف. والغزل من قديم نوعان: نوع مادى يعنى فيه الشاعر بتصوير المرأة تصويرا حسيا صادرا فيه عن الغريزة النوعية وما تتطلب من المتاع المادى، ونوع عذرى طاهر يتسامى فيه الشاعر إلى بث الوجد الذى يصلى بناره فى دخائله وبلوعاته لوعات لا تنتهى، وهو يتغنى فيه بمحبوبته ظامئا إلى رؤيتها ظمأ متصلا متضرعا، وكأنها ملاك من عالم غير عالمه، ودائما يبكى بدموع غزار. وهذا النوع الثانى من الغزل القائم على الحرمان وعلى السمو فى الحب هو الغالب على غزل شعراء الجزائر، وما من شاعر جزائرى مشهور إلا نجد عنده من هذا الغزل إشعاعات كقول عبد الكريم النهشلى (1):

يشكو هواك إلى الدموع متيّم

لم يبق فيه للعزاء نسيس

لولا الدموع تحرّقت من شوقه

يوم الوداع قبابكم والعيس

وهو يقول إنه ودّع صاحبته ولم يعد يستطيع أن يقدم شكواه إلا دموعه، وقد أضناه الحب، ولم يعد فيه إلا نسيس أو بقية من الروح، ولولا الدموع وطوفانها لتحرقت بنار حبه قبابها وخيامها وهوادجها والعيس أو الإبل الظاعنة عليها. والتفت ذات يوم إلى شجرة فرأى عليها حمائم وسمعها تترنم وتنوح، فتأثر وأنشد (2):

(1) أنموذج الزمان لابن رشيق ص 176.

(2)

نفس المصدر والصفحة.

ص: 171

أواجدة وجدى حمائم أيكة

تميل بها ميل النّزيف غصونها

نشاوى وما مالت بخمر رقابها

بواك وما فاضت بدمع عيونها

أعيدى حمامات اللّوى إن عندنا

لشجوك أمثالا يعود حنينها (1)

ويتساءل النهشلى أهذه الحمائم تداخلها مواجد مثل مواجده، وإن غصون الأيكة لتتمايل بها ميل النزيف أو السكران المنتشى، وإن الحمائم نفسها لنشاوى سكارى وما شربت خمرا، وإنها لبواك تثير الشجون وما بكت عيونها، وإنه ليلتمس منها أن تعيد بكاءها ونواحها فإنها تثير فيه نفس الشجو وما يعتاده من الحنين والشوق. ونلتقى بابن قاضى ميلة وقصيدته الفائية التى نوه بها ابن خلكان والتى مدح بها ثقة الدولة أمير صقيلة، وقد استهلها بغزل حوارى على طريقة عمر بن أبى ربيعة أبدع فيه كل الإبداع، ونقتطف منه الأبيات التالية (2):

ولما التقينا محرمين وسيرنا

بلبّيك ربّا والركائب تعسف (3)

نظرت إليها والمطىّ كأنما

غواربها منها معاطس رعّف (4)

فقالت أما منكنّ من يعرف الفتى

فقد رابنى من طول ما يتشوف (5)

أراه إذا سرنا يسير حذاءنا

ونوقف أخفاف المطىّ فيوقف (6)

فقلت لتربيها ابلغاها بأنّنى

بها مستهام قالتا نتلطّف (7)

وقولا لها يا أمّ عمرو أليس ذا

منى والمنى فى خيفه ليس تخلف (8)

وفى عرفات ما يخبّر أننى

بعارفة من عطف قلبك أسعف (9)

فأوصلتا ما قلته فتبسّمت

وقالت: أحاديث العيافة زخرف (10)

وقد أنذر الإحرام أنّ وصالنا

حرام وإنا عن مزارك نصدف (11)

وابن قاضى ميلة يذكر التقاءه بصاحبته وهما محرمان يلبيان ربهما قائلين لبيك اللهم لبيك، وكل منهما يركب مطية مجهدة كبقية مطايا الحج والعرق يسيل منها مدرارا، وهو ما يزال ينظر إلى صاحبته، سائرا بجوارها، وكلما توقفت مطاياها وصحبها توقّف، فقال لصاحبتيها وقد دنا منهما أبلغاها بأننى هائم بها، وقولا لها إننا سننزل منى، وينبغى أن تحقق لى فى خيف

(1) اللوى: ما التوى من الرمل أو منقطعه.

