الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأكبر الظن أن الجزائر ظلت طويلا تعتمد على موسيقاها والضرب على العود والقانون على ألحان بسيطة، حتى إذا كانت هجرة الغرناطيين الكبرى إليها بعد سقوط عاصمتهم غرناطة فى أيدى فردناند وإيزابيلا نقلوا معهم إلى مدنهم التى استوطنوها وخاصة على الساحل الشمالى موسيقاهم الأندلسية، ولا نعرف إلى أى حد امتزجت هذه الموسيقى بموسيقى الجزائر المحلية، وكانت الموسيقى الأندلسية موسيقى راقية ذات قواعد وقوانين فى تلاحينها وذات رقم مضبوطة (أى نوت جمع نوتة) وكانت تصحبها أغان أندلسية بهيجة أو شجية من الغزل وغير الغزل. ولم تلبث الموسيقى التركية أن انتقلت بدورها إلى الجزائر فى العهد العثمانى عن طريق الطاقم الموسيقى العسكرى الذى كان يلازم الوالى وما يحمل من آلات النفخ والدق. وأخذت تتسع معرفة الجزائريين بالموسيقى التركية وآلاتها وقواعدها فى التنغيم والتلحين. وهذه الموسيقى التركية وأختها الأندلسية التحمتا بما كان فى الجزائر من موسيقى أولية، وتألفت من ذلك كله منذ القرن الحادى عشر الهجرى الموسيقى الجزائرية بطوابعها وخصائصها الموسيقية، وقد أدخل الجزائريون فى ديوان موسيقاهم مصطلح البشرف وهى كلمة تركية معناها الافتتاحية ولا ينشد معها أو يغنّى كلام ثم تتوالى الأدوار فى الموسيقى، وكل دور يسمى نوبة، ولكل نوبة اسمها الخاص وتلاحينها. وتعتمد الموسيقى الجزائرية على الآلات الموسيقية التالية: الناى والعود والرباب والقانون والكمنجة والطبل والدربكة والطار والمزمار.
وبجانب هذه الموسيقى الجزائرية التى كانت تشيع بين الحضر فى المدن الجزائرية كان للبدو من الأعراب أغانيهم البدوية التى توارثوا طرائق التغنى بها وإنشاءها من آبائهم فى الجزيرة العربية، وقد أخذوا يستعيدون تلك الطرائق فى هضاب الجزائر ومراعيها الواسعة التى كانوا يتنقلون فيها، وأخذها عنهم جيرانهم من البربر المتبدين مثلهم، وكانوا ينشدونها مع طبل وزمر أحيانا فى أسمارهم وحفلات اعراسهم وأفراحهم واستقبالاتهم للحجاج بلهجاتهم البدوية الدارجة.
4 -
الدين-المالكية والحنفية-الإباضية-المعتزلة
(أ) الدين
(1)
كان البربر فى القطر الجزائرى-مثل إخوانهم من البربر فى الأقطار المغربية-وثنيين
(1) راجع فى الدين قديما الجزء السادس من تاريخ ابن خلدون ووصف إفريقيا للحسن الوزان وفى اليهود والنصارى تاريخ الجزائر فى القديم والحديث لمبارك الميلى وكتاب الجزائر لأحمد توفيق المدنى وفى علاقة الناصر بن علناس الحمادى بالبابا جريجوار السابع كتاب دولة بنى حماد لإسماعيل العربى وفى نشاط القرصنة وصف إفريقيا لدابر Dapper وكلمة الجزائر فى دائرة المعارف الإسلامية وفى اعتناق البربر للإسلام وتحولهم إلى شعب عربى مسلم مواضع مختلفة فى كتاب البيان المغرب لابن عذارى وغيره من كتب التاريخ السابقة.
