الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرن الثالث عشر الهجرى، وله موشحات نبوية بديعة، ومنهم أحمد بن سحنون شاعر الباي محمد الكبير صاحب الفتح الثانى لوهران بعد أن استردّها الإسبان سنة 1205 هـ/1790 م وتغنى بهذا الفتح النهائى لوهران كثير من الشعراء الجزائريين وسجل أشعارهم ابن سحنون فى كتابه «الثغر الجمانى» .
3 -
شعراء المديح
يعدّ المديح أهم موضوع استغرق صفحات الشعر العربى على مر العصور، وقد نشأ أول ما نشأ عند العرب حول التغنى ببطولات فرسانهم وشجعانهم فى الحروب ومكارم سادتهم وخصالهم الحميدة فى السلم والحرب، وظل لكل عصر أبطاله وسادته وأمراؤه وحكامه، وتفنن الشعراء فى وصف البطولات الحربية والخصال الكريمة وحكم الخلفاء والحكام العادل الرشيد على مدى العصور الإسلامية المتعاقبة. وطبيعى أن يكون للجزائر حظ فى هذا الوصف منذ تكونت فى تاهرت الدولة الرستمية الإباضية، وكان من أمرائها من يجرى الشعر على ألسنتهم مثل أفلح بن عبد الوهاب (211 - 240 هـ) وله قصيدة-كما مرّ بنا-فى العلم والتعليم والترغيب فيهما، وهى رمز لعناية تلك الدولة بالحركتين العلمية والأدبية فى تاهرت، ويلقانا من مبكرى شعرائها أحمد بن فتح التاهرتى وابن حزاز، وأهم شعرائها-حينئذ- بكر بن حماد، وتصبح تاهرت-ومثلها الجزائر جميعها-تابعة للدولة العبيدية فى المهدية، ويأمر المهدى العبيدى قائده على بن حمدون الزناتى بتأسيس مدينة المسيلة (المحمدية) واتخاذها عاصمة لإقليم الزاب فى الجزائر بدلا من طبنة سنة 313 هـ/925 م. وكان قد نشأ تنافس بين عبد الرحمن الناصر الخليفة الأموى فى الأندلس وبين المهدى العبيدى وخلفائه العبيديين فى البلدان المغربية. ونرى أسرة طبنية تهاجر من موطنها إلى قرطبة سنة 331 بزعامة مؤسسها بالأندلس محمد بن الحسين الطبنى ويرحّب عبد الرحمن الناصر به وبمن قدم معه من أهله، ويصبح من شعرائه وبطانته، ويكثر من مديحه، حتى ليقول ابن حيان إن مدائحه فيه تملأ ديوانا كاملا، ويقرّبه بعده ابنه الحكم المستنصر (350 - 365 هـ) حين استولى على صولجان الخلافة بعد أبيه، وكان كلما قدم على المستنصر عيد مدحه بقصيدة طويلة، ونراه فى عيد الفطر لسنة 361 ينشده قصيدة جيمية مهيئا الناس لما كان يريده المستنصر من تولية ابنه هشام -وكان لا يزال طفلا-ولاية العهد قائلا له (1):
(1) نظر المقتبس لابن حيان (تحقيق د. عبد الرحمن الحجى) ص 83.
حصّن به دين النبىّ محمد
…
وأقم به أود الزمان الأعوج
لهجت ببيعته النفوس فأخذها
…
من واجب الأشياء لو لم تلهج
عود النبوّة والخلافة أصله
…
والفرع من تلك العروق الوشّج (1)
وارم المشارق باسمه فليفتحن
…
ما بين مصر إلى بلاد الرّخّج (2)
وواضح أنه كان يضع نفسه فى خدمة الخلافة الأموية بالأندلس ومناصرتها والاحتطاب فى حبلها إلى أن توفى سنة 394 هـ/1003 م. وكان قد هاجر معه إلى قرطبة أخوه على وأنجب ابنا له هو أبو مضر زيادة الله، وعنى بتربيته وأصبح-فيما بعد-نديما للمنصور بن أبى عامر حاجب هشام المؤيد ثم لولديه من بعده عبد الملك المظفر وأخيه عبد الرحمن الملقب بشنجول، وحين قام بالحجابة بعد وفاة أخيه أرغم الخليفة هشاما المؤيد على أن يعهد إليه بولاية العهد، ولما دخلت الوفود عليه للتهنئة كان مما هنّاه به (3):
تخيّر الله والسلطان للأمم
…
ولىّ عهد براه الله من كرم
اختاره الله للإسلام يحفظه
…
وخصّه بعلوّ القدر والهمم
وكان صنيع شنجول المذكور سببا فى القضاء عليه وفى فتنة قضت على الدولة الأموية فى الأندلس، وكان حريا بالشاعر أن يتريث وأن لا يكيل الثناء لشنجول، إذ مضى يمدحه بقصائد أخرى. وكان لزيادة الله ابن يسمى عبد الملك عنى بتأديبه ويقول ابن سعيد بترجمته له فى كتابه المغرب إنه كان إماما فى علم الحديث وكان شاعرا وأشعر منه ابن أخيه على بن عبد العزيز، وفيه يقول الحجارى إنه أشعر بنى الطبنى وأنشد له ابن سعيد أشعارا فى الخمر والغزل.