(2)

انظر فى القصيدة ابن خلكان 6/ 159 والأنموذج ص 211 والذخيرة، القسم الرابع ص 533.

(3)

الركائب جمع ركوبة من الدواب والإبل. تعسف: تسير فى الطريق على غير هدى.

(4)

معاطس جمع معطس: الأنف. رعّف جمع راعف: تسيل. الغارب فى البعير: ما بين السنام والعنق.

(5)

يتشوف: يشرف وينظر.

(6)

أخفاف: جمع خف وهو للبعير كالحافر للفرس.

(7)

لتربيها: المماثلتين لها فى السن. مستهام: هائم أى مشغوف حبا.

(8)

منى بكسر الميم: ينزل بها الحجاج فى أيام التشريق. خيف منى: منحدرها.

(9)

عارفة: الجميل والإحسان. عرفات: جبل به موضع وقوف الحجاج.

(10)

العيافة هنا: التفاؤل.

(11)

نصدف: نعرض ونميل.

ص: 172

منى اللقاء، وسنقف بعدها فى عرفات، فهل تجود على بملاقاة، وحدّثاها عنه فابتسمت وقالت تلك أحاديث عيافة وكهانة وتفاؤل مزخرف. وإننا محرمان والإحرام يحرم وصالنا، وإنّي لصادفة عنه مزورة، ولن ألقاه، وتمضى قائلة إن قذفنا للجمرات ليخبرك بأن كلامنا سيقذفه البعد والنوى إلى ديار متباعدة. ويسوق الغبرينى فى كتابه «عنوان الدراية» غزليات طريفة لشعراء بجاية، منها قول (1) محمد بن يحيى بن عبد السلام:

ألا بأبى من لا أرى فى الهوى سوى

محيّاه شمسا أو سنا ثغره برقا

ولا خمر إلا من لماه ولحظه

ولا غصن إلا القدّ لا ما ارتقت ورقا

لئن لدغت قلبى عقارب صدغه

فريقته التّرياق لى وبها أرقى

تعلّمت من عينيه عشقى لحسنه

فلله ألحاظ تعلّمنى العشقا

ولو أن هاروتا رأى سحر طرفه

أقرّ بأن السحر من لحظه اشتقّا

فيا طامعا فى الوصل منه تسلّ هل

سمعت بأشراك تصاد بها العنقا

وهو ينوه فى أول الأبيات بجمال صاحبته التى يرى وجهها شمسا وضوء ثغرها برقا، ولا خمر مسكرة إلا من سمرة شفتيها ولحظ عينيها. ولا حسن غصن إلا رشاقة قدّها لا ما ارتقت الورقاء من قدود الأغصان الجميلة. ويقول لئن لدغت عقارب شعرها الملتوى على صدغها فإن ريقتها الترياق والبلسم الذى يرقى به لشفائه، ويذكر أن جمال عينيها هو الذى ألقى فى فؤاده عشقها، وما أبدعه، فلو أن هاروت الساحر المذكور فى القرآن الكريم رأى سحر عينيها لأقرّ بأن السحر مشتق منه. ثم يلقى اليأس فى قلوب من يطمعون فى وصلها، فيقول هل يمكن لأحد أن يصيد العنقاء الطائر الخرافى بشباكه وأشراكه. وكان يعاصر هذا الشاعر فى بجاية محمد بن أحمد الأريسى وله غزليات رقيقة، وسنترجم له عما قليل.

ونهضت الدولة الزيانية: دولة بنى عبد الواد بالأدب شعرا ونثرا وسرعان ما أنتجت النهضة الأدبية فى زمنها شاعرا كبيرا هو ابن خميس وله غزليات رقيقة بديعة كثيرة، من ذلك قوله (2):

نظرت إليك بمثل عينى جؤذر

وتبسّمت عن مثل سمطى جوهر (3)

عن ناصع كالدرّ أو كالبرق أو

كالطّلع أو كالأقحوان مؤشّر (4)

تجرى عليه من لماها نطفة

بل خمرة لكنها لم تعصر (5)

(1) عنوان الدراية للغبرينى ص 342.

