الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجراوى
(1)
هو أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوى، من قبيلة جراوة بتادلة، سكن مدينة فاس، وبها منشؤه ومرباه، ويقول ابن خلكان: كان نهاية فى حفظ الأشعار القديمة والمحدثة، وجمع كتابا يشتمل على فنون الشعر سماه صفوة الأدب وديوان العرب، وهو عند أهل المغرب كحماسة أبى تمام عند أهل المشرق، وكان شاعرا نابها مدح بشعره عبد المؤمن وابنه يوسف وحفيده يعقوب وابنه الناصر، توفى سنة 608 هـ/1211 م. وقد اتصل بعبد المؤمن منذ سنة 553 هـ/1159 م إذ نراه يكتب على لسانه قصيدة يحثّ فيها الأعراب الهلالية لتلبية دعوة عبد المؤمن لجهاد نصارى الأندلس استهلها بقوله:
أحاطت بغايات العلا والمفاخر
…
على قدم الدنيا هلال بن عامر
وشارك الأعراب فى حروب الأندلس وجاءت عبد المؤمن البشرى بتحرير بطليوس واستردادها من ابن الرنك وهنأه الجراوى بقصيدة طويلة مطلعها:
نصر بكل سعادة مقرون
…
نالت به الدّنيا الهنا والدين
ويفتح عبد المؤمن المهدية مستردا لها من أيدى النورمان بعد أن ظلوا فيها وفى ساحلها اثنى عشر عاما طوالا، ويهنئه الجراوى بتائية يقول فيها:
اهنأ إمام الهدى فالعدل منبسط
…
والدّين منتظم والكفر أشتات
وينتصر جيش عبد المؤمن ومن معه من كتائب الأعراب فى السنة التالية على نصارى الإسبان فى موقعة فحص بلقون، ويهنئه الجراوى برائية وفيها يقول:
أعليت دين الواحد القهّار
…
بالمشرفيّة والقنا الخطّار (2)
لوراء موسى ما فعلت وطارق
…
زريا بما لهما من الآثار (3)
أتممت ما قد أمّلوه ففاتهم
…
من نصر دين الواحد القهار
بعراب خيل فوقهن أعارب
…
من كل مقتحم على الأخطار
وهو يبالغ مبالغة مفرطة حين يعلى عبد المؤمن على موسى بن نصير وطارق بن زياد فاتحى الأندلس العظيمين، وإنما سقنا الأبيات لنثبت معها البيت الرابع الشاهد على اشتراك الهلالية فى حرب الأندلس المظفرة أيام عبد المؤمن وابنه يوسف وحفيده يعقوب كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع. ويصبح الجراوى شاعر يوسف بن عبد المؤمن الحظىّ لديه، وكان لا يبرح مجلسه،
(1) انظر فى الجراوى وترجمته وشعره البيان المغرب لابن عذارى وابن خلكان 7/ 12، 136 وزاد المسافر والغصون اليانعة والمنّ بالإمامة لابن صاحب الصلاة، وراجع الوافى بالأدب العربى فى المغرب الأقصى للأستاذ ابن تاويت 1/ 116 وما بعدها والنبوغ المغربى 1/ 179، 3/ 22، 198 وما بعدها، 253.
(2)
القنا الخطار: الرماح شديدة الطعن. المشرفية: السيوف.
(3)
راء: رأى.
ونراه فى ركبه حين جاز إلى الأندلس سنة 563 هـ/1169 م وكان قد جمع جموعه يريد منازلة محمد بن سعد بن مردنيش، ونازله أخوه عثمان صاحب غرناطة وتوفى، فبايع أبناؤه يوسف وانتهت ثورته. ونرى الجرّاوى يمدحه فى هذه الأثناء بقصيدتين يقول فى إحداهما مشيرا إلى المتمردين عليه:
تنال المارقين بكلّ أرض
…
ولا طارت-ولا نقلت-خطاها
ويقول فى الثانية:
لو كانت الجوزاء من أعدائه
…
لم تنج من غاراته الجوزاء
وكانت آخر معارك جيش الموحدين فى الأندلس لعهد يوسف معركة البيبوج فرناندو بن ألفونس سنة 569 وفيها كان النصر حليف الموحدين ووقف الجراوى بين يدى يوسف ينشده مدحة طنانة، وفيها يقول:
عن أمركم يتصرّف الثقلان
…
وبنصركم يتعاقب الملوان (1)
وبما يسوء عدوّكم ويسرّكم
…
تتحرّك الأفلاك فى الدّوران
جاهدتم فى الله حقّ جهاده
…
ونهضتم بحماية الإيمان
وتركتم أرض العدى وقلوبهم
…
فى غاية الرّجفان والخفقان
وغزاهم الدين الحنيفىّ الذى
…
كتب الظّهور له على الأديان
والبيتان الأولان من نوع مغالاة ابن هاني فى المعز الفاطمى ومديح ابن حبوس فى عبد المؤمن مما مرّ بنا وأشرنا إليه. وهو يضفى على يعقوب-كما أضفى على أبيه يوسف وجده عبد المؤمن- غير قليل من القدسية وقد مدحه مرارا حين انتصر أسطوله على ابن غانيّة فى بجاية، وحين واقعه جيشه وهزمه، وحين فتح قفصة جنوبى إفريقية التونسية، وحين قضى على بعض الثوار. وفى سنة 587 هـ/1191 م استرد يعقوب مدينة شلب بغربى الأندلس، وعاد يعقوب إلى عاصمته مراكش، وهنأه الشعراء بهذا النصر المبين، وأنشده الجراوى قصيدة يقول فيها:
إياب الإمام حياة الأمم
…
توالى السرور به وانتظم
وجاد به الأرض صوب الحيا
…
وجلّى الظّلام به بدر تمّ (2)
فشكرا لخيل وفلك دنت
…
بمستأصل الظّلم ماحى الظّلم
إذا حلّ فى بلدة أمرعت
…
فطاب جناها وفاح المشم (3)
وقام بأقطارها عدله
…
وصوب نداه مقام الدّيم (4)
سل الدّهر عن بطشه بالعدا
…
تجب من وراء الدروب العجم
(1) الثقلان: الإنس والجن. الملوان: الليل والنهار.
