الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو يدعو فى أول زجله إلى البعد عن الحسان الملاح لأنهن يخنّ من يعاهدنه ولا يحبسن أنفسهن على من يصفيهنّ الودّ، ودائما بتهن على عشاقهن ويتمنعن ويجدن متاعا فى تقطيع قلوبهم، وإن واصلوا لم يلبثن أن يهجرن، ولا عهد لهن ولا أمان. ومع كل هذه النصائح يقول إن واحدة منهن صبته وملأت قلبه حبا وهياما وأوصى بها قلبه حتى لو أذاقته هوانا بعد هوان!
3 -
شعراء المديح
المديح من أقدم موضوعات الشعر العربى، وهو يحمل أمجاد الأمة على مر التاريخ، ونراه دائما على ألسنة الشعراء فى كل قطر وعصر يتغنون بالأمجاد التى يحققها الخلفاء والحكام، ونراه فى المغرب الأقصى منذ نشأت دولة الأدارسة، وفيهم يقول-كما عند أبى عبيد البكرى- إبراهيم بن أيوب من نكور فى الشمال الشرقى للمغرب الأقصى على المتوسط، ولعلها فى إدريس الثانى:
أيا أملى الذى أبغى وسولى
…
ودنياى التى أرجو ودينى
أأحرم من يمينك رىّ نفسى
…
ورزق الخلق من تلك اليمين
ويحجب عن جبينك طرف لحظى
…
ونور الأرض من ذاك الجبين
وقد جبت المهامة من نكور
…
إليك بكل ناجية أمون (1)
وابن أيوب لا يمدح فحسب، بل يبالغ فى مديحه، إذ يجعل نور الأرض-فى المشارق والمغارب-يستمد من جبين ممدوحه الإدريسى. ونمضى بعد الأدارسة فى عصر أمراء الطوائف ولا نجد إلا شظايا متناثرة من بعض المدائح، ونجد ابن القابلة السبتى يمتدح قائدا ولعله من قواد المرابطين فى أول دولتهم، ولم يبق من مدحته إلا ما أنشده ابن بسام فى الذخيرة من قوله فى بعض انتصاراته ووصفه لقتلاه (2):
تركتهم نهب الفلاة ووحشها
…
شعورهم شعت وأوجههم غبر
تظلّ سباع الطير عاكفة بهم
…
على جثث قد سلّ أنفسها الذّعر
وقد عوّضتهم من قبور حواصلا
…
فيا من رأى ميتا يطير به قبر
وهو يقول إن أرواحهم لم تسلّها السيوف، وإنما سلها الذعر من الممدوح وجيشه قبل السيوف ويقول إن الطير عاكفة على أجسادهم تأكلهم أكلا لمّا، وكأنما لم يعد التراب
(1) المهامه: القفار والفلوات. ناجية: ناقة سريعة. أمون: لا تعثر ولا تفتر.
(2)
الذخيرة 4/ 1/381.
