الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تدرّ على البلاد خيرا كثيرا. ومن أهم مدن الجنوب الشرقى مدينة ولاّته، وكانت محطة مهمة للقوافل التجارية، وكان بها حدائق نخيل وتنبت بقعتها الدخن وحبا مدورا أبيض اللون كما يقول الحسن الوزان، وتعانى المنطقة-كما يقول-من ندرة اللحم، وكان أهلها يقومون على إرشاد القوافل العابرة للصحراء وحمايتها حتى السودان وحتى المغرب الأقصى مما كان يدرّ عليهم خيرا كثيرا.
2 -
التاريخ
(1)
كانت قبائل صنهاجة الصحراوية تنزل من قديم فى الشطر الغربى من الصحراء الكبرى جنوبى الجزائر والمغرب الأقصى فاصلة بينهما وبين القبائل السودانية المدارية، وكانت بعض هذه القبائل تنحدر حتى ضفاف نهر السنغال، ونفس كلمة السنغال إنما هى تحريف لكلمة صنهاجة على لسان البرتغاليين حين نزلوا بسواحلها، فسموها Senhagal ثم أصبحت. Senegal ويقول ابن أبى زرع إن صنهاجة الصحراوية تنقسم إلى سبعين قبيلة، منها لمتونة وكدالة ومسوفة ولمطة وبنو وارث ومنداسة، وفى كل قبيلة بطون وعشائر أكثر من أن تحصى. وكثير منهم لا يعرفون حرثا ولا زرعا ولا ثمارا، وإنما أموالهم الأنعام، وعيشهم اللحم واللبن، وهم على مذهب أهل السنة والجماعة، ويجاهدون فى السودان.
وظلت تلك القبائل تعيش فى الحزام الصحراوى الفاصل بين البلاد المغربية والسودان على أنعامها وألبانها ولحومها وصوفها وأوبارها متخذة منها الخيام، وكانوا يضعون اللثام على رءوسهم ووجوههم شعارا لهم، ولذلك سموا الملثمين. وأخذت أضواء الإسلام تنفذ إليهم منذ عهد عقبة بن نافع الفهرى وولايته على الديار المغربية (50 - 55 هـ) إذ أسلم على يديه منهم بنو وارث، ومضوا يجاهدون السودانيين الغربيين واتسع اعتناق تلك القبائل للإسلام فى عهد موسى بن نصير (86 - 96 هـ) ولما استولى عبد الرحمن بن حبيب على مقاليد الحكم فى البلاد المغربية (127 - 137 هـ) عنى بالطريق التجارى المار بقبائل صنهاجة
(1) انظر فى تاريخ موريتانيا المغرب فى ذكر بلاد إفريقية والمغرب للبكرى وحديثه عن جارتها غانة وكتاب روض القرطاس لابن أبى زرع (طبع الرباط) ص 120 وتاريخ ابن خلدون (طبع بولاق) 6/ 182 وحديث ابن حوقل عن السودان الغربى فى كتابه: «صورة الأرض» وراجع كتاب الحسن الوزان: «وصف إفريقيا» فى مواضع مختلفة ورحلة ابن بطوطة فى حديثه عن ولاته وكتاب مناهل الصفا للفشتالى ص 58 وما بعدها. وكتاب الوسيط لابن الأمين الشنفيطى، وإمبراطورية غانة الإسلامية وإمبراطورية مالى الإسلامية للدكتور إبراهيم طرخان.
غربى الصحراء الكبرى، إذ حفر عليه من سجلماسة فى جنوبى المغرب الأقصى إلى بلاد السودان الغربى آبارا للقوافل التجارية تنزل عندها وتأخذ كفايتها من الماء فى مسيرتها الصحراوية.