وإذا كانت طبنة عاصمة الزاب القديمة أهدت إلى قرطبة أسرة بنى الطبنى فى القرن الرابع الهجرى وكل ما نظمه أفرادها من الشعر فإن قرطبة بدورها لم تلبث بعد نزول تلك الأسرة فيها بقليل أن أهدت إلى المسيلة عاصمة الزاب الحديثة وواليها من قبل العبيديين منذ سنة 334 هـ/945 م جعفر بن على بن حمدون وكان قد خلف فيها أباه الذى أسسها-كما مرّ بنا-وكانا قد اتسعا فيها بالعمران وأصبحت مدينة شامخة وقصدها الشعراء والعلماء، وممن اختارته قرطبة لقصد جعفر فيها شاعرها الفذ ابن هاني، وله فيه مدائح رائعة خلدت اسمه، ومن قوله فيه (4):
المشرقات النيّرات ثلاثة
…
الشمس والقمر المنير وجعفر
(1) الوشج: الملتفة المتشابكة.
(2)
بلاد الرخج: بلاد بالقرب من مدينة كابل فى أفغانستان.
(3)
انظر البيتين التاليين وأبياتا أخرى فى تهنئة شنجول بولاية العهد فى أعمال الأعلام لابن الخطيب 2/ 94 وما بعدها ولقب الشاعر محرف.
(4)
راجع أشعار ابن هاني فى ديوانه المطبوع بالهند.
ويقول مخاطبا له فى إحدى مدائحه:
لم تدننى أرض إليك وإنما
…
جئت السماء ففتّحت أبوابا
ورأيت حولى وفد كلّ قبيلة
…
حتى توهمت العراق الزّابا (1)
أرض وطئت الدرّ من حصبائها
…
والمسك تربّا والرّياض جنابا
وسمع بالشاعر ومدائحه فى جعفر الخليفة المعز العبيدى الفاطمى فطلبه منه، ولم يستطع مخالفته فجهزه إليه، وأحسّ حينما بعد عن المسيلة والزاب كأنما فارق فردوسه، وصوّر ذلك فى إحدى قصائده منشدا:
خليلىّ أين الزّاب منى وجعفر
…
وجنّات عدن بنت عنها وكوثر
وقبلى نأى عن جنّة الخلد آدم
…
فما راقه من جانب الأرض منظر
وهو يتحسّر على فراقه للزاب وجعفر، فقد فارق جنّة الخلد ونهرها «الكوثر» كما فارقهما أبوه آدم قبله، ولم ينفعه ندمه ولا أسفه ولا تحسره، ولا راقه بعدهما مشهد فى الأرض ولا منظر. وإذا كانت الجزائر أهدت إلى الشعر العربى شاعرا كبيرا فى القرن الثالث الهجرى هو بكر بن حماد فإنها أهدت إليه فى النصف الثانى من القرن الرابع شاعرين كبيرين هما عبد الله بن محمد التنوخى المعروف باسم ابن قاضى مدينة ميلة الواقعة إلى الشمال الغربى من مدينة قسنطينة، واشتهر بمدحة فائية مدح بها والى صقلية يوسف ثقة الدولة وسنخصه بترجمة. والثانى عبد الكريم النهشلى المسيلى شاعر المنصور الصنهاجى وابنه باديس، وسنفرد له ترجمة. وقادت الدولة الحمادية فى القلعة وبجاية طوال القرن الخامس الهجرى حركة أدبية وعلمية نشيطة، وارتحل إلى أمرائها الشعراء ليمنحوهم الجوائز والصلات من أمثال ابن الفكاه أبى القاسم عبد الخالق القرشى القيروانى مادح الناصر بن علناس (454 - 481 هـ) وفيه أنشد (2):
قالت سعاد وقد زمّت ركائبنا
…
مهلا عليك فأنت الرائح الغادى
فقلت تالله لا أنفكّ ذا سفر
…
تجرى بى الفلك أو يحدو بى الحادى
حتى أقبّل ترب العزّ منتصرا
…
بالناصر بن علنّاس بن حمّاد
وكان ابنه المنصور (481 - 498 هـ) كاتبا شاعرا وفيه يقول ابن خلدون: «هو الذى حضّر ملك بنى حماد وصيّر بجاية دار المملكة وجدّد قصورها وشيّد جامعها وتأنق فى اختطاط المبانى وتشييد المصانع واتخاذ القصور وإجراء المياه فى الرياض والبساتين، فبنى فى القلعة قصر المنار والملك والكوكب وقصر السلام وبنى فى بجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميميون» . ونزل به عبد الجبار بن حمديس شاعر صقلية الفذ فقلده صلات سنية وقلده ابن حمديس قصائد باهرة،
(1) الزاب: أرض سهول فى وسط الجزائر وراء جبال الأوراس شرقا.