قبورهم، بل أصبحت قبورهم حواصل الطير. ويقول الحصرى نزيل سبتة يصف بأس المرابطين وشجاعتهم:
بنو الحرب غذّتهم لبان ثديّها
…
وما استعذبوا منهن إلا العلاقما (1)
يحثّون للهيجاء جردا سلاهبا
…
وينضون فى البيداء بزلا صلادما (2)
إذا طعنوا بالسمهريّة خلتهم
…
ضراغم تغرى بالقلوب أراقما (3)
وإن كرّ منهم ذو لثام مصمّم
…
غدا لفم الهيجاء بالسيف لاثما (4)
والحصرى يقول عن المرابطين إنهم بنو الحرب رضعوا لبان ثديها، مستعذبين منها العلاقم وأشدها مرارة كناية عن حسن بلائهم فى الحروب الضارية، وإنهم ليحثون لها خيلا جردا مقدمة ويضنون فى البوادى إبلا متينة صلبة، وإنك لترى الرماح فى أيديهم يدسونها-كأنها أفاع-فى قلوب أعدائهم، وإنك لترى الملثم منهم إذا صمم وكرّ كأنما يريد أن يقبّل الحرب بسيفه، الذى يستأثر منه بكل مشاعره. وأنشد المقرى فى الجزء الرابع من أزهار الرياض للقاضى عياض السبتى مقطوعة بديعة يهنئ بها-كما نظن-على بن يوسف بن تاشفين بزفاف ولى عهده تاشفين على عروسه منشدا:
ليهن العلا أن زفّت الشمس للبدر
…
وحلّى جيد الملك بالأنجم الزّهر
وقرّت عيون المجد أيّة قرّة
…
بيوم تعالى أن يكون من الدّهر
لدن ساعة أفضت إلى كل بغية
…
كما اعتلق الغوّاص بالدرّة البكر
قران كلا السّعدين فيه تلاقيا
…
كما يلتقى فى المقلة الشّفر بالشّفر
لتجر المنى فى حلبتيه مغذّة
…
فحقّ لها فى مثل ذلك أن تجرى (5)
بسعد أمير المسلمين تطلّعت
…
أساريره تندى بمائيّة البشر (6)
تمنّاه نجل الملك حظا ممتّعا
…
بعزّ إلى عزّ وقدر إلى قدر
وهو يقول: لتهنأ العلا فقد زفّت الشمس الساطعة إلى البدر المنير، وزيّن جيد الملك بالأنجم المتلألئة، وأصبح المجد قرير العين بيوم زفاف تسامى على الدهر، حين أتيحت لولى العهد كل أمنية، وظفر بها ظفر الغواص بالدرة اليتيمة، وإنه لقران تلاقى فيه سعدان كما يتلاقى فى العين الجفنان، ولتجر المنى فى حلبتيه وتمرح ما شاء لها المرح، فذلك سعد أمير المسلمين، وتلك أساريره يترقرق فيها رونق البشر، وهو كل ما كان يتمناه نجله حظا سعيدا هانئا بعزّ
(1) العلاقم: جمع علقم: شديد المرارة.
(2)
جردا: قوية. سلاهب: طويلة. ينضون: يهزلون. بزلا: إبلا ناضجة متينة. صلادم: صلبة.
(3)
السمهرية جمع سمهرى: الرمح. ضراغم: أسد. أراقم: جمع أرقم: أخبث الحيات والأفاعى.
(4)
ذو لثام: كان المرابطون يضعون لثاما على وجوههم، ولذلك سموا الملثمين. لاثما: مقبّلا.
(5)
مغذة من أغذ السير إذا أسرع فيه.
(6)
أسارير الوجه: محاسنه. مائية: رونق.