يعبدون الشمس والقمر والكواكب السيارة ويقيمون لها المعابد ويقدمون إليها القرابين ويوقدون لها النار لحراستها ويقدسون كثيرا من الأحجار. ونزل بديارهم الفينيقيون وكانوا مثلهم وثنيين وكذلك القرطاجيون. وأخذ اليهود يهاجرون إلى بلدان الجزائر بعد استيلاء الملك الكلدانى بختنصر على بيت المقدس، ولهم هجرة إليها ثانية حين هدم الإمبراطور تيتوس هيكلهم ببيت المقدس سنة 70 للميلاد. وحاول يهود الهجرة الأولى والثانية أن ينشروا دينهم اليهودى بين البربر، واستجاب لهم بربر مختلفون فى جبال الأوراس، وما زالت توجد آثار للقبائل البربرية التى اعتنقت اليهودية وتمسكت بها إلى اليوم. وفى ذلك ما يفسر وجود بعض اليهود البدو الذين يلبسون ملابس البربر المسلمين ويعيشون معيشتهم. ولهم هجرة ثالثة إلى الجزائر وغيرها من البلاد المغربية، حين أنزل الإسبان بهم بعد سقوط غرناطة أهوالا من العذاب وأوصدت أوربا أبوابها دونهم فلم يجدوا لهم ملاذا سوى الجزائر وشقيقاتها العربيات المسلمات وعاملوهم معاملة الإسلام السمحة ولم يشعروهم أنهم عنصر غير مرغوب فيه، بل فسحوا لهم فى المعيشة وكانوا يعدون بالآلاف فى قسنطينة والجزائر وغيرهما من المدن الكبرى مثل تلمسان، ويقول الحسن الوزان: كان بها خمسمائة بيت من اليهود، وما زالت المدن الجزائرية تفسح لهم فى المعيشة بها، حتى إذا كانوا فى أواخر هذا العصر احتكروا التجارة والأعمال المالية وثار الشعب الجزائرى فخففوا قليلا من وطأة احتكارهم وسرعان ما استعادوا احتكارهم ونفوذهم المالى على نحو ما عرضنا ذلك فى الفصل الماضى.
وأخذت المسيحية تنتشر فى الجزائر منذ القرن الثانى للميلاد، وأخذ انتشارها يتسع منذ عهد الإمبراطور قسطنطين واستيلائه فى روما على صولجان الحكم سنة 312 للميلاد إذ أعلن المسيحية دينا رسميا للدولة وأخذ يعمل على نشرها فى إفريقيا والبلاد التابعة لروما، وتكاثرت الأسقفيات والكنائس فى المدن الساحلية وفى الداخل فقد كان لهم أسقفية فى بونة (عنابة) وكان القديس أو غسطين أسقفا لها وكانت فى قسنطينة أسقفية ثانية وكذلك فى باغاية، وكانت هى وأمثالها تتبع كنيسة روما. ويظن أن المسيحية سقط منها بعض التأثير إلى القبائل الرحل فى الجنوب إذ توجد بعض كلمات فى لغة الطوارق ترجع إلى أصل مسيحى مثل اسم ميسى ومعناه عندهم إله وأنجلوس ومعناه عندهم ملاك. ولكن من المؤكد أن البربر ظلوا-قبل الإسلام-لا يقبلون على المسيحية لصعوبة تصورهم لعقيدة التثليث المسيحية المعقدة ولأن حملتها من الرومان كانوا يذيقونهم قهرا وبطشا شديدا، فظلوا منصرفين عنها، ومن اعتنقها منهم ظل يعتنقها اعتناقا ظاهريا دون أن تحتل قلبه وفؤاده، وظل يشعر أنها ديانة رومانية أوربية غريبة عليه. ومع ذلك فإن الجاليات والأسر والحاميات الرومانية ومن تنصّر من القرطاجيين كانوا كثيرين مما أتاح لتأسيس بعض الأسقفيات والكنائس وبدون ريب حاول بعض القساوسة الدعوة للمسيحية جاهدين فى أرجاء البلاد حتى صحاريها. وبعد الفتح العربى أخذ كثيرون ممن