وأخذ الإسلام يتسرب سريعا إلى بلاد السودان الغربى عن طريق القبائل الصنهاجية فى موريتانيا والتجار المسلمين، ويقول أبو عبد الله البكرى فى كتابه المغرب فى ذكر بلاد إفريقية والمغرب إن بنى أمية أرسلوا جيشا لفتح بلاد السودان، واستقرت ذرية منه فى بلاد غانة، وكانت حينئذ تقع فى شرقى السنغال الحديثة وجنوبى مالى الحديثة أيضا، وإذا صح ذلك فإن هذا الجيش حمل قديما إلى ديار السودان الغربى الدين الحنيف وبقى هناك من يدعو إليه، ويتصل بذلك ما جاء فى صبح الأعشى من أن أهل غانة أسلموا فى أول الفتح. ونجد القبائل الصنهاجية-وخاصة لمتونة-تتجمع فى مدينة أودغست جنوبى منطقة آدرار وتحدث فيها ما يشبه إمارة-ويسميها بعض جغرافيى العرب مملكة-ويذكر ابن أبى زرع من أمرائها أو شيوخها أو ملوكها-كما يقول-تيلوتان وكانت ولايته مسيرة ثلاثة أشهر فى مثلها كلها عامرة، وكان يركب فى مائة ألف بعير، وهو عدد ضخم من الإبل، وكان فى زمن عبد الرحمن الداخل سلطان الأندلس (138 - 170 هـ) وطال عمره إلى أن توفى سنة 222 هـ/836 م وكانت أيام حكمه خمسا وستين سنة، ودان له-كما يقول ابن أبى زرع-أزيد من عشرين ملكا من ملوك السودان. ولم يكونوا ملوكا بالمعنى الحقيقى لكلمة ملوك، إذ لم تكن لهم حكومات ولا دساتير دول، إنما كانوا زعماء لأقوامهم، وربما كانوا شيوخ-أو سادة- قبائل، وأكبر الظن أن فى هذا العدد من الزعماء مبالغة. وخلفه حفيده الأثير بن فطر، فقام بأمر صنهاجة الصحراوية أو الموريتانية خمسا وستين سنة إلى أن توفى سنة 287 هـ/900 م وولى بعده ابنه تميم إلى أن توفى سنة 306 هـ/918 م. واضطربت شئون صنهاجة الموريتانية بعده فترة ثم اجتمعت على يروتان بن ونسبو بن نزار اللمتونى الأودغستى فملك الصحراء بأسرها على عهد عبد الرحمن الناصر (300 - 350 هـ) وابنه المستنصر (350 - 365 هـ) وكان يركب-مثل تيلوتان فى مائة ألف بعير، وكان حكمه مسيرة شهرين فى مثلها ودان له عشرون ملكا من ملوك السودان-مثل تيلوتان-يؤدون له الجزية، وملك من بعده بنوه ثم افترقت كلمة الصنهاجيين، وعظم أمر مملكة غانة واستولت على أودغست، وكانت تموّن بلاد السودان بالملح الوارد إليها من تغازى ومن أجله استولت عليها غانة.
وتتجمع صنهاجة تحت لواء الشيخ أو الأمير أبى عبد الله محمد بن تيفاوت المعروف باسم تاوشتا اللمتونى وكان من أهل الدين والفضل والصلاح والجهاد والحج، وظل أميرا على صنهاجة الموريتانية مدة ثلاث سنوات إلى أن استشهد فى إحدى غزواته. وولى أمر صنهاجة
الموريتانية بعد تاوشتا اللمتونى صهره يحيى بن إبراهيم الكدالى، وخرج فى سنة 427 هـ/1035 م لأداء فريضة الحج والزيارة النبوية فى رؤساء من قومه، وفى عودته اجتمع فى القيروان بأبى عمران الفاسى شيخ المذهب المالكى بها المتوفى سنة 430 هـ/1038 م وعرّفه بما فى صنهاجة الصحراء الموريتانية من الجهل بشئون الدين الحنيف وتعاليمه، وسأله أن يوجه معه أحد تلاميذه ليبصّرهم بأمور دينهم، وعرض الشيخ رغبته على تلاميذه، فلم يستجب منهم أحد، فكتب له رسالة إلى فقيه من تلاميذه بمدينة سجلماسة جنوبى المغرب الأقصى هو محمد وجاج أو وقاق بن زلو اللمطى. وطلب إليه فى رسالته أن يعرض الأمر على طلابه، لعل واحدا منهم يقبل المسيرة مع يحيى الكدالى، وقبلها فقيه تقى ورع من تلاميذه هو عبد الله بن ياسين الجزولى.