إلى عز وتجلة إلى تجلة. وترمز هذه المقطوعة إلى ما أصاب الشعر المغربى من نهضة منذ عصر المرابطين، وسنترجم لابن زنباع أحد شعرائه. ونمضى إلى عصر الموحدين ونلتقى بابن حبوس شاعر عبد المؤمن والجراوى شاعر يوسف بن عبد المؤمن وابنه يعقوب المنصور وحفيده الناصر، وسنفرد لكل منهما ترجمة. كان عبد المؤمن قد استوزر أبا جعفر بن عطية واستكتبه، ثم جرت له محنة معه فزجّ به فى غياهب السجون وقتله، وأرسل إليه، وهو سجين يستعطفه، أبياتا شعرية افتتحها بقوله (1):
عطفا علينا أمير المؤمنين فقد
…
بان العزاء لفرط البثّ والحزن
قد صادفتنا سهام كلها غرض
…
ورحمة منكم أوقى من الجنن (2)
من جاء عندكم يسعى على ثقة
…
بنصره لم يخف بطشا من الزّمن
أنتم بذلتم حياة الخلق كلّهم
…
من دون منّ عليهم لا ولا ثمن
ونحن من بعض من أحيت مكارمكم
…
كلتا الحياتين من نفس ومن بدن
وصبية كفراخ الورق من صغر
…
لم يألفوا النّوح فى فرع ولا فنن (3)
قد أوجدتهم أياد منك سابغة
…
والكلّ لولاك لم يوجد ولم يكن
وهى أبيات تلين القلوب القاسية وتملؤها رحمة وبرا وإشفاقا، ولكن قلب عبد المؤمن لم يلن له ولا أخذته فيه رأفة ولا رحمة، وظل غاضبا عليه حتى أذاقه حتفه. وكان ابنه يوسف محبوبا من شعبه وكان عالما واسع المعرفة وقرّب المتفلسفة والشعراء منه، ولأبى حفص عمر السلمى مدحة طويلة فيه أنشدها المقرى فى أزهار الرياض استهلها بقوله (4):
الله حسبك والسبع الحواميم
…
تغزو بها سبعة وهى الأقاليم
سبع المثانى التى لله قمت بها
…
عليك من سرّها نصر وتقديم
وأنت بالسّور السبع الطوال على
…
كل الورى حاكم بالله محكوم
ولعل يوسف كان أمضى من حكمه سبع سنوات، فخال الله يرعاه والسور الحواميم السبع كأنما يغزو بها العالم وأقاليمه السبعة كما كان يظن الجغرافيون حينئذ، والسبع المثانى وهى سورة الفاتحة التى لا يزال يقوم بها مصليا لربه وداعيا تحفظه وتكفل له النصر والتأييد. وتؤكد السور السبع الطوال: البقرة، وتالياتها حتى التوبة أنك محكوم وحاكم بكتاب الله وما جاء فيه من الإخاء بين المسلمين والمساواة والعدل الذى لا تصلح حياة الشعوب بدونه. ومضى عمر السلمى فى قصيدته يسترسل فى بيان تعمق يوسف فى العلم وتدفق الخير على رعيته من يده، ويقول مبالغا إن الشرق والغرب والبحر والبر من سهل وجبل يدين له، ويشيد بعلمه وكرمه
(1) النبوغ المغربى 2/ 166.
(2)
الجنن جمع جنة: الوقاية.
(3)
الورق: الحمام. فنن: غصن.
(4)
أزهار الرياض 2/ 362.
وإقدامه فى الحرب وشدته على العصاة، ويختم القصيدة بمبالغات طالبا إلى سامعيه أن يجثوا على الرّكب إعظاما ليوسف. وبحق يمجّد انتصار يعقوب بن يوسف فى موقعة الأرك التى سحق فيها نصارى الإسبان ومزق جموعهم تمزيقا، وكان حريا بابن سعيد أن ينشد القصيدة كاملة فى كتابه الغصون اليانعة، ومما أنشده قوله ليعقوب (1):
أطاعتك الذّوابل والشّفار
…
ولبي أمرك الفلك المدار (2)
ببشرى مثل ما ابتهجت رياض
…
وسعد مثلما وضح النهار
وفتح مثلما انفتحت كمام
…
وشقّت عن صدور مها صدار (3)
وآمال كما مدّت ظلال
…
وأفعال كما مدّت بحار
وأعلام بنصرك خافقات
…
لها فى كل جوّ مستطار
ليهنئ أرض أندلس بدور
…
من السرّاء ليس لها سرار (4)
وهو نصر عظيم فى الأرك طوّق يعقوب بمجد وفخر لا يماثلهما فخر ومجد. وكانت دولة الموحدين دولة ظاهرية كما مر بنا فى الفصل الثانى، وكانوا يدعون إلى المذهب الظاهرى وإلى نبذ كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، ويسمونها كتب الفروع. ولا نصل إلى عصر يعقوب حتى تبلغ هذه الثورة على كتب المذاهب الأربعة الكبرى غايتها فيأمر بإحراقها بعد أن يجرّد ما فيها من آى القرآن والأحاديث النبوية وأن يحمل الناس على الظاهر من الذكر الحكيم والحديث الشريف، وينوه بذلك غير شاعر فى مديحه، من ذلك قول قاضى قضاته أبى عبد الله محمد بن عبد الله بن مروان كما جاء فى الغصون اليانعة لابن سعيد (5):