(2)

الديوان ص 110 وانظر بغية الرواد ليحيى بن خلدون ص 111.

(3)

الجؤذر: ولد البقرة الوحشية. السمط: العقد والقلادة.

(4)

مؤشر: مفلج.

(5)

اللمى: الشفتان. نطفة: ماء صاف.

ص: 173

لو لم يكن خمرا سلافا ريقها

تزرى وتلعب بالنّهى لم تحظر (1)

وكذاك ساجى جفنها لو لم يكن

فيه مهنّد لحظها لم يحذر (2)

لو عجت طرفك فى حديقة خدّها

وأمنت سطوة صدغها المتنمّر (3)

لرتعت من ذاك الحمى فى جنّة

وكرعت من ذاك اللما فى كوثر (4)

وابن خميس يشبّه عينى صاحبته بعينى جؤذر وأسنانها فى ثغرها بعقدى جوهر ويقول إنه ثغر ناصع البياض كالدرّ أى اللؤلؤ أو كضوء البرق أو كطلع النخل أو كزهر الأقحوان الأبيض المفلّج الأوراق كأسنان هذا الثغر المفلّجة، وهو ثغر يجرى عليه من شفتى صاحبته نطفة (قطرات) سائغة من الريق بل خمر، وإن لم يعصرها خمار، خمرة تلعب بالعقول، غير محرمة، ولو لم يكن فى فاتر جفنها سيف لحظها يحميها ما حذرت، ولو أتيح لك أن تعطف طرفك فى خدها وجماله المتنوع، وكأنه حديقة باهرة، وأمنت بطش عقرب صدغها المتنمر لنعمت بجنّة رائعة، ونهلت من لماها أو شفتيها من الكوثر نهر الفردوس. ويمضى ابن خميس فى هذا الغزل قائلا:

طرقتك وهنا والنجوم كأنها

حصباء درّ فى بساط أخضر (5)

بيضا إذا اعتكرت ذوائب شعرها

سفرت فأزرت بالصباح المسفر (6)

طرحت غلالتها فقلت سبيكة

من فضة أو دمية من مرمر (7)

منحتك ما منعتك يقظانا فلم

تخلف مواعدها ولم تتغيّر

هاجت بلابل نازح عن إلفه

متشوّق ذاكى الحشا متسعّر (8)

وهو يقول إن صاحبته طرقته أو زارته فى منتصف الليل والسماء تنتثر لآلئ نجومها فى بساطها الأخضر، ويقول إنها إذا أحسّت بكثافة شعرها وكشفت عن وجهها أزرت بالصباح المضيئ الجميل، أما إذا خلعت غلالتها فإنها تبدو كأنها سبيكة من فضّة أو دمية من مرمر، ويقول إنه لم ير شيئا منها يقظان وإنما ذلك حلم رآه فهاج شجون مغترب عن إلفه متشوق تتقد أحشاؤه وتشتعل حبا وهياما. ولابن خميس غزل كثير فى مطالع مدائحه يصف فيه لوعات حبه وما تكنّ ضلوعه من مواجعه، وقد يحيله غزلا صوفيا بديعا. ولمحمد (9) بن عمر المليكشى البجائى المنتسب إلى مدينة الجزائر والمتولى خطة الإنشاء بتونس والمتوفى بها سنة 740 للهجرة قوله:

(1) سلافا: خمرا خالصة. تحظر: تحرم.

(2)

ساجى: فاتر. المهند: السيف.

(3)

عجت: عطفت.

(4)

رتعت: نعمت. كرعت: نهلت.

(5)

وهنا: نحو نصف الليل.

(6)

اعتكرت: تكاثرت. ذوائب: ضفائر. سفرت: كشفت وجهها.

(7)

الغلالة: ثوب رقيق.

(8)

بلابل: هموم وشجون. متسعر: متقد.