ورجع يحيى الكدالى إلى قومه الصنهاجيين بعبد الله بن ياسين فأخذ يحفّظهم القرآن الكريم ويقفهم على تعاليم الدين الحنيف، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فالتفوا حوله، وبعد فترة ازورّوا عنه، وتوفّى حاميه يحيى الكدالى فأجمعوا على الانصراف عنه لما يأخذهم به من مشاق التكاليف الدينية. وأخذ يفكر فى تركهم والعودة إلى موطنه، غير أن زعيما من لمتونة الصنهاجية الموريتانية هو يحيى بن عمر أشار عليه أن يعتزل معه للعبادة والنسك فى جزيرة على مقربة من مصب نهر السنغال، ونزلاها معا، ونزلها معهما سبعة من قبيلة كدالة الصنهاجية، وبنى بها عبد الله بن ياسين رباطا للنسك، وأخذ يلتحق به عشرات من أشراف صنهاجة، كان يفقههم فى الدين، حتى إذا بلغوا ألفا قال لهم: إن ألفا لن يغلبوا من قلة، وقد تعيّن علينا-أيها المرابطون-القيام بالحق والدعاء إليه، وحمل الكافّة عليه، وبذلك سماهم: المرابطين، وغلب هذا الاسم على صنهاجة الصحراوية الموريتانية بجانب الاسم القديم: الملثمين، وخرجوا معه، وجعل أمرهم فى الحرب إلى الأمير يحيى بن عمر اللمتونى، وقتل هو ويحيى من استعصى على الحق من قبائل صنهاجة الموريتانية، ومضيا فى سنة 442 هـ/1050 م يدعوان إلى الإسلام فى سودانيى التكرور وحوض السنغال الأدنى وما وراءه من بلاد السودان الغربى فى غانة وغير غانة. وفى سنة 447 هـ/1055 م كاتبهما فقهاء سجلماسة ودرعة جنوبى المغرب الأقصى وصلحاؤهما كى ينقذا البلاد مما فيها من المنكرات ومن ظلم الولاة والحكام، فاتجها بجيش جرار إليهم، وتم لهما النصر، وأزالا ما بالبلدتين من المنكرات وأسقطا ما كان بهما من المغارم والمكوس، وجعلا عليهما عاملا أو واليا من لمتونة، وعادا إلى صحراء موريتانيا وإلى جهاد الوثنيين فى بلاد السودان، وتوفى الأمير يحيى بن عمر فى شهر المحرم سنة 448 هـ/1056 م وقدّم الفقيه عبد الله بن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر اللمتونى مكانه وقلده أمر الحرب.
