الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
نشاط الشعر والشعراء
1 -
تعرّب موريتانيا
أخذت العربية تغزو موريتانيا مبكرة على ألسنة بنى وارث الصنهاجيين منذ أسلموا على يد عقبة بن نافع (50 هـ/671 م-55 هـ/675 م) وأخذ الإسلام ينتشر بين الصنهاجيين فى صحراء موريتانيا لعهد موسى بن نصير (86 هـ/705 م-96 هـ/715 م) وأخذ يتسع انتشاره بين القبائل الصنهاجية الصحراوية فى القرون الهجرية الثانى والثالث والرابع. وكان يعتمد حينئذ على الصلوات الخمس وما يتلى فيها من القرآن، وما يتلوه الشيوخ فى المساجد من القرآن الكريم والحديث النبوى.
وكانت القبائل الصنهاجية تعتنق الإسلام فى تلك القرون أو تأخذ فى اعتناقه، غير أنها لم تتداول العربية فى لغتها اليومية، إنما كانت تتداول لغتها البربرية، حتى إذا كانت حركة عبد الله بن ياسين المارة منذ سنة 430 هـ/1038 م أخذت القبائل الصنهاجية تعرف شريعة الإسلام معرفة صحيحة، وأخذت تتحول إلى قبائل مجاهدة أو مرابطة تنشر تعاليمه فى السودان الغربى المدارى، وتحمل الجماعات المنحرفة الضالة فى المغرب الأقصى من مثل البجلية والبرغواطية على اتباع نهجه القويم، حينئذ أصبحت القبائل الصنهاجية فى موريتانيا تمثل شعبا مسلما من شعوب العالم الإسلامى، شعبا تبنى فى جميع أركانه المساجد، ويقوم فيها أئمة وعاظ وشيوخ يقفون الناس على شئون دينهم ويحفّظونهم بعض سور القرآن الكريم، إن لم يكن القرآن جميعه، كما يحفظونهم بعض الأحاديث النبوية.
وفى رأيى أن قلة من الصنهاجين الموريتانيين حفّت بهؤلاء الشيوخ وعرفت العربية، ولكن الكثرة الصنهاجية ظلت تتداول اللغة البربرية، ويخفف من حدتها تلاوة القرآن فى المساجد ونزول بعض الشيوخ فى البلدان الموريتانية مثل نزول الشيخ إسماعيل-كما مر بنا-فى ولاته سنة 600 هـ/1203 م وقيام القضاة فيها على تنفيذ أحكام الشريعة مثل قاضى ولاته الذى أكرم ابن بطوطة حين نزل بلده سنة 753 هـ/1353 م ونوّه بأخ له مدرس، ويغزوسنّ على تمبكتو ويشعل بها النيران سنة 873 هـ/1468 م فيفر فقهاؤها إلى ولاته وفى مقدمتهم الشيخ
عمر بن محمد أقيت مما أتاح لها أن تكون مركزا لحركة علمية فى القرن العاشر الهجرى كما أتاح لأهلها فرصة واسعة للتعرب.
وبعد أكثر من قرن يرسل المنصور الذهبى السعدى حاكم المغرب الأقصى جيشا ضخما للاستيلاء على بلدان السودان الغربى كما أسلفنا ويفتتحها ويجنّد عرب المعقل فى جنوبى المغرب الأقصى والجزائر لحراسة فتوحه، وتنزل حسان موريتانيا وتستقر فيها قبائلها فى أدراروتيرس والجنوب الغربى من موريتانيا، وتنزل قبيلة البرابيش الحسانية فى مدينة تيشيت وقبيلة الأوداية الحسانية فى الصحارى الواقعة بين وادان وولاته. وهكذا تنتشر قبائل حسان العربية فى جميع موريتانيا، ويتم بذلك تعربها كما تعرب المغرب فى منتصف القرن الخامس بالقبائل العربية من بنى سليم وهلال التى احتلّت دياره وأرجاءه، غير أن لسانهم الفصيح كانت قد عمت فيه عامية حسانية عربية خالفت من بعض الوجوه لسان أجدادهم فى بعض الأوضاع والتصاريف لاختلاطهم قرونا متوالية بالبربر. وقد نشرت هذه القبائل لغتها الحسانية العامية فى موريتانيا، وهى عامية عربية. ومن الطريف أنها تحتفظ بالمثنى بينما يسقط من عاميات أخرى كالعامية المصرية، ولم تأخذ موريتانيا عنها هذه العامية العربية وحدها بل حملت عنها أيضا ما كانت تنظمه فى مواطنها من الملاحم والأناشيد والقصائد التى تشتمل على أغراض الشعر العربى من المدح والغزل والفخر والحماسة والهجاء والرثاء. وعلى هذا النحو تعربت موريتانيا تعربا حسانيا، فالألفاظ هى الألفاظ العربية والأوزان هى الأوزان العربية. ومعنى ذلك أن القبائل الحسانية الموريتانية كانت لا تزال تحتفظ بميراثها من الألفاظ وأوزان الأشعار وأغراضها، مما يدل دلالة قاطعة على أنها كانت لا تزال تحتفظ بسليقتها العربية التى توارثتها منذ مئات السنين، وهى سليقة تشهد بأن هذه القبائل لا تزال قبائل شعر وقصيد كما كان آباؤهم الأولون. ومعروف أن الأمم إزاء الشعر تختلف، فهناك أمم شاعرة، ومنها الأمة العربية، فهى أمة شعر وشعراء، مهما اختلف عليها من الأعصار ومن الخطوب والأحداث، ومهما ظلت على فصحاها أو تطور بها الزمن، واستخدمت لغة عامية مشتقة من فصحاها ومتصلة بها اتصال الفرع بأصله، وحقا دخلت فيها بموريتانيا بعض ألفاظ بربرية وخاصة مما يتصل بتربية الخيل والإيل والبقر والزراعة والرى، غير أن ذلك لم يخرجها عن صورتها العربية.
وبذلك توارث سكان موريتانيا السليقة الشعرية العربية، وعمل الإسلام فى أن تستتم العامية الموريتانية على ألسنة كثيرين الفصحى إذ دارت على ألسنتهم فى حفظ القرآن الكريم وتعلمه وفيما أكبوا عليه من العلوم الإسلامية، وقد مضوا يتعلمون العربية ويتعمقون فى دراسة أشعارها الجاهلية على مر العصور. وكانت المرأة-كما مر بنا-هى التى تقوم على تعليم الناشئة حتى الثانية عشرة أو الثالثة عشرة سواء الذكور أو الإناث، تعلمهم الكتابة والذكر الحكيم،