الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شوطا وأشواطا رجاء أن تتحقق على يد المنصور، ويقول يا لها مسرحا أو كناسا أو بيوتا للغزلان من الدمى والتماثيل القائمة فيها. وإنها لتلوك ما طاب لها لا ما تلوكه غزلان البوادى من شجر الأثل والخمط، وإنها لتتوسّد الوشى المنمق لا شجر البوادى من السدر والأرطى، وأما الثرى فإنه من فتات المسك وإن المطر ليختلط به حين يسقط فيصبح خلطا أو أخلاطا من الطيب، وحين تباكره نسمة سحرا تضوع رائحته، ويأخذ كل أنف منها قسطا أو حظا ممتعا، ويقول إن قصر الخلد ببغداد وقصور الزهراء بقرطبة لتعترف بعظمة هذا القصر وأن أواوين كسرى لتغبطه. ولعل فى كل ما قدمت ما يصور شاعرية الفشتالى وأنه كان يعنى بالجزالة والرصانة فى أسلوبه كما كان يعنى بالصور البيانية.
3 -
شعراء الرثاء
الرثاء قديم فى الشعر العربى، ونجده-منذ الجاهلية-يتخذ صورا ثلاثة هى الندب لبكاء ذوى القربى من الآباء والأبناء والإخوة، والتأبين؟ ؟ ؟ لذكر فضائل الميت تصويرا لخسارة المجتمع فيه، والعزاء بذكر الموت وأنه سنة من سنن الحياة، لا مفر لإنسان منه، ونجد هذه الصور الثلاثة فى شعر المغرب الأقصى بمختلف عصوره. ومن أوائل ما يلقانا من صور الندب بكاء أبى الربيع الموحدى لأخيه، وفى بعضه يقول (1):
أتانى نعىّ ضاق صدرى بحمله
…
وصدرى-كما قد تعلمان-رحيب
فمرّ بقلب لم تدمّل قروحه
…
كما مرّ بالجمر الدّفين هبوب
فحتى متى تبرى الرزايا سهامها
…
وتقصدنى عمدا بها فتصيب
وحتى متى ألقى رزايا ممضّة
…
يكاد لإحداها الحديد يذوب
ولكن قضاء الله حتم فليس لى
…
سواه على حمل الخطوب حسيب
يقولون لى صبرا ونار تلهفى
…
لها بين أحناء الضلوع وجيب
وهو يقول لصاحبيه إن نعىّ أخيه أتاه فضاق به صدره الرحيب، وقد أثار الجمر الدفين من أحزانه وكأنه ريح عاصفة، وأصاب قروحه التى لم تبرأ، فعادت تألمه، ويقول إلى متى تقصدنى الرزايا بسهامها فتصيبنى فى الصميم، وحتى متى توجعنى، ولو أن إحداها نزلت بحديد صلب لأذابته غير أنه قضاء الله المحتم وينبغى للإنسان أن يتقبله راضيا بما قضى به ربه حسيبه، ويقولون لى صبرا ونار تلهفى على أخى تضطرم وتلذع فى أحناء ضلوعى. ويعزى ميمون الخطابى (ابن خبازة) المتوفى سنة 637 للهجرة ابن الجدّ عظيم إشبيلية فى ابنه، ويستهل عزاءه بقوله (2):
(1) الوافى 1/ 191.
(2)
النبوغ المغربى 3/ 273.
أرجّة الصّعق يوم النّفخ فى الصّور
…
أم دكّة الطّور يوم الصّعق فى الطور
أم هدّة الأرض إظهارا لما زجرت
…
به الخليقة من إيقاع محذور
أم الكواكب فى آفاقها انتثرت
…
وباتت الشمس فى طىّ وتكوير
ما للنهار تعرّى من ثياب سنا
…
وشابه الليل فى أثواب ديجور
أصخ لتسمع من أنبائها نبأ
…
يطوى من الأنس فيها كلّ منشور
وافى مع العيد لا عادت مضاضته
…
فشاب سلساله الأصفى بتكدير (1)
نوّارة عند ما راقت بدوحتها
…
أهوت إلى التّرب من بين النواوير
جار الذبول عليها عند ما ملأت
…
معاطس الدّهر من طيب وتعطير
وهو يتصور كأن موت هذا الشاب رجّة الصعق يوم ينفخ فى الصور، فيصعق من فى السموات والأرض ويهبّون من مراقدهم ليوم القيامة، أو كأنه دكة الطور حين طلب موسى من ربه رؤيته، أو كأنما الأرض هدّت وتناثرت الكواكب وكوّرت الشمس، كما جاء فى الذكر الحكيم عن يوم القيامة. وهى مبالغات يتحملها الشعر وحتى النهار تعرّى من ثياب ضيائه وغطاه الليل بظلامه. ويقول لمخاطبه: أرهف سمعك لنبأ طوى كل أنس وكل سرور، نبأ وافى فى أواخر رمضان مع العيد، فكدّر كل صاف فيه، وما النبأ؟ زهرة حينما زهت وتفتحت على شجرتها وراقت الأعين والأنفس سقطت إلى الترب من بين أخواتها من الزهرات والنواوير، وجار الذبول عليها فهوت عند ما ملأت أنوف الدهر من أريج طيبها وعطره. ويفضى إلى عزاء ابن الجد بأن كل ما على وجه الأرض فان، فينبغى أن يسلم الأمر لربه، إذ كل شئ يفنى بتدبير محكم، وما الكون إلا صحيفة كبرى والناس فيها أحرفه بين ممحوّ ومبتور، فلا تخدعك الليالى، ويورد عليه أسماء بعض الملوك والأنبياء، ممن طواهم الدهر وبادوا، ويقول له فى خاتمة قصيدته: سلّم للقضاء تسليم مأجور مثاب على تسليمه. ولابن رشيد المتوفى حول سنة 720 للهجرة قصيدة بكى فيها ابنه محمدا بكاء مؤثرا يقول فيه (2):
شباب توى شابت عليه المفارق
…
وغصن ذوى تاقت إليه الحدائق (3)
على حين راق الناظرين بسوقه
…
رمته سهام للعيون رواشق (4)
محمد إنّ الصبر فيك مصارم
…
محمد إن الوجد فيك مصادق (5)
(1) مضاضته: ألمه.