اعتنقوها يعتنقون الدين الحنيف، وأقبلت عليه جموع البربر وجماهيرها، لبساطته ولتحريره الشعوب من كل عبودية واسترقاق وظلم مع محوه لجميع الفوارق الطبقية والاجتماعية بين رعيته فهم جميعا سواء فى الحقوق والواجبات، وهذا هو التفسير الصحيح لقضاء الإسلام على المسيحية فى القطر الجزائرى وغيره من الأقطار المغربية، مع ملاحظة أن العرب عاملوا من ظلوا على مسيحيتهم من الروم وغيرهم معاملة سمحة كما يقضى بذلك دينهم وجعلوا لهم حقا مفروضا إقامتهم لشعائر دينهم المسيحى وتجديد كنائسهم ولم يمسوا أى مس حريتهم الدينية. وظل ذلك لا فى القرون الأولى بعد الفتح فحسب، بل أيضا فى جميع القرون، حتى لنجد الناصر بن علناس أمير دولة بنى حماد فى بجاية والقلعة يرسل-كما أشرنا إلى ذلك فى الفصل الماضى-خطابا رقيقا إلى البابا جريجوار السابع الذى تولى البابوية بين سنتى 1073 و 1085 خطابا رقيقا يطلب إليه فيه تكريس القديس سرفاند أسقفا على أبرشية بونة (عنابة) وأرسل إليه معه بهدايا نفيسة، وأهم من ذلك أنه افتدى جميع الأسرى المسيحيين الذين جلبهم القراصنة إلى مملكته وأرسل بهم إليه. وكان لذلك أجمل وقع فى نفس البابا وكبار رجال الكنيسة فى روما، وأرسل إليه مع الأسقف الجديد لبونة برسالة تفيض بشكره وشكر القسيسين وأشراف روما لهذا العمل النبيل محييا عقيدة المسلمين التى تشترك مع عقيدة المسيحيين- كما يقول-فى الاعتقاد بإله واحد خالد. وإنما سقت ذلك لأدل على مدى المعاملة الطيبة للمسيحيين فى الجزائر، وكانت لهم فى مدنها الكبيرة بعض الأحياء، كما كان لهم-مثل اليهود-مقابر خاصة. ومرّ بنا أن القرصنة اتسعت منذ القرن العاشر إلى نهاية هذا العصر، مما أدّى إلى وفود آلاف من الأسرى المسيحيين على الجزائر من مختلف مناطق البحر المتوسط (إسبان وفرنسيين وإيطاليين وكريتيين وصقليين ويونان) وكانوا يعدون رقيقا فى خدمة الدولة أو فى خدمة بعض الأعيان، وكانوا يزاولون الزراعة وحرف الصناعة والبناء ويزعم دابر Dapper فى وصف إفريقية أنه كان بمدينة الجزائر ستة آلاف أسرة من هؤلاء المسيحيين الأسرى ممن جلبهم القراصنة، وكان كثيرون من هذا الرقيق المسيحى الأسير يسلمون وتردّ إليهم حرياتهم ويكونون أسرّا ما زال بعضها يحمل اسم بلدهم الأصلى، وعمل بعضهم فى الدولة وارتقى إلى المناصب الرفيعة.