(2)
أعمال الأعلام لابن الخطيب (طبع الدار البيضاء) 3/ 96 زمت ركائبنا: شدت بالزمام استعدادا للرحيل.
منها رائية بديعة يصف فيها أحد قصوره وما امتد أمامه من بهو يتوسطه حوض كبير به نافورة تحملها مجموعة من الأسد المذهبة تمج المياه البلورية من أفواهها إلى بركة محيطة بها، وفوقها شجرة ذهبية ترصّع أغصانها طيور بمناقيرها مياه كمتناثر اللآلى الصافية، يقول (1):
قصر لو انّك قد كحلت بنوره
…
أعمى لعاد إلى المقام بصيرا
أذكرتنا الفردوس حين أريتنا
…
غرفا رفعت بناءها وقصورا
فلك من الأفلاك إلا أنه
…
حقر البدور فأطلع المنصورا
وضراغم سكنت عرين رئاسة
…
تركت خرير الماء فيه زئيرا (2)
وكأنما غشبى النضار جسومها
…
وأذاب فى أفواهها البلّورا (3)
وبديعة الثمرات تعبر نحوها
…
عيناى بحر عجائب مسجورا (4)
قد صوفحت أغصانها فكأنما
…
قبضت بهنّ من الفضاء طيورا
خرس تعدّ من الصّفاح فإن شدت
…
جعلت تغرّد بالمياه صفيرا
وأبيات القصيدة جميعها درر نفيسة على هذه الشاكلة، حتى ليقول المقّرى بعد إنشاده لها فى كتابه «نفح الطيب»:«لم أر لهذه القصيدة فى لفظها ومعناها من نظير» . ومعروف أن العماد الأصبهانى ترجم فى كتابه الخريدة لشعراء العالم العربى فى القرن السادس الهجرى، وقد ترجم لنفر (5) من شعراء الدولة الحمادية نقل ترجماتهم عن كتاب المختار من النظم والنثر لابن بشرون المهدوى القيروانى مع نعته لهم بأنهم من المقلين، وهم ثلاثة: على بن الزيتونى الشاعر ويوسف بن المبارك وابن أبى المليح الطبيب، وقال عن على بن الزيتونى إنه شاعر المغرب الأوسط (الجزائر) وأديبه، وألمعيّه وأربيه، وهو صاحب توشيح وتوشيع وتقصيد وتقطيع، وأنشد له قطعة من قصيدة فى مديح قاض، وفيها يقول:
نهاه عن محارمه نهاه
…
وقرّبه لخالقه تقاه (6)
وشدّ به عرى الإسلام حتى
…
رأينا النّجح وانعقدت عراه (7)
أمين عدله غمر البرايا
…
فما يخشى على أحد قضاه
لقد ظفرت يد علقت نداه
…
ومن ناواه قد تبّت يداه (8)
(1) ديوان ابن حمديس (تحقيق د. إحسان عباس).
(2)
عرين الأسد: مأواه.
(3)
النضار: الذهب
(4)
مسجورا: مملوءا.
(5)
انظر فيهم وفى الأشعار التالية الخريدة (قسم المغرب) طبع تونس 1/ 180 وما بعدها.
(6)
النهى: العقل.
(7)
عرى الإسلام: مواثيقة التى لا تنفصل عنه.
(8)
تبّت: خسرت خسرانا كبيرا.