(9)

تعريف الخلف برجال السلف 1/ 176.

ص: 174

رضّا نلت ما ترضين من كل ما يهوى

فلا توقفينى موقف الذلّ والشكوى

وصفحا عن الجانى المسيء لنفسه

كفاه الذى يلقاه من شدة البلوى

قفى أتشكّى لوعة البين ساعة

ولا يك هذا آخر العهد بالنّجوى

قفى ساعة فى عرصة الدار وانظرى

إلى عاشق ما يستفيق من البلوى (1)

وكم قد سألت الرّيح شوقا إليكم

فما حنّ مسراها علىّ ولا ألوى (2)

فيا ريح حتى أنت ممن يغاربى

ويا نجد حتى أنت تهوى الذى أهوى

خلقت ولى قلب جليد على النّوى

ولكن على فقد الأحبّة لا يقوى

وهو يلتمس رضا صاحبته وأن لا تقفه شاكيا من حبه متذللا، وأن تصفح عما قد تظن من تجنّيه فكفاه ما يلقى من محنة الحب، ويسألها أن تقف ليشكو لها لوعة البين والبعد ساعة أو بعض ساعة آملا أن لا يكون هذا آخر العهد بلقائها ونجواها، بل إنه يسألها أن تقف لحظة فى ساحة الدار وتنظر إلى ما اعتراه فى محنة الحب وبلواه، ويقول إنه ليسأل الريح المقبل من دارها عنها فلا تحن عليه ولا تعطف، فحتى الريح تغار منه، ويخال كأنها أخت ليلى معشوقة المجنون ساكنة نجد، وحتى نجد تهواها وتهيم بها، ويقول إن قلبه يتحمل النوى والفراق، ولكنه لا يتحمل فقد الأحبة. وكان يعاصره بتلمسان أبو عبد الله محمد بن البناء ويقوّل يحيى بن خلدون عنه إنه «كاتب شاعر متخلق ظريف» وينشد من غزله (3):

عيد وغيد؟ ؟ ؟ وعود وابنة العود

يا ليلة جمعت شملى بها عودى (4)

وشادن خنث الأعطاف من ترف

علّقته بدرتمّ فوق أملود (5)

يجنى فتمحو جناياه محاسنه

وللجمال شفيع غير مردود

لما سألناه عن خمر بريقته

يحميه بالبيض من أجفانه السود (6)

وسالفيه وصدغيه فقال لنا

هذى المدامة من تلك العناقيد (7)

وهو يذكر ليلة عيد اجتمع له فيها فتيات حسان والعود يترنم وابنة العود يريد الخمر بنت شجرة العنب وفتاة جميلة ناعمة الأعطاف تعيش فى ترف ونعيم شغف بها وبقدها الرشيق وكأنها بدر فوق غصن ناعم، وكم جنت عليه ومحاسنها تشفع لجناياتها شفاعة لا ترد، ويتمنى لو ارتشف من خمر ريقها ولا يستطيع إذ تحميه سيوف مسلولة من أجفانها السود وعقربى

(1) عرصة الدار: ساحتها.

(2)

ألوى: عطف.

(3)

بغية الرواد ليحيى بن خلدون ص 124.

(4)

غيد جمع غادة: الفتاة الناعمة.

(5)

شادن: ولد الظبية. خنث: لين وناعم. الأعطاف: الجوانب. بدرتم: بدر كامل. أملود: غصن ناعم لين.

(6)

البيض: السيوف.

(7)

السالف والسالفة: صفحة الجيد وجانبه.