نصرتم لأن الحق آن ظهوره
…
وناصره فى الله ما كان يخذل
قطعتم فروعا قد أضرّت بأصلها
…
ألا هكذا من كان بالعدل يشمل
والأصل الذى يقصده هو القرآن والحديث النبوى الذى يأخذ بهما الظاهرية. ويقول ابن سعيد فى الغصون اليانعة إن لابن الياسمين قصيدة منصورية يذكر فيها قطع المنصور الاشتغال بكتب الفروع أى كتب المذاهب الفقهية الأربعة الكبرى والاقتصار على ما ثبت من الأحاديث النبوية، وينشد منها قوله (6):
أسيّدنا قد وردتم بنا
…
موارد كنا عليها نحوم
نبذتم مقالة هذا وذا
…
فزال المراء وقلّ الخصوم
(1) الغصون اليانعة فى محاسن شعراء المائة السابعة ص 96.
(2)
الذوابل والشقار: الرماح والسيوف.
(3)
الصدار: ما تلبسه المرأة على صدرها.
(4)
السرار: آخر ليلة فى الشهر يريد أنها بدور منيرة من المسرة والرخاء لا يعقبها أى ظلام.
(5)
الغصون اليانعة ص 30.
(6)
الغصون اليانعة ص 47.
وأثبتم قول من لفظه
…
هو الشّرع والحق منه يقوم
فلا زلتم لكمال الهدى
…
وإحياء دارس درس العلوم
وهو يشير إلى ما كان قد أمر به يعقوب الفقهاء فى أيامه من جمع الأحاديث الصحيحة من مصنفات عشرة، هى كتب الصحاح ما عدا ابن ماجة والموطأ وسنن البزار ومسند ابن أبى شيبة وسنن الدار قطنى وسنن البيهقى، فجمعوها له فكان يمليها بنفسه على الطلبة ويجعل لمن حفظها مكافأة سنية.
ونمضى إلى عصر المرينيين وأول شاعر كبير نلتقى به فى عهدهم مالك بن المرحّل، وهو شاعر أهم سلاطينها فى أوائل عهدها يعقوب بن عبد الحق (657 هـ/1259 م- 685 هـ/1287 م) وله يهنئه بافتتاحه مدينة مراكش (1) سنة 668 هـ/1270 م:
فتح تبسّمت الأكوان عنه فما
…
رأيت أملح منه مبسما وفما
فتح كما فتح البستان زهرته
…
ورجّع الطير فى أفنانه نغما
فتح كما انشقّ صبح فى قميص دجى
…
وطرّف البرق فى أردانه علما
أضحت له جنّة الرّضوان قد فتحت
…
أبوابها وفؤاد الدّين قد نعما
الحمد لله هذا ما وعدت به
…
يا خير من ولى الدّنيا ومن حكما
لن يخلف الله وعدا كان واعده
…
فاشكر يضاعف لك الحظّ الذى قسما
سبحان من بجميع الفضل أفرده
…
ومن حباه السّجايا الغرّ والشّيما
وهو يمجد فتح يعقوب المرينى لمراكش مدينة المغرب الأقصى الكبرى أعظم تمجيد، فقد ابتسمت لفتحه الأكوان، كما يتفتح البستان المونق عن زهراته، والطير تصدح مبتهجة على أغصانه وكأنما فتحت له أبواب الفردوس، ونعم فؤاد الدّين بهذا النعيم العظيم. والشاعر يحمد الله أن تحقق ليعقوب كل مأموله من ربه، مما لا يسعه معه إلا مضاعفة الشكر، والله جلّ فى علاه جدير بكل حمد إذ أفرده بكل فضل وحباه بكل سجية وشيمة شريفة. ويعقوب من سلاطين المسلمين الذين يستحقون هذا الثناء لا بفتحه مراكش، ولكن لأنه رصد نفسه وجيشه المغربى لجهاد نصارى الإسبان، وقد جاز لهم بجيشه الزقاق أربع مرات: سنة أربع وستين وسبع وسبعين وإحدى وثمانين وأربع وثمانين قبل وفاته بعام واحد، وفى كل مرة كان يسحقهم سحقا، وبذلك أعز الإسلام والمسلمين فى غرناطة والعدوة الأندلسية، وكان كل ما يغنمه يقدّمه لسلاطينها من بنى الأحمر بنفس راضية. وكان يسمى بالسلطان المجاهد والملك العابد لربه. وللقاضى أبى عبد الله القشتالى يستمنح (2) أبا عنان (749 - 759 هـ):
(1) انظر النبوغ المغربى 3/ 212.