وكان يوسف بن المبارك من موالى بنى حماد، وله فيهم مدائح مختلفة، من ذلك قوله فى بعض قصائده يخاطب الأسرة:
ما منكم إلا همام حوى
…
مناقبا جلّى ومجدا صراح (1)
وتبذلون الرّفد يوم النّدى
…
وتسعرون الحرب يوم الكفاح (2)
وترفعون الجار فوق السّها
…
وتكرمون الضيف مهما استماح (3)
لا زلتم تجنون زهر العلا
…
فى معرض العزّ بحدّ الصّفاح (4)
أما ابن أبى المليح فكان اشتهاره بالطب أكثر من اشتهاره بالشعر إذ كان طبيبا ماهرا، ويقول العماد إن له مقطعات فى الغزل جالبة للحب سالبة للبّ ولم يرو منها شيئا له، إنما روى قطعة من قصيدة يهنئ بها الأمير عبد الله بن العزيز الحمادى فى أحد الأعياد واصفا فيها خيله، يقول:
وجالت به جرد المذاكى كأنها
…
عذارى ولكن نطقهنّ تحمحم (5)
وصفراء كالتّبر العتيق صقيلة
…
ودهماء يتلوها كميت وأدهم (6)
وأشقر لو يجرى مع البرق جهده
…
لكان له يوم الرّهان التقدم
وحام لواء النّصر يتبع راية
…
بها العزّ معقود عليها متمّم (7)
ويترجم العماد فى نفس الجزء السالف من خريدته لشاعرين من شعراء القلعة الحمادية قدما إلى مصر فى أواخر عهد تلك الدولة هما محمد بن عبد الله بن زكريا القلعى الأصم وعلى بن إسماعيل القلعى، أما محمد فينقل عن كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان للرشيد بن الزبير المؤلف حول منتصف القرن السادس الهجرى أنه قال عنه:«كان جيد الشعر، وارى (8) زناد الفكر» وأنشد له قطعة فى وصف فوارة من قصيدة فى مديح كرامة بن المنصور بن الناصر بن علناس وفيها يقول:
وحاكية بالماء لون اضطرابه
…
قواما وحسنا حين يبدو ويوبص (9)
قضيب لجين ألمع الصّقل متنه
…
وأخلصه فى السّبك من قبل مخلص (10)
تسامى قليلا ثم عاد كأنه
…
جمان حواليها على الماء يرقص (11)
كأنّ نوالا من يمين «كرامة»
…
يمدّ به إذ لا ترى الماء ينقص
(1) جلى: عظيمة، صراح: خالصا.
(2)
الرفد: العطاء. تسعرون: توقدون.
(3)
السها: كوكب صغير خفى الضوء. استماح: اتسع فى الطلب.
(4)
الصفاح: السيوف.
(5)
المذاكى: الخيل المدرّبة. التحمحم: صوت الخيل دون العالى.
(6)
التبر: الذهب. صقيلة: مدربة. دهماء: سوداء. كميت: أحمر ضارب إلى السواد.
(7)
حام: دار.
(8)
وارى: متقد.
(9)
يوبص: يبرق ويلمع
(10)
لجين: فضة.
(11)
جمان: لؤلؤ.
وينقل العماد عن ابن الزبير أنه كان مبخوس الجدّ (1) وأنه ورد إلى الإسكندرية ومصر (الفسطاط) وأقام بهما زمانا لا يجد من يروى ظمأته ويسد خلّته (2)، وعاد إلى المغرب ونزل بينى الأشقر فى طرابلس الغرب، وامتدحهم بقصيدة ميمية فأحسنوا صلته وعظموا جائزته، ومن قوله فى مديحهم:
وفى ذا الحمى المأمول يأمن خائف
…
وفى ذا الندى المعسول ينقع حائم (3)
عضدتم على أحسابكم بفعالكم
…
كما عضدت أسّ البناء الدعائم (4)
على كلّ أرض من نداكم مياسم
…
وفى كل ناد من ثناكم مواسم (5)
وأما على بن إسماعيل القلعى فينقل العماد عن الرشيد بن الزبير أنه كان من الواردين أيضا على مصر وأن الخليفة الفاطمى الحافظ (524 - 544 هـ) استوزر أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالى، وكان هو وأبوه وجده سنيين، ويبدو أنه أراد أن يزيل الخلافة الفاطمية من مصر، فأمر خطباء المساجد أن لا يدعوا فى خطب يوم الجمعة للحافظ وأن يسقطوا من أذانهم للصلاة:«حىّ على خير العمل» شعار الفاطميين، وتنبه أنصار الفاطميين وشيعتهم فقتلوه، ويقول ابن الزبير إن على بن إسماعيل القلعى نظم فى هذا الحادث قصيدة مدح بها الحافظ ومن قوله فيها:
وليل صحبت السيف يرعد حدّه
…
وقد شاب فيه مفرق الصّعدة السّمرا (6)
إلى أن بدا وجه الصّباح كأنه
…
لحافظ دين الله آيته الكبرى
ويعلق العماد على وصف الخليفة الحافظ بأنه حافظ لدين الله قائلا: «أستغفر الله من ذلك فإنه لم يكن حافظا وإنما كان مضيّعا» .