ص: 175

صدغيها وصفحتى جيدها الجميلتين، ويقول إنهم لما سألوها عن خمر ريقها قالت لهم مدلة إن هذى المدامة من تلك العناقيد. وينشد يحيى بن خلدون للشاعر موشحة محكمة الصنعة مثل مقطوعته السالفة وفيها يقول:

بدر أزراره تبدّت فلكا

قلبى ملكا

عيناه مع الهوى دمى سفكا

فيه اشتركا

قد أشبهت المها لحظا فتكا

والخال حكى

مسكا مستمسكا على سوسان

غضّ عبق (1)

يهدى كنسيم جنّة الرضوان

للمنتشق

هو يقول كأنها بدر وأزرارها الفلك ملكت قلبه واشتركت عيناها مع الهوى فى سفك دمه وقد أشبه لحظها الفاتك لحظ البقر الوحشى حسنا وجمالا، وحكى الخال مسكا على سوسان أبيض غضّ عطر، يهدى كنسيم الفردوس الذكىّ للمنتشق. وللشهاب بن الخلوف غزليات كثيرة وهى تشغل فى ديوانه نحو مائة وعشرين صفحة سوى ما يودعه مقدمات مدائحه من غزل رقيق، ومن طريف غزله قوله (2):

إذا القمرىّ غرّد فى الغصون

أعان المستهام على الشّجون

وإن ناح الحمام بكيت وجدا

بمزن سحائب الدّمع الهتون (3)

وقال الله هل أبصرت صبّا

حزين القلب مقروح الجفون

تطارحه الصبابة بالتّصابى

وتسلمه الأمانى للمنون (4)

ينوح على الديار وساكنيها

إذا ما النّوق سارت بالظّعون

ويكتم فى حشاه الوجد سرّا

فتظهره المدامع فى العيون

وهو يقول إن قمرىّ الحمام يترنم فى الغصون بتغاريده يثير الشجون فى قلوب المحبين، وحين ينوح الحمام يبكى وجدا ويذرف الدموع مدرارا. ويدعو لمخاطبه أن يقيه الله من الحب وأوصابه، ويسأله أرأيت مغرما حزين القلب قريح الجفون من كثرة البكاء، يمنيه الشوق أن سيصبى صاحبته، وما يزال يتمنى ذلك حتى الموت. وترحل صاحبته مع أهلها وتسير النوق بالظعون أو الهوادج، ويكتم نار وجده وحبه فى صدره وأحشائه، وتعلن سره دموعه المنهلّة الغزيرة. ونمضى إلى العهد العثمانى وممن نقرأ له غزلا طريفا فيه محمد القوجيلى من مثل قوله (5):

(1) غض: حديث. عبق: عطر.

(2)

الديوان ص 357.

(3)

مزن جمع مزنة: مطرة. الهتون: الغزير.

(4)

الصبابة: الحب والشوق.

(5)

أشعار جزائرية ص 130.

ص: 176

الحبّ صعب والرقيب أعانه

والدمع باح بذا الهوى وأبانه

والحبّ يستدعى القلوب إلى الهوى

فتجيبه منقادة ولهانه

وبجسمى المضنى فتاة غازلت

قلب الكئيب بأعين فتّانه

خرجت مع الأتراب بين أزاهر

فكأنها بدر تكلّل بانه (1)

وهو يقول إن الحب صعب والرقيب يعين جذوته اشتعالا، وهو لا يخفى فالدمع دائما يبوح به ويعلنه إعلانا، ويذكر أن الحب يستدعى القلوب إلى العشق فتلبيه خاضعة ولهانة وقد غازلته فتاة جميلة أضنته وشغفته حبا بسحر عيونها حين رآها مع أترابها الفاتنات وكأنما وجهها بدر يتوّج قامتها الرشيقة. ولسعيد المنداسى معاصره قصيدة نبوية يستهلها بغزل ويطيل فيه طولا شديدا. وهى منسوبة فى كتاب تعريف الخلف برجال السلف لمحمد بن عبد الرحمن الحوضى وبالمثل فى تاريخ الجزائر الثقافى والغالب أنها للمنداسى لوجودها فى ديوانه، وفيها يقول (2):

أرذاذ المزن من عينى نزل

أم دموع الشوق إذ رقّ الغزل (3)

أبعينى ديمة وكّافة

أم شعيب للنّوى منها انبزل (4)

دع-عذولى-اللوم إنّي شائق

رقّ طبعى حين صنعى فى الأزل (5)

