الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن عهده بها تبطش على مهل، ويراها اليوم تصول بيسراها ويمناها على أبيه الذى كان سندا يعتمد عليه، والذى صعد إلى سماء فخر يصعب الصعود إليها، ويقول إنه كان يسدى النصح للضال عن الهدى ويوضح طريق الحق لقصاده الكثيرين الذين يبغون منه الرشاد، وكان يرفع حجب الوهم عن مشكلات العلم ووجه الصواب الزاهى. أما فى التصوف والتقى فكانت له عبارات محكمة حلوة. ويبكى طائفة من آبائه منشدا:
أولاك آبائى الذين بطولهم
…
طالت يدى وسموت من سامانى (1)
أولاك هم بصر الكمال وسمعه
…
وهم لأهل الفضل كالعنوان
بمعارف وعوارف قدسيّة
…
كالشمس لا تخفى على إنسان
هم صيّروا نهج الهداية واضحا
…
للطالبين قصيّهم والدّانى
نظروا إلى الدنيا بعين بصيرة
…
فتحوّلوا عن ذا الوجود الفانى
والعباسى يذكر أن هؤلاء الآباء الذين رثاهم بفضلهم علا شأنه وسما على من ساماه وفاخره، ويقول إنهم بصر الكمال وسمعه، وهم كالعنوان لأهل الفضل بمعارفهم العلمية وعوارفهم القدسية وهم كالشمس لا يخفى فضلهم على أحد، وقد صيّروا طريق الهداية واضحا للناس البعيد منهم والقريب وقد نظروا إلى دنياهم بعين بصيرة فازدروها وتحولوا عن دار الفانية إلى دار الخلود. ويقول فى رثاء أستاذه الشيخ محمد البدوى مؤبنا:
كشف النقاب عن العلوم فزفّها
…
خودا تفوق على الحسان الخرّد (2)
من للعلوم جميعها ولفقه ما
…
لك والحديث صحيحه والمسند
وبيانها وبديعها وأصولها
…
فى منطق وعويصها المتعقّد
إنّي أعزّى كل أمة أحمد
…
بمصيبة الحبر الإمام محمد
وعليك يا دنيا السلام فقد خوت
…
شمس الكمال وغاب بدر السؤدد (3)
وهو يوضح مدى الخسارة العلمية فى أستاذه فقد رفع الحجاب عن العلوم وزفها إلى تلاميذه كفتاة جميلة تفوق فى جمالها الحسان المتلألئات الفاتنات، ويقول من يحل محله للفقه والحديث النبوى ولعلوم البيان والبديع والأصول وتذليل العويص والمشكل فيها. ويعزى الأمة الإسلامية فى مصيبتها به، ويقول: على الدنيا السلام فقد هوت شمس الكمال وغاب بدر المجد والشرف.
(ب) رثاء المدن
عرف الشعر العربى رثاء المدن منذ رمى عبد الله بن طاهر قائد المأمون بغداد بالمجانيق
(1) طول: فضل: طالت: علت وارتفعت. ساماه: فاخره.
(2)
الخود: الفتاة الجميلة. الخرد جمع خريدة: اللؤلؤة والمرأة الفاتنة.
(3)
خوى: هوى وسقط.