وتقضى دولة الموحدين وزعيمها عبد المؤمن على الدولة الحمادية فى بجاية وتصبح الجزائر تابعة لها، ويشتهر بها حينئذ شاعران: الحسن بن على بن عمر القسنطينى المعروف باسم ابن الفكون وسنخصه بترجمة، ومحمد (7) «بن على بن مروان بن جبل الهمدانى الوهرانى الأصل الناشئ بتلمسان، وكان فقيها نابها تولى قضاء تلمسان ثم استقدمه المنصور الموحدى (580 - 595 هـ) لقضاء الجماعة بمراكش وظل حميد السيرة مشهورا بالعدل فى أحكامه، وعزله المنصور بعد فترة، وأعاده ابنه الناصر إلى أن توفى سنة 601 هـ/1204 م ومن مدائحه للمنصور قوله:
(1) الجد: الحظ.
(2)
خلته: حاجته.
(3)
ينقع حائم: يروى ظامئ.
(4)
عضدتم: أعنتم.
(5)
مياسم: جمع ميسم: علامة وأثر.
(6)
الصعدة: القناة.
(7)
انظره فى بغية الرواد ليحيى بن خلدون 1/ 113 والمعجب للمراكشى ص 264 و 312 والتكملة لابن الأبار رقم 1063.
أسيّدنا يا بن الإمامين أمركم
…
منوط بأمر الله ما عنه معدل
نصرتم لأن الحقّ آن ظهوره
…
وناصره فى الله ما كان يخذل
ملأتم بساط الأرض عدلا وما بقى
…
فأخباركم فيه تسير وتنقل
ويؤسس أبو زكريا منذ سنة 625 بتونس الدولة الحفصية وتتبعها بجاية وقسنطينة وشرقى الجزائر إلى ما بعد مليانة، بل حتى أحيانا إلى مدينة الجزائر شمالا وحتى مدينة ورقلة جنوبا، وكانوا يتخذون للمدن الكبرى: قسنطينة وبجاية وبونة ولاة حفصيين. وظلت لبجاية أهمية كبيرة طوال القرن السابع الهجرى ثم خلفتها قسنطينة أو بعبارة أدق نازعتها الأهمية، فقد ظلت فى كليهما حركة أدبية وعلمية نشيطة، على الرغم من أنه لم تنشأ فيهما ولا فى شرقى الجزائر عامة دولة كبيرة كدولة بنى حماد فى بجاية التى قضى عليها عبد المؤمن مؤسس دولة الموحدين ولا كدولة الزيانيين فى تلمسان التى سنلم بها بعد قليل، ولا يلقانا فى بجاية وقسنطينة وشرقى الجزائر شعر مديح فى حاكم كبير، وحقا يلقانا شعر مديح يتعلق بصداقات مثل قول محمد بن يحيى بن عبد السلام فى صديقه على بن سيد الناس وعشيرته (1):
شمس السعادة لاسنا النّبراس
…
حلّت بأفق على بن سيد الناس
من معشر بذل النوال شعارهم
…
وهم الأسود لدى احتدام الباس
فالبس رداء الفخر جرّر ذيله
…
وانعم بطيب العيش والإيناس
وأهم شاعر مديح أنتجه شرقى الجزائر فى عهد الدولة الحفصية شهاب الدين بن الخلوف القسنطينى شاعر السلطان أبى عمرو عثمان، وسنخصه بترجمة عما قليل.
وتؤسّس بتلمسان الدولة الزيانية منذ سنة 633 ويقود يغمراسن مؤسسها وأبناؤه وأحفاده نهضة علمية وأدبية عظيمة فينشئون المدارس ويكثرون فى مجالسهم من مناظرات العلماء بين أيديهم، ويتخذون المفتين من كبار الفقهاء كما يتخذون الأطباء ويتغنى بمديحهم الشعراء ويجزلون لهم فى العطاء، ومن أول ما يلقانا من ذلك قصيدة لشاعر يغمراسن حين هاجمه السعيد الموحدى صاحب مراكش سنة 646 وانتصر عليه يغمراسن، وفيها يقول مهنئا له بالانتصار (2):
بشرى بعاجل فتح أوجب العرسا
…
وأسفر الدّهر عنه بعد ما عبسا (3)
فتح تبجّست الأنواء صادقة
…
بودقه ومحت أنواره الغلسا (4)
فتح تفتّح باب السعد عن كثب
…
عنه وأنجز فيه اليمن ما التمسا (5)
فتح جرى فى الورى مجرى الحياة فقد
…
سرى فمازج منّا النّفس والنّفسا
(1) عنوان الدراية ص 343.