ما الهوى إلا عذاب للفتى

أو يخفى إن بقلب المرء حلّ

لا تلمنى دون علم-عاذلى-

فبسمعى صمم عمن عذل

كم دموع من عيونى انهمرت

لعيون من عذاب لا تملّ

مذ دعانى البين والدمع على

صحن خدّى وابل يهمى وطلّ

ويستمر هذا الغزل إلى نحو ستين بيتا كلها بهذه الموسيقى العذبة وهذه اللغة المنتخبة الصافية، والشاعر يتساءل عن الدموع المنهمرة من عينيه أهى قطرات سحاب هاطل أم دموع شوقه تتقاطر متوالية، وهل حقا بعينه سحابة سائلة أو مسيل للنوى انشقّ، ويقول لعاذله لا تلمنى فإنى رقيق الطبع منذ صنعى فى الأزل، وهل الهوى والحب إلا ألم للفتى وعذاب متصل إن حل بقلب لا يخفى، فلا تكرر علىّ لومك دون علم بحقيقة الحب، فبأذنى وقر لا أسمعك، وكأنما تخاطب حجرا أصم، وكم أسراب دموع سالت من عيونى وصاحبتى لا تمل هذا

(1) البانة: مفرد البان وهو شجر لين القوام كالصفصاف تشبه به الجميلات فى الطول واللين.

(2)

الديوان الشعبى للمنداسى نشر محمد نجوشه ص 83. وديوانه الفصيح تحقيق رابح بونار ص 31.

(3)

رذاذ: قطرات.

(4)

ديمة: مطر. وكافة: سائلة. شعيب: مسيل. انبزل: انشق.

(5)

الأزل: القدم، أول الزمان.

ص: 177

العذاب. ومذ دعاه الفراق والدمع يجرى على خدّيه وكأنه مطر منصبّ وطلّ ماينى يتقاطر ويتساقط. ومن أهم شعراء الغزل فى الجزائر الأريسى وابن على وحرى أن نخصّ كلا منهما بترجمة مفردة.

محمد (1) بن أحمد الأريسى

من شعراء بجاية فى القرن السابع الهجرى، ولا نعرف شيئا عن تاريخ مولده ولا عن نشأته وتعلمه، غير أنه من بيت علم وفقه فقد كان جده الأريسى فقيها ببجاية وكان اعتماد قاضيها أبى محمد بن حجاج المتوفى بعد سنة 640 للهجرة عليه وعلى الفقيه أبى على بن عزون وبينهما كان جلوسه إذ كانا المشاورين له. وعكف الحفيد فى كتّاب على حفظ القرآن ثم أخذ ينهل من حلقات الشيوخ فى موطنه دارسا عليهم الفقه حتى برع فيه، وبالمثل درس عليهم الأدب. وتفتحت موهبته مبكرة فى الشعر والنثر، مما سلكه بين الكتّاب، ولمع اسمه بينهم حتى أصبح رئيس كتبة الديوان ببجاية، وكما كان يتقن الكتابة والنثر كان يتقن الشعر، وكان يسلك فيه طريقة المتنبى بينما كان صاحبه أبو عبد الله محمد بن الحسن التميمى القلعى يسلك طريقة أبى تمام، كما يقول الغبرينى، وكانا يتراسلان بالأشعار وكل منهما يجاوب صاحبه على طريقته، ويقول الغبرينى عن الأريسى:«كان سهل الشعر كثير التجنيس يأتيه من غير تكلف. . وله شعر كثير فى كل فن من فنون الشعر» وأنشد له الغبرينى مطلع مدحة وقصيدتين غزليتين، وفى المطلع يقول:

ونادى خطيب الورق يدعو هديله

وغنّى فأغنى عن ضروب التّلاحين (2)

وذكّر أيام الصبّابة والصّبا

ولذّة عيش كان لى غير ممنون (3)

فيا ساكنى نجد أأطرق حيّكم

وأرجع مغلوبا بصفقة مغبون

ويا ساكنى الجرعاء إن كان عندكم

نصيب من الصبر الجميل فواسونى (4)