ومنذ فتح المسلمون المغرب الأوسط أو إقليم الجزائر، والبربر يسارعون إلى الدين الحنيف واعتناقه، ويبدو ذلك واضحا فى عهد أبى المهاجر دينار (55 هـ/674 م-62 هـ/681 م) إذ يرجع إليه الفضل فى فتح جميع الجزائر ونشر الدين الحنيف فيها وكانت قد فتحت بعض أرجائها وأخذ أهلها يتعرفون على الإسلام ويدخلون فيه، فأتم ذلك كله، متخذا له جيشا جرارا من العرب والبربر المسلمين. وسمع أن الروم وبعض البربر يتجمعون لحربه فى مدينة ميلة إلى الجنوب الشرقى من بجاية، فنازلهم واحتل البلدة واتخذها مركزا لأعماله الحربية وظل
فيها عامين، تخرج فيهما سراياه للفتح بعد الفتح. وكانت الزعامة فى الجزائر حينئذ لقبيلة أوربة البرنسية ورئيسها أو زعيمها كسيلة وكان نصرانيا وأخذ يستعد استعدادا واسعا للقاء أبى المهاجر، ولقيه بجيش كثيف من الروم والبربر بالقرب من تلمسان ودارت عليه وعلى جيشه -كما مرّ بنا فى الفصل الماضى-الدوائر، ووقع أسيرا فعامله أبو المهاجر معاملة سمحة، جعلته يدخل-وتدخل معه قبيلته أوربة-فى الدين الحنيف. وخلف أبا المهاجر فى ولاية القيروان والبلاد المغربية عقبة بن نافع سنة 62 هـ/683 م فرأى أن يقتحم الجزائر والمغرب الأقصى جميعا، وأعدّ جيشا ضخما أخذ يهزم به البربر ومن اجتمع إليه من الروم حتى أوطأ حافر حصانه مياه الأطلسى. ومنذ هذا التاريخ أصبحت البلاد المغربية جميعها من أدناها إلى أقصاها بلادا إسلامية. غير أن عقبة كان قد عامل كسيلة الأوربى معاملة أغضبته وصمم على الانتقام، حتى إذا كان عائدا بالجيش فى المغرب الأوسط وتخلف عنه مع فرقة صغيرة بالقرب من طبنة هجم عليه كسيلة مع جنود من الروم والبربر كان قد أعدهم لمثل هذه الفرصة، واستشهد البطل العظيم عقبة. وانتقم له خليفته زهير بن قيس فنازل كسيلة فى موقعة ضارية خرّ صريعا فيها وتفرّق من معه فى البلاد والجبال. وعاد زهير فتولّى البلاد المغربية بعده حسان بن النعمان فرأى أن يفتتح قرطاجة التى كان ينزل فيها الروم ويحاولون الاتصال بالبربر للحرب والإفساد، وفر كثير من الروم إلى البحر ومن بقى منهم فرضت عليه الجزية. وكانت كاهنة بربرية تتزعم البربر فى جبال أوراس بالجزائر قد أعلنت الحرب على حسان والعرب، ولقيها حسان ولم يكتب له النصر فانسحب انتظارا لمدد يأتيه من الخليفة عبد الملك بن مروان وأتاه المدد سنة 81 هـ/700 م فنازلها وسحق جيشها سحقا ذريعا وأمّن من بقى منه وأمّن سكان أوراس فى الجزائر جميعا وولّى أكبر أبناء الكاهنة على قبيلته جراوة وجبل أوراس، واتخذ من قومه كتيبة فى جيشه عدادها اثنا عشر ألفا. ومن حينئذ أصبحت الجزائر عربية إسلامية تعتنق الدين الحنيف وتجاهد فى سبيله عن إيمان وإخلاص. ويخلف حسانا على القيروان والبلاد المغربية موسى بن نصير سنة 86 هـ/705 م فيمكن لهذا الامتزاج التام بين العرب والبربر فى الجيش وحكم المدن وفى جميع الحقوق والواجبات، ويعمل بكل ما استطاع على نشر الدين الحنيف بين البربر، ويتوّج ذلك بالبعثة التى أرسلها الخليفة عمر بن عبد العزيز لنشر الدين الحنيف وتعاليمه فى البلاد المغربية.