وكان أبو بكر بن عمر بطلا مغوارا، وكان صالحا متين الدين متورعا، وسرعان ما تقدم بجيشه من آدرار وحصنى آزكى وأودغست فى شهر ربيع الثانى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة إلى بلاد السوس جنوبى المغرب الأقصى، وأخذ يستولى على بلدانها وقضى فيها على قوم من الروافض يقال لهم البجلية نسبة إلى عبد الله البجلى الرافضى، وكان قدم إلى السوس حين قدم عبيد الله المهدى الشيعى الإسماعيلى إلى إفريقيا، وأشاع به مذهبه الرافضى، وأخذت أجيال متعاقبة تتوارثه هناك إلى أن قاتلهم أبو بكر بن عمر وعبد الله بن ياسين وقتل منهم خلق كثير، ورجع من بقى منهم إلى السنة ورأى الجماعة. وتلك أولى حسنات أبى بكر بن عمر والشيخ عبد الله بن ياسين فى المغرب الأقصى، وأخذا يتغلغلان فيه شمالا واستوليا على أغمات وإقليم حاحة سنة 449 هـ/1057 م كما استوليا على تادلة وإقليم دكالة، وعرفا أن بساحلها على المحيط وساحل إقليم تامسنة قبائل برغواطة التى خرج بها عن جادة الدين الحنيف متنبئون ابتدعوا لهم شريعة ضالة كافرة-وتعاقبوا فيهم من قديم، فقصدا إليها فى مدينة آسفى على المحيط بإقليم دكالة وفى مدن سلا وآزمور وآنفة (الدار البيضاء) فى ساحل إقليم تامسنة، وأخذا ينازلانها منازلات ضارية، وفى بعض المنازلات والوقائع استشهد الشيخ العظيم عبد الله بن ياسين سنة 451 هـ/1059 م، وبنى مسجد على قبره. ومضى أبو بكر بن عمر يجاهد برغواطة، حتى استأصل شأفتها ومحا دعوتها من المغرب الأقصى إلى غير رجعة. وتلك حسنة كبرى ثانية لأبى بكر بن عمر وصنهاجة موريتانيا. وبلغه سنة 453 هـ/1061 م أن خلافا شديدا نشب فى صحراء موريتانيا بين قبيلتى لمتونة ومسوفة، وخشى افتراق الكلمة، فخرج إليهما واستعمل على المغرب الأقصى ابن عمه يوسف بن تاشفين. ومنذ ذلك الحين انقسمت دولة المرابطين قسمين: قسما شماليا وقسما جنوبيا، وقاد القسم الشمالى يوسف بن تاشفين، وسرعان ما أسس فى سنة 454 هـ/1062 م عاصمة دولته: مراكش، وفى سنة 474 هـ/1081 م استولى على مدينة تلمسان الجزائرية من أيدى بنى يعلى الخزريين، وتوغّل شرقيها حتى مدينة الجزائر. واستصرخه بعض أمراء الطوائف فى الأندلس، كى ينقذهم من براثن الإسبان الشماليين، فجاز إليهم زقاق جبل طارق بجموع صنهاجة الصحراء الموريتانية، وانتصر على الإسبان فى موقعة الزلاقة انتصارا حاسما سنة 479 هـ/1085 م ورأى من الضرورى القضاء على أمراء الطوائف حتى تعود إلى الأندلس وحدتها إزاء الأعداء المتربصين. وهذا الانتصار العظيم يعد حسنة كبرى ثالثة تضاف إلى صنهاجة الصحراء الموريتانية.
والقسم الجنوبى لدولة المرابطين ظل يقوده البطل المجاهد العظيم أبو بكر بن عمر الذى استطاع نشر الإسلام فى جميع أرجاء إفريقيا المدارية حتى أبواب إفريقيا الاستوائية وسياجها الضخم من الغابات الكثيفة، وقد بدأ بالتكرور ومنطقة نهر السنغال الأدنى، وانضموا إلى
جيشه فى حماس بالغ لنشر الإسلام فى ربوع السودان، واستطاع الاستيلاء على غانة ونشر الإسلام فى أنحائها، ويقال إن أميرها السوننكى أعلن إسلامه وأسلم معه كثيرون. وبالمثل نشر الإسلام فى أرجاء مالى وأرجاء صنغى فى حوض النيجر الأوسط، وحقا كل تلك البلدان كان قد دخلها الإسلام على أيدى التجار والقبائل الصنهاجية قبل أبى بكر بن عمر، ولكن كانت كثرة أهلها ما عدا التكرور وثنية، أما أبو بكر بن عمر فإنه أحالها بلادا وشعوبا إسلامية إلى اليوم وإلى أبد الآبدين. وكل ذلك بفضل هذا البطل الصحراوى الموريتانى المخلص لدينه الذى كان يحكم كل هذه الأقطار من منطقة الأدرار فى موريتانيا متخذا آزكى وأودغست قاعدتين كبيرتين لحملاته الحربية جنوبا وشرقا. وكل ذلك يحسب له ولصنهاجة موريتانيا كما يحسب لها ما أدته من خدمات جلّى فى الأندلس وحمايتها للإسلام هناك ضد أعدائه من نصارى الإسبان. وطبيعى أن تسيطر صنهاجة موريتانيا فى أثناء ذلك على طرق التجارة الرئيسية بين المغرب الأقصى وإفريقيا المدارية. واستشهد البطل العظيم أبو بكر بن عمر سنة 480 هـ/1087 م برمية سهم مسموم فى عودة له إلى الأدرار من غزوة مظفرة بعد أن أدى للإسلام خدمات جلّى وسّع بها داره الإفريقية وعالمه الضخم.