(2)
النبوغ المغربى 3/ 220
أيا إماما ندى كفّيه قد وكفا
…
حسبى اعتصامى بحبل منكم وكفى
وكيف أصرف وجه القصد عن ملك
…
ما صدّ عنى سنا بشر ولا صرفا
ما إن شكوت بما أضنى تطلّبه
…
إلا وجدت به لى من ضناى شفا
ولا وقفت عليه منتهى أملى
…
إلا قضى وطرا منه وما وقفا (1)
فى كل يوم له تجديد عارفة
…
مهما انقضت هذه لهذه ائتنفا (2)
وليس ممن يرى أن لا يتيح يدا
…
حتى يقام له بشكر ما سلفا
وهو يقول لأبى عنان إن ندى كفيك قد سال وفاض على جميع الناس، وحسبى أننى أعتصم منك بعهد ومودة باقية، ولن أنصرف عن قصدك وكيف أنصرف وأنت دائما تلقانى ببشر وترحاب وما شكوت ضنا إلا شفيتنى منه، ولا أملت فيك أملا إلا حققت لى شطرا منه، وفى كل يوم يتجدد منك عارفة وإحسان وما ينقضى إحسان حتى تستأنف إحسانا آخر، وإنك لتقدم أفضالك غير منتظر على فضل شكرا. وسنفرد لأحمد بن عبد المنان شاعر أبى عنان ترجمة. ولمحمد بن أحمد الشّبوكى يمدح أبا فارس المرينى قائلا (3):
هو الإمام الذى من أمّ ساحته
…
جادت عليها بجدواها أنامله (4)
ومن تخلّف جهلا عن إجابته
…
سارت إليه على علم صواهله (5)
قل للذى عنه أقصته جرائمه
…
وعقّلته عن العليا معاقله (6)
زر حضرة الملك الميمون طالعه
…
تحظى بما أنت فى دنياك آمله
فطبعه الصّفح والمعروف شيمته
…
والحلم والصّون والتقوى شمائله
فهو الإمام الذى يغمر من يقصده بعطاياه، والجاهل هو الذى يتخلف عن إجابته فتغزوه خيوله وجيوشه، وما أحرى من أبعدته عنه جرائمه وحبسته عن العلياء من الصلة به معاقله أن تبتسم له الدنيا وتتحقق له آماله إذ طبعه الصفح والغفران وشيمته زرع المعروف والحلم والصيانة والتقوى ومخافة الله.