(2)
انظر تاريخ بنى زيان ملوك تلمسان للتنسى (تحقيق محمود بوعياد) ص 119.
(3)
أسفر: انكشف. عبس: قطّب وجهه وتجهّم
(4)
تبحست: تفجرت. الأنواء: الأمطار، ودق المطر: شديده. الغلس: ظلمة آخر الليل.
(5)
كثب: قرب.
والقصيدة جيدة وفيها يشير الشاعر إلى تطور الأحداث فى الحرب ومقتل السعيد الموحدى ويشيد بشجاعة الجيش التلمسانى وبأس فرسانه، وكان من جملة الذخائر التى استولى عليها يغمراسن من محلة الأمير الموحدى السعيد والتى بعد بها صيته وضخم ملكه كما يقول التنسى العقد اليتيم المشتمل على عشرات من خرزات الياقوت والدرر الثمينة بل على مئات كما يقول ابن خلدون فى تاريخه، وعضاد (1) الزمرد، وأنفس من ذلك وأعظم مصحف عثمان بن عفان الذى خطّه بيمينه، وكان قد صار إلى بنى أمية، ونقل إلى عبد الرحمن الداخل فى قرطبة فوقفه بجامعها وغشاه بصفائح الذهب ونظم فى مواضع منها لآلئ نفيسة وأحجار ياقوت وزمرد. وكان أبناؤه يقدمونه أمامهم فى أسفارهم قائمين بحقه إلى أن كان من نعم الله على يغمراسن أن حظى به، إن صحّ ما قاله يحيى بن خلدون وغيره من المؤرخين. ولا تلبث تلمسان أن تنجب الشاعر البارع ابن خميس كاتب أبى سعيد عثمان الأول ابن يغمراسن (681 - 703 هـ) وشاعره، وسنفرد له ترجمة. وكان يعاصره ابن أبى حجلة الذى ترجمنا له فى الجزء الخاص بمصر من هذه السلسلة، وكان قد رحل فى بواكير حياته إلى الحج واستوطن مصر وولى إحدى مشيخات الصوفية وكان يزرى على أصحاب الوحدة من الصوفية، وله مدائح نبوية متعددة وكتب أدبية متنوعة، منها سكردان السلطان أى إناء السكر، وديوان الصبابة أهداهما للسلطان حسن المملوكى، مضمنا فيهما بعض مدائحه فيه من مثل قوله فى الكتاب الأخير:
مليك أسود الغاب تحذر بأسه
…
لأن ملوك الأرض طرّا تحاذره
وأىّ كماة لم يرعهم نزاله
…
وأى مكان ما علته منابره
ولعل حاكما من حكام الدولة الزيانية لم يمدح كما مدح أبو حمو موسى الثانى (760 - 791 هـ) الذى خلّص تلمسان من حكم المرينيين واستعادها لأسرته، وكان أديبا فذّا وشاعرا ماهرا ونهضت تلمسان فى عهده نهضة علمية وأدبية عظيمة وأحاطت به كوكبة من الشعراء ألم بها وبمدائحها فيه التنسى فى كتابه:«راح الأرواح فيما قاله أبو حمو وقيل فيه من الأمداح» وسنخصه بترجمة بين شعراء الفخر، ومن مداحه وكتّابه محمد بن صالح شقرون وأبو الفضل العصامى ومحمد بن قاسم، ومن مداحه أيضا محمد بن أبى جمعة التلالسى أحد أطبائه، وفيه يقول فى قصيدة (2):
مطاع شجاع فى الوغى ذو مهابة
…
حسام على الباغين فى الأرض قد سلاّ
له راحة كالغيث ينهلّ ودقها
…
وصارم نصر مرهف الحدّ لافلاّ
إمام حباه الله ملكا مؤزّرا
…
فلا ملك إلا لعزّته ذلاّ
من الزّاب وافانا عزيزا مظفّرا
…
يجرّ من النّصر المنوط به ذيلا
(1) العضاد: الحلية توضع فى العضد.
(2)
بغية الرواد 1/ 90.