وأبو بكر-دون ريب-هو صاحب الفضل فى أن جعل كل الشعوب الإفريقية التى استولى عليها شعوبا إسلامية، ودخلت إليها مع الإسلام اللغة العربية، وظلت لغة العبادة والثقافة والتجارة إلى اليوم، ولم يستطع الاستعمار إزاحتها عن مكانتها. وعادت هذه الشعوب إلى الاستقلال عن دولة المرابطين وصنهاجة موريتانيا بعد وفاة أبى بكر سنة 480 هـ/1087 م، وازدهرت من بينها مملكة غانة وظلت صاحبة السيادة والنفوذ فى كل البلاد والأراضى الواقعة بين نهر النيجر والمحيط الأطلسى وتبعها الشطر الجنوبى من موريتانيا ومدينة أودغست ونيمة وولاته، وانتسب حكامها-كما يقول الإدريسى-إلى الحسن بن على بن أبى طالب. وكانت قبيلة الصوصو تنزل جنوبيها وتخضع لها وتدفع إليها الجزية إذ كانت وثنية، وما زالت تقوى حتى استطاعت القضاء على غانة والاستيلاء على عاصمتها كومبى صالح شمالى ياماكو عاصمة مالى الحديثة سنة 600 هـ/1203 م وفرّ من العاصمة فريق من المسلمين مع الشيخ إسماعيل إلى مدينة ولاته فى الجنوب الشرقى لموريتانيا وأصبحت من أهم المراكز التجارية فى إفريقية الغربية. وبعد نحو ثلاثين عاما استطاع مارى جاطة بطل دولة مالى القومى وأهم حكامها أن يغزو بلاد الصوصو ويقضى عليهم. وامتدت دولته حتى شملت حوض نهر السنغال ونهر غينيا ومعظم حوض النيجر الأوسط والأعلى، وفى أوائل عهد أحد أحفاده وهو منسا سليمان (753 هـ/1352 م-760 هـ/1359 م) قام ابن بطوطة برحلته إلى السودان، وكانت أول مدينة نزل بها فى موريتانيا مدينة تغازى، ومر بنا حديثه عن مناجم الملح بها، وعجب
من انخفاض ثمنه فى موطنه وارتفاعه فى بلاد السودان، وكأنه لم يكن يعرف شدة حاجتهم إليه بسبب الحرارة القاسية فى ديارهم إذ يحفظ الماء فى الجسم فلا يتبخّر سريعا، وقال إن من يحفرون عليه عبيد قبيلة مسوفة الصنهاجية. ونزل مدينة ولاتة، ويذكر أن أكثر أهلها من قبيلة مسوفة، وأنها كانت تتبع حينئذ سلطان مالى، وأغلب الظن أن تبعيتها لمالى منذ عهد مارى جاطة (628 هـ/1230 م-652 هـ/1255 م) الذى وسّع حدود دولته-كما أسلفنا- إلى أقصى حد جنوبا وشرقا وغربا وكانت «ولاته» تابعة لغانة ومثلها مدينتا نيمة وأودغست، فطبيعى أن تدين جميعا له ولما لى بعده وحكامها التالين. ويذكر ابن بطوطة عن ولاته أنها شديدة الحر وبها يسير نخيلات يزرعون فى ظلالها البطيخ، ولحم الضان بها كثير وثياب أهلها ثياب مصرية حسان، ويقول إنهم مسلمون يحافظون على الصلوات ومثلهم نساؤهم ولهن جمال فائق، ويذكر أنه أقام بها نحو خمسين يوما وأن أهلها أكرموه وفى مقدمتهم قاضيها وأخ له مدرس. ولا نعود نسمع عن ولاته فى عهد دولة مالى، وكانت قد أخذت فى الضعف بينما أخذت صنغى