(2)
صوب الحيا: انسكاب الغيث. بدرتم: البدر فى اكتماله.
(3)
أمرعت: أخصبت. جناها: ثمرها. المشم: الشذا.
(4)
نداه: كرمه. الديم جمع ديمة: المطر يطول فى سكون.
وإياب يعقوب-فى رأى الجراوى-ليس حياة لشعبه فقط، بل هو حياة الأمم جميعا، إذ يجود الأرض غيث منهمر، ويضيء الظلام بدر فى اكتماله، فشكرا للسفن التى عبرت بها المجاز وللخيل التى حملت لا مستأصل الظلم وناشر العدل فحسب، بل أيضا من يمحو الظلام بنوره، وإن البلاد لتخصب وتطيب ويفوح شذاها حين يحل فيها، وينتشر العدل الذى لا تطيب حياة الناس بدونه ويعمّ الكرم الفياض. وسل الدهر عن قهره للأعداء تجبك من وراء الدروب جموع إسبانيا متوجعة مما يذيقها من البطش الشديد. ولم يلبث نصارى الإسبان أن توجعوا توجعا أليما سنة 591 هـ/1195 م فإن ألفونس الثامن ملك قشتالة علم أن يعقوب يعد لمعركة كبرى استنفر فيها المغاربة وأعراب الهلالية وأهل الأندلس فاستصرخ البابا وملوك أوربا وحشد جموعه عند حصن يسمى الأرك بين قرطبة وطليطلة. وسحق جيش يعقوب تلك الجموع سحقا ذريعا، وفرّ ألفونس على وجهه لا يلوى حتى طليطلة، وكان نصرا عظيما أعاد للذاكرة موقعة الزلاقة وبطلها يوسف بن تاشفين وتغنى الشعراء بها وببطلها يعقوب طويلا، وللجراوى فيها قصيدتان يقول فى أولاهما:
هو الفتح أعيا وصفه النّظم والنثرا
…
وعمّت جميع المسلمين به البشرى
وأنجد فى الدنيا وغار حديثه
…
فراقت به حسنا وطابت به نشرا (1)
تميّز بالأحجال والغرر التى
…
أقلّ سناها يبهر الشمس والبدرا (2)
لقد أورد الأذفونش شيعته الرّدى
…
وساقهم جهلا إلى البطشة الكبرى (3)
حكى فعل إبليس بأصحابه الألى
…
تبرّأ منهم حين أوردهم بدرا
فدارت رحى الهيجا عليهم فأصبحوا
…
هشيما طحينا فى مهبّ الصّبا يذرى (4)
يطير بأشلاء لهم كلّ قشعم
…
فما شئت من نسر غدا بطنه قبرا (5)
بيمن الإمام الصالح المصلح الرّضا
…
نضا سيفه الإسلام فاستأصل الكفرا (6)
والجراوى يقول إنه فتح أعظم من أن يحيط بوصفه شعر ونثر وقد عمت به البشرى والفرحة جميع المسلمين وملأت تباشيره الدنيا بهضابها وسهولها فازدانت به حسنا وطابت نشرا وعطرا، وإنه لفتح محجّل أغر يبهر ضوؤه الشمس والقمر، فقد أورد ألفونس ملك قشتالة وطليطلة أنصاره مورد الردى والهلاك، ودفعهم دفعا إلى البطشة الكبرى، فذاقوا ما ذاقته قريش يوم بدر، إذ دارت رحى الحرب على جثثهم وأصبحوا أشلاء وطحينا تذروه الرياح، وشبعت منهم الضباع والسباع، وغدت بطون النسور لأشلائهم قبورا طائرة. وكل ذلك بيمن طالع
(1) أنجد وغار: ملأ المرتفعات والسهول. نشرا: رائحة عطرة.
(2)
الأحجال: بياض فى السيقان. الغرر: بياض فى الجباه.
(3)
الردى: الهلاك.
(4)
الهيجاء: الحرب. يذرى: يطير فى الهواء.
(5)
قشعم: نسر مسنّ.
(6)
نضا: سلّ.