لطاعته كلّ الأنام تبادرت
…
فيا سعد من وافى ويا ويح من ولّى
لقد جبر الله البلاد بملكه
…
به ملئت أمنّا به ملئت عدلا
والقصيدة بديعة وقد استهلها التلالسى بوصف طبيعة تلمسان الجميلة، ونوه بوجود قبر الصوفى الكبير أبى مدين شعيب فيها، وعاد إلى الإشادة بحسنها وأنها جنة الدنيا ثم أخذ فى مديح أبى حمو واستيلائه على تلمسان من يد الدولة المرينية قهرا ومبادرتها إلى عقد الصلح. وله موشحة أنشدها المقرى فى أزهار الرياض يجمع فيها بين مديحه ومديح الرسول الكريم، ومن مديحه له فيها (1):
من لم يزل يسمو
…
إلى المعالى كلّ حين
ذاك أبو حمّو
…
المولى أمير المسلمين
طاعته غنم
…
نلنا بها دنيا ودين
وكان أبو حمو استنّ فى تلمسان الاحتفال بليلة مولد سيد المرسلين، وكان المنشد يستهلّ الحفل بإنشاد مدحته النبوية، ثم يظل ينشد طويلا ما رفع إليه من مدائح شعراء البلاط فى أبى حمو وفى الرسول الكريم، وتسمى تلك القصائد باسم المولديات، وظل ذلك تقليدا بعده، وسنترجم لشاعرين من شعرائه عما قليل، هما يحيى بن خلدون ومحمد بن يوسف الثغرى. وممن تولى مقاليد الحكم بعده ابنه أبو زيان محمد الثانى (796 - 801 هـ) وكان كلفا بالعلم والأدب-كما مر بنا فى غير هذا الموضع-وراجت سوقهما فى عهده، وكان شاعرا كما كان عالما، وتهادى مع السلطان المملوكى برقوق (784 - 801 هـ) والطريف أنه وجّه إلى برقوق مع هديته قصيدة من نظمه استهلّها بتصوير أشواقه وحنينه إلى زيارة المصطفى والبقاع المقدسة، ومن قوله بها فى مديح السلطان برقوق (2):
ملك به نام الأنام وأمّنت
…
سبل المخاوف، لا يخاف سبيل
والملك ضخم والجناب مؤمّل
…
والفضل جمّ والعطاء جزيل
والصّنع أجمل والفخار مؤثّل
…
والمجد أكمل والوفاء أصيل (3)
يا خادم الحرمين حقّ لك الهنا
…
وحباك من روح الإله قبول
وممن انتعش الأدب فى أيامه بعده أبو مالك عبد الواحد الزيانى (814 - 827 هـ) ويقول التنسى إن الأدباء جاءوا إلى بابه ينسلون من كل حدب (4) فينقلبون بجر (5) الحقائب، ظافرين
(1) أزهار الرياض 1/ 247.
(2)
تاريخ بنى زيان للتنسى ص 225.
(3)
مؤثل: أصيل.
(4)
ينسلون من كل حدب: يسرعون من كل طريق.
(5)
بجر الحقائب: مملوئى الحقائب، كناية عن كثرة العطاء.
بجزيل الرغائب، ويضرب مثلا لمادحيه من غير التلمسانيين قصيدة لشاعر فارسىّ يسمى على العشّاب يهنئه فيها ببعض فتوحه قائلا (1):
ملك تجلّل بالمهابة وارتدى
…
وسما فدان له الزمان الأسعد
كم بيّنت آراؤه من مشكل
…
والله يكفل ملكه ويؤيّد
ملك أبى الرحمن إلا نصره
…
فمن الذى يخفى سناه ويخمد
وربما كان أهم حاكم زيانى بتلمسان بعده المتوكل (866 - 8 هـ) ويعنى الفقيه التنسى بوضع كتاب أرّخ فيه له ولأسرته-كما مرّ بنا-سماه نظم الدر والعقيان فى بيان شرف بنى زيان، وأنهى حديثه فيه عنه بقصيدة فى مديحه ومديح أبنائه الستة، وفيه يقول (2):
حوى فى صباه من وثاقة رأيه
…
مع الحزم ما لم تحوه اللّمم الشّمط (3)
هو البحر جودا من جميع جهاته
…
فمعروفه لجّ وإحسانه الشّطّ
وكلّ بنى الآمال ساعون نحوه
…
كذا كلّ من أضناه من دهره قسط (4)
وبرّز من بين الملوك مجليا
…
وأعطاه ربّ العرش فوق الذى أعطوا
وتضعف الدولتان الزيانية والحفصية مع أوائل القرن العاشر الهجرى ويستولى فرديناند ملك إسبانيا من الدولتين على الثغور الشمالية المهمة للجزائر. ويتصدى له خير الدين (بربروس) وعروج ويستخلصان منه مدينة الجزائر سنة 922 هـ/1516 م وما يزال خير الدين ينازله مستوليا منه على الثغور الشمالية ما عدا المرسى الكبير ووهران، ويضيف إقليم الجزائر إلى الدولة العثمانية، ويخلفه عليه ابنه حسن، ولا يزال الجزائريون يستحثونه على منازلة الإسبان، ويسترجع منهم فى سنة 948 هـ/1541 م المرسى الكبير والجزء الأعلى من وهران، ويهنئه الشاعر عبد الرحمن بن موسى بمثل قوله (5):
هنيئا لكم باشا الجزائر والغرب
…
بفتح أساس الكفر مرسى قرى الكلب
وأبقاك ربى فاتحا لحصونهم
…
وكهفا منيعا ذا عتوّ وذا ضرب
ويريد بالكلب شارل الخامس ملك إسبانيا وكان قد ساق إلى الجزائر حملة كبيرة، فسحقها البايلاريك حسن. وتظل وهران مع الإسبان، وما يزال الشعراء يستحثون الولاة العثمانيين فى فتحها من مثل محمد بن عبد المؤمن الذى يستحث الداى «باب حسن» على فتحها فى حماسية طويلة منشدا:
(1) التنسى ص 238.