فى حوض النيجر الأوسط شرقى السنغال وغمبيا تقوى، ولم تلبث أن استقلت عن مالى، ثم أخذت تزداد قوة تدريجا فى القرن التاسع الهجرى، وبلغت غاية قوتها فى عهد أسرة إسكيا واستولى «سنّ على» ملكها على تمبكتو وأشعل فيها النيران سنة 873 هـ/1468 م مما جعل فقهاءها وفى مقدمتهم عمر بن محمد أقيت يفرّون منها إلى ولاته واستولت هذه الأسرة على كثير من بلدان مالى ومدّت سلطانها ونفوذها إلى ولاته وإقليمها فى موريتانيا، وكان حكامها بعد سن على متمسكين بالإسلام، مما زاد فى تعلق الناس بهم، وخاصة بمحمد بن أبى بكر (899 هـ/1493 م-935 هـ/1528 م) الذى اتخذ مدينة تومبكتو على النيجر عاصمة له، واستكثر من بناء المساجد والزوايا، واستقدم لها الفقهاء والعلماء لتعليم الناس القرآن والفقه وأمور دينهم، وزار الحسن الوزان ولاته فى عهده وقال إنها تابعة لملك تومبكتو وتدفع له ضريبة محددة، ومر بنا حديثه عنها فى جغرافية موريتانيا، وقال إن كل تنظيم مدنى مجهول فى هذه المنطقة، فلا قضاة ولا حكومة منظمة، إذ كانت قبيلة مسوفة فيها لا تزال تعيش معيشة قبيلة.
ويبدو أن دولة صنغى لم تكتف بولاء ولاته وأنها حاولت الاستيلاء على تغازى وما بها من مناجم الملح، بل يقال إنها استولت عليها فعلا مما أغضب أحمد المنصور الذهبى سلطان الدولة السعدية فى المغرب الأقصى (986 - 1012 هـ) فصمم على منازلتها، وأرسل إليها حملة سنة 997 هـ/1579 م فى عهد حاكمها إسكيا داود وتغلغلت الحملة فى بلاد السودان واضطر إسكيا داود أن يقبل التنازل عما بيده من بلاد موريتانيا والقبائل الصنهاجية، وعادت الحملة بغنائم كثيرة وسمع بالحملة صاحب برنو شرقى صنغى وكأنما خشى على بلاده من الجيش السعدى، فأرسل فى أواخر سنة 1000 هـ/1582 م بيعته للمنصور الذهبى مع هدية كبيرة
من فتيان العبيد والإماء، وصمم المنصور على غزو صنغى واحتلال بلادها لما فيها من كنوز الذهب ومعادنه، وأعدّ لذلك جيشا جرارا بقيادة جؤذر الأندلسى، والتقى الجيش بعد رحلة شاقة مضنية فى فيافى الصحراء وقفارها بجيش إسكيا إسحاق بن داود واستطاع هزيمته فى موقعة فوندبى شمالى جاو، ودخل المدينة فوجد أهلها غادروها واتجه جؤذر إلى تومبكتو العاصمة، وأحس بخيبة أمل شديدة حين قيل له إن مناجم الذهب التى يقصدها لا تزال بعيدة جدا بعد المغرب الأقصى عن تمبكتو. وأرسل بذلك إلى المنصور فغضب وعزله عن قيادة الجيش وأرسل مكانه محمود زرجون، ويقال إنهم استولوا من قصور إسكا إسحاق بن داود على ما لا يحصى من الحلى والذهب وعاد الجيش محملا بغير قليل منهما، مما أتاح للمنصور أن يبنى قصره «البديع» وينثر منه الكثير على الناس، ولذلك سمى المنصور الذهبى.