وبذلك أصبحت الجزائر-مثل بقية البلاد المغربية-عربية إسلامية، وحقا ولى على البلاد المغربية منذ أوائل القرن الثانى الهجرى ولاة أمويون باغون أساءوا حكم البربر سوءا شديدا فلم يسوّوا بينهم وبين العرب فى الحقوق وظلموهم فى الخراج والضرائب ظلما شديدا، وعرفوا دعوة الخوارج وما يدعون إليه من المساواة التامة بين جميع المسلمين عربا وغير عرب فى كل الحقوق حتى فى ولاية الأمة وخلافتها أو إمامتها، فليس من الحتم أن يكون الخليفة قرشيا بل
يتولى الخلافة أكفأ المسلمين ولو كان عبدا جشيا، وسارع إليهم دعاة مذهبى الإباضية والصفرية، وكان المذهب الأول معتدلا وقريبا من مذاهب أهل السنة، وتبع دعاته جبل نفوسة فى طرابلس واستطاعوا أن يكونوا لهم دولة فى تاهرت، وبذلك كثر أتباع هذه الفرقة الخارجية وسنخصها فيما يلى بحديث مستقل، أما فرقة الصفرية فكانت فرقة متشددة غاية التشدد وكانت تستبيح دماء المسلمين، وتأسست فى سجلماسة والمغرب الأقصى، فلم يتبعها جزائريون إلا ما كان يحدث أحيانا من مرور جيوشها بأراضى الجزائر فى ذهابها لحرب ولاة المغرب أو لحرب الدولة العبيدية، فكان ينضم إليها بعض الجزائريين. وبقاع محدودة فى الجزائر هى التى شاعت فيها الدعوة الإباضية، ومعنى ذلك أن الجمهور فى الجزائر ظل سنيا وظلت الجزائر دارا كبيرة للمذاهب السنية.
(ب) المالكية (1) والحنفية
ظل شرقى الجزائر طويلا جزءا لا يتجزأ من ولاية القيروان، وكانت قد سبقت-كما مرّ فى القسم الخاص بالإقليم التونسى-إلى الاعتماد فى الفقه على مذهب مالك، وفتحت أبوابها للمذهب الحنفى وخاصة فى عهد الأغالبة الذين تابعوا بغداد فى اتخاذ القضاة غالبا من بين فقهاء الأحناف حتى نهاية القرن الثالث الهجرى، إذ خيمّت-حينئذ-العقيدة الشيعية على الإقليمين الجزائرى والتونسى، وكادت تتوقف فيهما دراسة الفقه السنى المالكى والحنفى حتى إذا فارقوا المهدية إلى القاهرة فى أواخر العقد السادس من القرن الرابع عادت إلى الفقهاء السنيين حريتهم، وأخذوا يعنون بدراسة الفقه المالكى، وتولى المعز بن باديس شئون القيروان وشرقى الجزائر سنة 406 واشتد فى عهده تذمر أهل القيروان من ذكر الخطباء على المنابر أسماء الخلفاء العبيديين والدعاء لهم فى خطب الجمعة، وبلغ بهم الأمر أن قطعوا صلاة الجمعة احتجاجا على الدعوة والدعاء لهم فيها، ويقول ابن عذارى إن بعضهم كان إذا بلغ إلى المسجد قال سرا: اللهم اشهد، اللهم اشهد، وانصرف، فصلّى الظهر. وانتهى الحال إلى تعطيل الجمعة فى القيروان زمنا، وأخذت تقوم مشادات عنيفة بين أنصار السنة وأنصار الدعوة العبيدية الشيعية منذ سنة 407 هـ/1016 م وفى نفس هذه السنة قتلت العامة من أنصار العبيديين خلقا كثيرا رجالا ونساء ونهبوا دور قوم منهم وأموالهم. ومن حين إلى حين كانت تثور بهم العامة فى القيروان وأيضا فى المهدية عاصمة العبيديين ومدينتهم المنصورية حتى إذا كانت
(1) انظر فى المالكية الجزائريين كتاب رياض النفوس للمالكى والديباج المذهب لابن فرحون وفى المالكية المصريين الكبار المذكورين كتاب حسن المحاضرة للسيوطى وراجع فى قرار المعز بن باديس بقطع الدعوة العبيدية وحمل أهل المغرب على مذهب مالك البيان المغرب لابن عذارى والجزء السادس من تاريخ ابن خلدون وانظر فى تعليله لاتباع أهل المغرب مذهب مالك مقدمته فى الحديث عن علم الفقه وراجع المذهب الحنفى فى العهد العثمانى بالجزء الأول من كتاب تاريخ الجزائر الثقافى فى العهد العثمانى لأبى القاسم سعد الله.