وإذا انتقلنا إلى عصر السعديين التقينا بمعركة كبرى بينهم وبين البرتغاليين فى وادى المخازن بقرب مدينة القصر الكبير سنة 986 هـ/1578 م وكان يقود جيش البرتغاليين ملكهم سباستيان وكان السلطان عبد الملك السعدى مريضا وحضر المعركة أخوه أحمد، ومن قائل كان الجيش البرتغالي ثمانين ألفا ومن قائل كان مائة ألف، أسر أكثرهم، وقتل ملكهم فى المعركة وتوفى السلطان عبد الملك وتولى أخوه أحمد الملقب بالمنصور الذهبى.
(1) وطرا: مأربا.
(2)
عارفة: مكرمة. ائتنف: استأنف.
(3)
النبوغ المغربى 3/ 221.
(4)
أم: قصد. جدواها: عطاياها.
(5)
صواهله: خيله.
(6)
عقلته: حبسته.
وللشعراء فى هذه المعركة والإشادة ببطولة المنصور فيها قصائد كثيرة، منها قصيدة داود بن عبد المنعم الدّغوغى، وفيها يقول (1):
جنا النّصر ما بين الظّبا والكنائن
…
على سابقات المذكيات الصّوافن (2)
وماذا يفيد الجيش إن كان ربّه
…
كسيبسطيان عند وادى المخازن
يسرّب نحو المغربين جنوده
…
كمثل الدّبا عن ماخرات السفائن (3)
وخيّم فى تلك الجهات وعينه
…
لمرّاكش الحمراء لا لتطاون
وشبّت لظى الهيجاء ليس وقودها
…
سوى أنفس الشجعان وسط الميادن
وذلك يوم مثل بدر وصنوه
…
حنين بأيدى المؤمنين الميامن
لقد ذاق فيه البردقيز من الرّدى
…
جزاء مناحيس خزايا ملاعن (4)
وهو يقول إن ثمار النصر دائما تجلبها السيوف وكنائن السهام على سابقات الخيل الفتية القارحة، ولكن ماذا يفيد الجيش إن كان قائده مثل سباستيان عند وادى المخازن، وقد ظل يدفع بجنود مثل الدبا أو الجراد من السفن ماخرات المحيط، وخيّم فى تلك الجهات وعينه على المدينة الكبرى مراكش لا على تطوان أو غيرها. وشبت المعركة وقودها البرتغاليون وإنه ليوم نصر عظيم للمسلمين كيوم بدر وصنوه يوم حنين، وذاق البرتغاليون فيه من الموت أصنافا عقابا وتنكيلا لمناحيس مستخزين. ومعركة ثانية كبرى خاضتها جيوش المنصور الذهبى لكن لا فى الشمال، وإنما فى الجنوب ببلاد السودان، فقد أمر سنة تسعمائة وثمان وتسعين بتجهيز جيش لغزو بلاد السودان، ففتحها واستولى على إقليم توات فى الجنوب الشرقى للمغرب وإقليم تيجورارين شمالى إقليم توات، وغير ذلك من البلاد، وتوغل فى السودان وألقى فى حجره بذهب كثير أثرت به الدولة، وفى هذا الفتح يقول الشيظمى (5) أحد قواد المنصور:
سهم من الغرب قد أصمى الأساود إذ
…
صمّوا وهم حيث بحر النيل مورود (6)
وحين صمّوا عن الإنذار أسمعهم
…
صواعقا بنداها الموت معقود
تراه ينفث من أفواهها بردا
…
ينقض حيث فؤاد القرن مرصود (7)
مدافع أبطلت للسود حكمتها
…
فلم يفد معها نفث وتعقيد (8)
وما استقاموا إلى أن جرّدت لهم
…
بيض وأشرعت السّمر الأماليد (9)
(1) النبوغ المغربى 3/ 43.
(2)
جنا: ثمرة. الظبا: السيوف. الكنائن جمع كنانة: وعاء السهام. المذكيات: الخيل القارحة. الصوافن جمع صافن: يريد المتأهبة للحرب.
(3)
الدبا: الجراد. مخرت السفينة: شقت الماء.
(4)
البردقيز: البرتغاليون.