وأهم ما عاد على موريتانيا من انتصار هذا الجيش المغربى الضخم أنه رفع يد دولة صنغى عن البلدان الموريتانية التى دانت لها، وأكثر من ذلك أهمية أن المنصور رأى أن يرسل إلى بلاد موريتانيا والسودان رجالا كثيرين وخيلا من عرب المعقل وجشم أهل الشوكة والنجدة لحراسة ما استولى عليه جيشه من تلك الديار. ولبّاه من عرب المعقل قبيلة حسان وغيرها، ونزلت عشائر منها فى شنقيط، وإليها ينسب إدوعيش سكان تكانت وأبناء أحمد من دامان والترارزة فى الجنوب الغربى من موريتانيا، وينسب إليها أيضا البرابيش سكان تيشيت وحكامها والأوداية ونزلوا بين وادان وولاته وكأن قبائل حسان تغلغلت فى كل بلدان موريتانيا ومناطقها، وكان ذلك كسبا كبيرا لموريتانيا لأنهم عرب، وأخذت تتعرب من حينئذ أى من أول القرن العاشر الهجرى/السادس عشر الميلادى.
ومع أنهم استقروا فى مدن موريتانيا مع إخوانهم من القبائل الصنهاجية، ولم يعودوا يسكنون فى خيام، إنما يسكنون فى أكواخ، ظلوا يعنون بتربية الإبل والخيل، وظلوا يقودون حروبا مستمرة، ويتسع أحمد بن الأمين الشنقيطى فى عرضها بكتابه الوسيط وتراجم أدباء شنقيط، ونراه يقول عن حروب قبائل حسان إن الحرب أصل معهود بينهم فترى قبائلهم أو أقسامهم الكبيرة يحارب بعضها بعضا كما وقع بين إدوعيش سكان تكانت والترارزة سكان الجنوب الغربى إلى حدود السنغال، وكما وقع بين إدوعيش وأبناء أحمد من دامان جيرانهم وكما وقع بين أحياء من عثمان سكان أدرار وإدوعيش، وكما وقع بين الترارزة وأبناء عمومتهم البراكنة، ويعرض لحروب الترارزة، فيقول فى فاتحة عرضه: ما وقع بين الترارزة مع غيرهم لا يذكر، بالنسبة لما وقع بين بعضهم وبعض، وما يزال ابن الأمين الشنقيطى يعرض علينا حروب الموريتانيين وكيف أنها كانت تبدأ ضعيفة، ثم تقوى وتستحكم بمرور الزمن. ولم تنج منها بلدة موريتانية، ولا أفلت منها راغب فيها أوكاره، وقد غلبت على حياتهم منذ القرن
الحادى عشر الهجرى، بل فى رأينا منذ القرن العاشر ونزول قبائل حسان بينهم. ولعل ذلك ما حال فى موريتانيا بينها وبين قيام دولة فيها، إذ لم تعمها وحدة بين قبائلها وسكان مدنها قبل القرن العشرين، وكان لمدينة شنقيط فيها زعامة ولكنها لم تكن زعامة سياسية إنما كانت زعامة ثقافية. وظلت البلاد-منذ المنصور الذهبى-تستشعر شيئا من الولاء لدولة السعديين فى المغرب الأقصى ثم لدولة العلويين. وما زالت حياتها على النحو الذى قدمناه إلى أن داهمتها القوات الفرنسية سنة 1903 للميلاد ووضعتها تحت الحماية، وفى سنة 1920 جعلتها مستعمرة فرنسية، وما زال شعبها يجاهد الفرنسيين حتى أزاحهم عن دياره سنة 1980 وأعلن قيام جمهورية موريتانية الإسلامية فى البلاد.