سنة 435 هـ/1043 م ثارت بهم العامة ثورة دامية سفك فيها كثير من الدماء فى الحواضر والبوادى، ولم يتمكن المعز من إيقافها، فرأى نزولا على إرادة شعبه نبذ الدعوة العبيدية أو الفاطمية علانية وخلع طاعة خلفائها فى القاهرة، وأمر بأن يحمل جميع أهل المغرب على اتباع مذهب الإمام مالك سنة 438 هـ/1046 م وقيل بل فى السنة التالية، وأمر أن يخطب على المنابر باسم الخليفة العباسى القائم بأمر الله وجاءه منه تقليد يعترف له فيه باستقلاله. ومن حينئذ أصبح مذهب مالك هو المذهب الفقهى السنى الذى تتبعه البلدان المغربية وجماهيرها لا فى الإقليم التونسى وشرقى الجزائر فحسب، بل فى جميع بلدان الجزائر والمغرب الأقصى وأيضا فى طرابلس وبرقة وأخذ يدرس فى كل بلد مغربى وكثر فقهاؤه كثرة مفرطة.
ويقول ابن خلدون-فى المقدمة-إن أهل المغرب اختاروا مذهب مالك دون غيره من المذاهب السنية كالمذهب الحنفى والمذهب الشافعى لأنه مذهب أهل الحجاز الذين تجمعهم بهم البداوة، وفى رأينا أن هذا التعليل غير دقيق، لما سنرى عما قليل من شيوع مذهب الاعتزال فى الجزائر-ومثلها المغرب الأقصى-ومعروف أن البصرة هى التى وضعته دون الكوفة لأن عقلها-كما قلت فى كتاب المدارس النحوية-كان أدق وأعمق من عقل الكوفة لاتصالها بالثقافات الأجنبية وبالفكر اليونانى، ولذلك وضعت أصول الاعتزال. فالتعليل لاختيار أهل المغرب مذهب مالك بالبداوة تعليل لا يستقيم، وأولى من ذلك أن يعلّل إيثارهم لمذهب مالك من قديم، لأنهم كانوا يقصدون إلى المسجد الحرام للحج ويزورون المدينة دار الهجرة وكان مالك إمام المدينتين غير مدافع وإمام أهل الحجاز، فجلسوا إلى محاضراته فى المدينة دار الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أواسط القرن الثانى للهجرة وحملوا عنه موطّأه إلى القيروان وتدارسوه فيها كما تدارسوه على تلاميذه المصريين النابهين يتقدمهم عبد الرحمن بن القاسم، وكان قد فرّع على المذهب فروعا فى مدوّنة له حملها عنه أحد تلاميذه القيروانيين: سحنون، وأذاعها فى طلابه، وأصبحت فى البلاد المغربية: الجزائر وغير الجزائر أمّا للمذهب المالكى مثل كتاب إمامه الموطأ، وظل المغاربة بعد سحنون يلتمسون المذهب المالكى عند أئمته المصريين الذين خلفوا عليه ابن القاسم المتوفى سنة 191 هـ/806 م وخلفه على إمامة المذهب المالكى بالفسطاط أشهب بن عبد العزيز المتوفى سنة 204 هـ/819 م وتولاها بعده عبد الله بن عبد الحكم المتوفى سنة 214 هـ/829 م وإمام المالكية بعده فى الفسطاط أصبغ بن الفرج المتوفى سنة 225 هـ/839 م فكل هؤلاء الأئمة كان يرحل إليهم شباب المالكية المغاربة للتزود فى المذهب من حلقاتهم العلمية، كما كانوا يتزودون من تلامذة سحنون فى ديارهم المغربية، وتوالت طبقات فقهاء المالكية فى الجزائر إلى اليوم.