تركت فؤادي عند خيمة زينب

وما سحر عينيها علىّ بمأمون

أغارت عليه حين لم يلف ناصرا

وأغرته بى حتى تعلّم يجفونى

فخطيب الحمام دعا الهديل ليتغنى بصوته الجميل فتأثر به الشاعر وذكّره أيام الصبا والحب ولذة عيش هنئ متصل، وثار منه كمين الوجد، فنادى أهل صاحبته من ساكنى نجد متذللا، أيطرق حيهم ويرجع مغلوبا مغبونا، وبالمثل نادى ساكنى حيّها فى الجرعاء بنجد هل عندهم

(1) انظر فى محمد الأريسى ترجمته فى عنوان الدراية ص 337 وترجمة جده ص 249 وترجمة أبى عبد الله محمد بن الحسن التميمى فى ص 72 وراجع فى الشاعر تعريف الخلف 2/ 356.

(2)

الورق جمع أورق وورقاء: الحمام. هديله: قرينه من الحمام.

(3)

ممنون: منقطع.

(4)

الجرعاء: من مواضع نجد.

ص: 178

له نصيب من الصبر يواسونه به، ويقول إن فؤاده تخلف عنه عند خيمة زينب الساحرة العينين، وقد أغارت عليه ولا ناصر له، وأغرته به حتى جفاه وأبى الرحيل معه. ويقول الأريسى فى قصيدته الغزلية الأولى:

لعلك بعد الهجر تسمح يا بدر

بوصل فقد أودى بمهجتى الهجر (1)

أبيت كما ترضى الكآبة والأسى

وأضحى كما تهوى الصبابة والفكر

إذا قنطت نفسى ينادى بها الرّجا

رويدك كم عسر على إثره يسر (2)

ولا أنس يوما للسرور وبيننا

عتاب كبرد الماء لكنه الجمر

وو الله ما أدرى لطيب حديثها

أضمّن سحرا لفظها أم هو السحر

خليلىّ قولا إن بدا لكما الحمى

أهيل الحمى مشغوفكم مسّه الضّرّ

على م تناسيتم حديث عهودكم

وليس له ذنب وليس لكم عذر

والأريسى يتذلل لمحبوبته أن تسمح له بالوصل فقد كادت مهجته أو روحه أن تزهق وإنه ليبيت كئيبا محزونا ويضحى مفكرا مهموما، وينادى الرجاء عليه لا بد بعد العسر من اليسر. ولا ينسى يوم لقاء مع صاحبته كان يوم سرور لا حد له، مع ما شابه من شظايا عتاب كالجمر أو أشد، ومع ذلك لا يدرى لجمال حديثها أضمّن سحرا أو هو السحر نفسه، وينادى صاحبيه إن ألّما بالحمى أن يقولا لأهلها إن المشغوف بفتاتكم مسّه الضر وأصابه الضّنا، وقد نسيتم عهودكم دون عذر لكم ودون ذنب جناه. ويستهل قصيدته الغزلية الثانية بقوله:

أهل الحمى هل لكم عن قصتى خبر

وإنّ ليلى بليلى كلّه سهر

وفى ضلوعى نيران يضرّمها

دمع على صفحات الخدّ ينهمر

لما رأيت بدور الحىّ سافرة

عن النّقاب بدا لى أنه السّفر

ولا عوامل إلا من قدودهم

ولا صوارم إلا ما انتضى الحور (3)

سألتك الله يا حادى المطىّ بهم

رفقا علىّ لعل الصّدع ينجبر

عرّج علىّ فلى قلب يميل إلى

حديث من قتلوا منا ومن أسروا

وأنت-يا سعد-إن غنّت ظباؤهم

فقف تعاين فؤادى كيف ينفطر (4)

والشاعر يعرض قصته على أهل الحمى وأن حبه لليلى يشغف قلبه حتى ليبيت مسهّدا، وفى ضلوعه نار ما تزال توقد جذوتها دموعه المنهمرة على صفحات خده. ورأى بدور الحى سافرة فعرف أنها تستعد للسفر، وتراءت له قدودهن كأنها أسنّة رماح تصيب قلوب الرجال،

(1) أودى به: أهلكه وذهب به.

(2)

قنطت: يئست.

(3)

العوامل: أسنة الرماح. انتضى الصارم: سلّ السيف.

(4)

ينفطر: يتشقق.

ص: 179