(2)
التنسى ص 265.
(3)
اللمم الشمط: المختلط فيها سواد الشعر بياضه.
(4)
قسط: جور وظلم، وهى من ألفاظ الأضداد.
(5)
البستان فى ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان لابن مريم ص 132.
نادتك وهران فلب نداها
…
وانزل بها لا تقصدن سواها
واستدع طائفة العساكر نحوها
…
يغزونها ولينزلوا بفناها
أضحى الصّليب مؤيدا والدين قد
…
درست معالمه فلست تراها
فادع الغزاة لغزوها مستنجدا
…
وانهض إليها وانزلن مرساها
وعلى شاكلته محمد القوجيلى. . وسنخصه بكلمة. ويتولى محمد بكداش مقاليد الولاية سنة 1118 هـ/1706 م فيعظم الأمل فى نفوس الجزائريين أن يحقق لهم أمنيتهم فى فتح وهران، ويهنئه يحيى بن أبى راشد مشيدا به فى مثل قوله:
ملك تفرّد بالكمال ولم يكن
…
لكماله فى السالفين مثال
دانت له الأيّام طرّا مثلما
…
دانت لليث الغابة الأشبال
خضعت لسطوته الملوك وسلّمت
…
لجلاله الأمراء والأقيال (1)
ويكثر الشعراء من استثارة بكداش. ويدور العام الأول من حكمه، ويفتتح وهران عنوة سنة 1119 هـ/1707 م وكان أديبا يجمع النثر والخطابة والشعر، وتبارى شعراء الجزائر والمغرب فى تهنئته بهذا النصر العظيم، وجمع محمد بن ميمون ما نظم فيه من شعر منذ ولايته فى كتابه «التحفة المرضية فى الدولة البكداشية» وجعله فى ست عشرة مقامة. ومن شعرائه أحمد بن قاسم اليونى ومحمد القوجيلى والمستغانمى وابن على الذى هنّأه تهنئه حارة مصورا كيف يسحقهم سحقا لا يبقى ولا يذر بمثل قوله:
إمام سقى الكفار كأس منيّة
…
لهم شبه بالنّمل والسيف حاطم
ومزّقهم فى الأرض كلّ ممزّق
…
فربعهم-بعد العمارة-طاسم (2)
وعاد لوهران السنيّة فخرها
…
وعاد إليها عهدها المتقادم
ويتوفى بكداش سريعا سنة 1122 هـ/1710 م. ويسترد الإسبان وهران وتظل فى حوزتهم حتى سنة 1205 هـ/1790 لعهد الباي محمد الكبير، فيفتتحها نهائيا، وكانت الحياة الأدبية نشطت لعهده والتف حوله غير شاعر مثل أحمد القرومى ومحمد بن الطيب المازرى وأحمد بن عمار، ومن أهمهم أحمد بن سحنون كاتبه، وله فى فتحه لوهران أرجوزة طويلة افتتحها بقوله:
حمدا لمن آزر نصر الدّين
…
ودان ناصريه أسنى الدّين
وفتّح الأقطار بالجهاد
…
حتى غدت ليّنة المهاد
وشرح الأرجوزة شرحا أدبيا تاريخيّا سماه: «الثغر الجمانى فى ابتسام الثغر الوهرانى» وصف فيه الفتح وسيرة الباي والشعراء الذين مجّدوه وبعض أشعارهم فى تهنئته بالفتح،
(1) الأقبال: جمع قيل: ملوك اليمن.
(2)
طاسم: دارس.