(5)
الوافى بالأدب العربى لابن تاويت الطنجى 3/ 678.
(6)
أصمى: أصاب إصابة قاتلة. صموا: لم يسمعوا.
(7)
بردا: يريد الشاعر بارودا.
(8)
النفث والتعقيد يراد بهما تعاويذ السحر.
(9)
بيض: سيوف. سمر أماليد: رماح لينة فاتكة.
والشيظمى يتصور كأن سهما انصبّ من المغرب فقضى على السودانيين إذ أصابهم-وهم حاشدون على نهر النيل-ما يشبه الصمم، فلم يسمعوا إنذار المدافع المدوى وما تنفث من أفواهها من قذائف قاتلة، مدافع أبطلت للسود حكمتهم فلم ينفعهم نفث ولا تعويذات، وسرعان ما قوّمتهم السيوف والرماح واستلموا خانعين. وشعراء المنصور كثيرون وسنترجم لشاعريه الهوزالى وأحمد بن القاضى.
واستولى المنصور على مدينة أصيلا من أيدى البرتغاليين، وهنأه بذلك الشعراء، ويتوفى ويتنازع أولاده بعده على الحكم، ويتنازل أحدهم-وهو المأمون-عن مدينة العرائش، للإسبان وأسسوا لهم بالقرب منها مدينة المهدية. واستولوا على سبتة وطنجة من أيدى البرتغاليين كما استولوا على الجديدة وأزمور، وتعلق أمل الناس بالمتصوفة فى مقاومة البرتغاليين والإسبان، وانتعشت الزاوية الدلالية فى تادلة إلى أن دمّرها السلطان العلوى الرشيد سنة 1079 هـ/1669 م ونقل شيوخها وفى مقدمتهم شاعرها الكبير اليوسى إلى فاس. وأهم من هذه الزاوية وشيوخها فى مقاومة الإسبان الشيخ الصوفى أبو عبد الله محمد العياشى الذى تصدّى-ومعه جماعات الفدائيين المجاهدين-للإسبان، فخلص منهم مدن العرائش وأزمور والجديدة وتوفى سنة 1051 هـ/1642 م واستولى الخضر غيلان أحد رجاله-فيما بعد-على مدينة القصر الكبير. وفى العياشى يقول أبو عبد الله محمد بن أحمد المكلاتى مصورا محبة الشعب له لجهاد أعدائه وأعداء الدين الحنيف (1):
حديث العلا عنكم يسير به الرّكب
…
وينقله فى صحفه الشّرق والغرب
وحبّكم فرض على كلّ مسلم
…
تنال به الزّلفى من الله والقرب
وأنت رفيع من أصول رفيعة
…
نجوم الدياجى فى الأنام لها سرب (2)
سمىّ رسول الله ناصر دينه
…
تجلّى بكم عن أفقه الشكّ والرّيب
وكما تغنى الشعراء طويلا فى العهد السعدى بانتصارات المنصور الذهبى كذلك تغنوا فى العصر العلوى بانتصارات السلطان إسماعيل العلوى (1084 هـ/1672 م-1139 هـ/1727 م) فقد استرد المهدية من الإسبان سنة 1091 هـ/1681 م وطنجة من الإنجليز سنة 1095 هـ/1684 م والعرائش من الإسبان سنة 1111 هـ/1699 م وأصيلا سنة 1112 هـ/1700 م. وكان لاسترداد العرائش فرحة كبيرة فى قلوب الشعب إذ كانوا من شدة الحزن والأسى لاستيلاء الإسبان عليها أن لبسوا الأحذية السود، ولم يخلعوها من أرجلهم إلى أن استردها السلطان إسماعيل فلبسوا الأحذية الصفر. واتّخذت مدينة العرائش وما تم من استعادتها على يد السلطان إسماعيل محورا
(1) الوافى لابن تاويت 3/ 729.
(2)
سرب: جماعة.