واشتعلت بها النيران والحرائق فقد رثاها غير شاعر، ورثى ابن الرومى البصرة حين نكل بها الزنج، وأكثر الأندلسيون من رثاء مدنهم حين سقوطها فى حجور الإسبان، ورثى ابن رشيق وابن شرف القيروان حين أغارت عليها قبائل الأعراب من بنى هلال وسليم فى أواسط القرن الخامس الهجرى وخرّبتها. ولم يحدث شئ من ذلك لمدينة فى السودان، إنما حدثت أحيانا أمطار وسيول هدمت مبانى بعض المدن وأصبحت كثرة أهلها فى العراء سوى من مات منهم وجرفته السيول. ومدينتان حدثت لهما هذه النكبة المروعة هما عطبرة وأم درمان. وكانت نكبة عطبرة سنة 1921 للميلاد أشد هولا، فقد انقضّت بها كثرة من المنازل، وعمّ البؤس كثيرا من الأسر، وممن رثاها مستصرخا للناس أن يمدوا أهلها بالعون والمساعدات عبد الله كردى، وفيها يقول (1):
يا آل عطبرة تعهّد حيّكم
…
وبل بسارية الدموع هطول (2)
جرف المنازل ثم طوّح بعضها
…
فإذا بها فوق الفضاء طلول
لهفى على دور هوى بنيانها
…
بالأمس فيه لساكنيه حلول
لهفى على تلك العروش فإنها
…
طاحت وأقوى ربعها المأهول (3)
لهفى على مال غريق ربّه
…
متجلّد وفؤاده متبول (4)
يا معشر الكرماء هل من رحمة
…
إنّ الضعيف لفضلكم موكول
إن تنفقوا فالفضل لا ينسى لكم
…
أبدا ويحمدكم عليه الجيل
والله يجزيكم ومن يجزى غدا
…
عن صالح فصنيعه مقبول
وهو يقول لأهل عطبرة إن منازلكم تعهدها ونزل بها خطب عظيم إذ ظلت ساريات الليل وسحبه تصب عليها سيول المطر التى جرفتها، وطوّحت بها فى الفضاء من حولها، وأصبحت تلك المنازل طلولا خربة، بعد أن كانت عامرة بأهلها. وا حسرتاه على تلك الدور التى خر بنيانها وتلك العروش التى تداعت وأقفرت من سكانها، والأموال التى غرقت فى السيول أمام أعين أصحابها، وهم متجلدون ذاهلون. ويسترحم الكرام لهؤلاء الضعفاء البؤساء، ويقول لهم إن كل ماتوا سونهم به وتنفقونه لن ينسى لكم أبدا، وسيظل هذا الجيل يحفظه لكم ويحمدكم عليه، والله يجزيكم خير الجزاء لهذا العمل البارّ الذى لا شك فى أنه عمل صالح، وسيتقبّله الله منكم. وتنزل بأم دورمان سيول كاسحة ويرثيها مدّثّر اليوشى، ومن قوله (5):
(1) شعراء السودان ص 181.
(2)
وبل: مطر. سارية السحابة ليلا. هطول: شديد الانصباب.
(3)
طاحت: ترامت: أقوى: أقفر.
(4)
متبول: مذهول.
(5)
شعراء السودان ص 338.
همر الرّكام فسام أزهار الرّبى
…
خسفا وعاث بروضة ووهاد (1)
تذرى الدماء على الخدود أرامل
…
يندبن خشية ضيعة الأولاد (2)
عبس الزمان بوجههم فأذاقهم
…
ما لم يذقه مكبّل الأصفاد (3)
من ذا يسرّى همّهم ويريحهم
…
من نقمة طرقتهم وعوادى (4)
فالغيث قد أخطا وما يدرى أبا
…
لأرض السويّة سال أم بالوادى
لكنّه حمّ القضاء لتعلموا
…
أن الحياة معونة وأيادى (5)
ومدثر يذكر أن ركام المطر انهمر انهمارا شديدا فأنزل بأزهار الربى خسفا وهوانا وعاث فسادا بالرياض والوهاد، وسالت دموع الأرامل دماء على خدودها يندبن ويبكين خوفا من ضيعة الأولاد. ويقول إن الزمان عبس وتجهم فى وجوههم فأذاقهم من ضنك العيش ما لم يذقه المكبّل بالأغلال، ويهتف الشاعر فى الناس: من ذا يزيل همومهم ويريحهم من عذاب هذه الكارثة التى نزلت بهم ومن عوادى الدهر ونوائبه، ويذكر أن الغيث أخطأ، وسقط دون أن يدرى أيسقط على أم درمان أو على واد من الوديان، ويهتف فى قومه: لقد حمّ القضاء وقدّر، لتعلموا أن الحياة معونة ومنن سابغة، فواجب عليكم أن تسعفوا أهل أم درمان أشقّاءكم، وتعينوهم بالمنن والنعم الوافرة.
(1) ركام المطر: ما تراكم منه. سامه خسفا: أنزل به هوانا.
(2)
تذرى: تسيل.
(3)
عبس: تجهم. مكبّل: من كبله أى قيده. الأصفاد: الأغلال والقيود.
(4)
يسرى: يزيل. عوادى: نوائب الزمن وكوارثه.
(5)
حم: قضى وقدر.