وقد أخذ المذهب الحنفى وفقهاؤه ينشطون فى العهد العثمانى إذ كانت الدولة العثمانية
تقصر الفتوى والقضاء على فقهاء المذهب الحنفى، وكان كبير المفتين أو أصحاب الفتوى عندهم يلقب بلقب شيخ الإسلام وما إن استقر الحكم العثمانى حتى أشرك الولاة العثمانيون مع القاضى المالكى قاضيا حنفيا، وكان يأتى فى أول العهد من إستانبول. وكان حكم القاضى المالكى لا يصبح نافذا إلا إذا وقّع عليه القاضى الحنفى، وتبعت هذا القضاء الحنفى مدارس تعنى بالفقه الحنفى، وأخذت تنشأ فئة كبيرة من فقهائه ومدرسيه، وبعد أن كان القاضى الحنفى يأتى فى صدر العهد العثمانى من إستانبول أخذ أولو الأمر يعينون القضاة من أسر حنفية توارثت المذهب فى الجزائر.
(ج) الإباضية (1) والصفرية
الإباضية-قديما-من فرق الخوارج الذين أنكروا التحكيم الذى ارتضاه على بن أبى طالب فى الحرب الدائرة بينه وبين معاوية فى صفّين، وقالوا إن الخلافة-أو إمامة المسلمين -لا يصح أن تقصر على قريش، إذ ليست حقا لها، بل هى حق لله، وينبغى أن يتولاها خير المسلمين تقوى وإقامة للعدل ولو لم يكن قرشيا بل لو كان عبدا جبشيا، وحاربهم على بن أبى طالب وهزمهم، وظلوا بعده يقاومون الخلافة الأموية ثم الخلافة العباسية، وانقسموا فرقا كان من أكثرهم غلوا فرقتا الصفرية والأزارقة الذين عدّوا دار المسلمين دار حرب ينبغى حربهم وجهادهم ما داموا يستسلمون لحكام الأمويين والعباسيين القرشيين الجائرين، وتبع فرقة الصفرية كثيرون فى سجلماسة والمغرب الأقصى وحملوا السلاح ضد حكامهم من العرب وخاضوا معهم حربا طاحنة، وكانت جيوشهم تمر أحيانا بالجزائر قاصدة القيروان مقر الحاكم الأموى والعباسى ومن بعدهما الحاكم العبيدى لحربه، وكان يتبعهم بعض العامة من الجزائر، ولكن جماهير الجزائر ظلت بعيدة عن اعتناق هذه العقيدة الخارجية الغالية.
وإذا كانت الجزائر لم تعتنق العقيدة الصفرية فإن جماعات فيها اعتنقت العقيدة الإباضية، وتأسست لها دولة فى مدينة تاهرت، حتى إذا قضى عليها أبو عبيد الله الشيعى داعية المهدى العبيدى انسحب منها الإباضيون إلى باغاية وورقلة، ثم تجمعوا فى غرداية وقرى ميزاب، ولا يزالون إلى اليوم فى كل هذه الأنحاء. وفرقة الإباضية لم تكن تغلو-من قديم-غلو فرقة الصفرية، فهى لا تعدّ دار المسلمين دار حرب ولا تحمل السلاح لقتالهم وسفك دمائهم مثل الصفرية، إلا أن يضطروها إلى ذلك، وهى لا تعد-مثل الصفرية والأزارقة-مرتكب الكبيرة كافر ملة يجب قتله، إنما هو كافر نعمة فلا ينبغى قتله، وهم يتوارثون مع إخوانهم السنيين
(1) انظر فى الإباضية والصفرية كتاب الملل والنحل للشهرستانى وراجع فى الإباضية السير للشماخى والأزهار الرياضية لسليمان البارونى وكتاب الجزائر لأحمد توفيق المدنى والجزء الثانى من تاريخ المغرب الكبير لدبوز.