(2)
الوافى 2/ 391.
(3)
توى: هلك.
(4)
بسوقه: ارتفاع شأنه.
(5)
مصارم: مقاطع.
وتالله مالى بعد عيشك لذة
…
ولا راقنى مرأى لعينى رائق
فإن ألتفت فالشخص للعين ماثل
…
وإن أستمع فالصوت للأذن طارق
وإن تقرع الأبواب راحة قارع
…
يطر عندها قلب لذكرك خافق
فيا واحدا قد كان للعين نورها
…
وكلّ ضياء بعد بعدك غاسق (1)
وهو يبكى ابنه، يقول شباب هلك شابت عليه الرءوس وغصن ذبل كانت الحدائق النضرة تتوق إليه، وكان الناظرون قد راقهم شبابه وذكاؤه، وكأنما رمته سهام للعيون سريعة النّيل ممن ترميه ويقول له إننى لا أستطيع فيك صبرا، وإن الحزن فيك لا يفارقنى، ولم أعد أجد فى عيش بعدك لذة ولا عاد يروقنى شئ يعجب العين. وإنك لتملأ كل ما حولى، فإن ألتفت أشعر كأن شخصك ماثل أمامى، وإن أستمع أشعر كأننى أستمع صوتك، وإن يقرع الأبواب أحد أشعر كأنك أنت الذى يقرعها فيخفق قلبى ويطير، كأنه يريد أن يلقاك. ويقول إنه كان نور عينه، فأصبح كل شئ بعده مظلما لا يراه. ويقول أبو بكر بن شبرين السبتى المتوفى سنة 747 للهجرة يؤبن العالم الجليل مواطنه ابن هاني وقد استشهد فى حصار جبل طارق سنة 733 هـ/1333 م (2):
قد كان ما قال البريد
…
فاصبر فحزنك لا يفيد
أودى ابن هاني الرّضا
…
فاعتادنى للثّكل عيد
بحر العلوم وصدرها
…
وعميدها إذ لا عميد
قد كان زينا للوجو
…
د ففيه قد جمع الوجود
العلم والتحقيق وال
…
توثيق والحسب التّليد
أودى شهيدا باذلا
…
مجهوده نعم الشهيد
فلئن بليت فإنّ ذك
…
رك فى الدّنا غضّ جديد
وتعهّدتك من المهي
…
من رحمة أبدا وجود
وهو يخاطب نفسه قائلا: قد كان حقا ما قال البريد من استشهاد ابن هاني، فلتصبر، فالحزن لا يفيد فقد استشهد ابن هاني الذى كان تمثالا للرضا والقناعة، فنزل بى من فقده ما يعتادنى من فقد الإخوان والأحباب من حزن، ولقد كان للعلوم بحرا لا يسبر غوره وإماما أو عميدا لا يماثله عميد، بل لقد كان زينا للوجود جميعه، وكأنما جمع فيه الوجود ما شئت من علم وتحقيق وكتابة للوثائق الشرعية مع الحسب القديم الأصيل، وقد توفى شهيدا باذلا
(1) غاسق: مظلم.
(2)
النبوغ المغربى 3/ 277 والوافى 2/ 458.
روحه فى جهاد أعداء الدين، فنعمت الوفاة ونعمت الشهادة، ولئن يلى جسده فإن ذكراه ستظل تتجدد خالدة. ويدعو له ربه أن يتعهده برحمته وكرمه، إنه نعم الرحيم الكريم. وفى النبوغ المغربى للشيخ القصار فى رثاء أبويه مرثية، يقول فيها (1):
زر والديك وقف على قبريهما
…
فكأننى بك قد نقلت إليهما
كانا إذا ما أبصرا بك علّة
…
جزعا لما تشكو وشقّ عليهما
كانا إذا سمعا أنينك أسبلا
…
دمعيهما أسفا على خدّيهما
وتمنّيا لو صادفا لك راحة
…
بجميع ما يحويه ملك يديهما
بشراك إن قدّمت فعلا صالحا
…
وقضيت بعض الحق من حقّيهما
وقرأت من آى الكتاب بقدر ما
…
تسطيعه وبعثت ذاك إليهما
وهى مرثية للأبوين فريدة فى العربية ووصية لكل ابن توفى أبواه أن يزور قبريهما فإنه موشك على اللحاق بهما، ويقول لكل ابن إنهما كانا عطوفين عليك عطفا لا حدّ له، فكانا إذا رأوك مريضا تشكو جزعا لشكواك جزعا ما مثله جزع، وإذا سمعا أنينك من علة ذرفا دموعهما على خدّيهما مدرارا، وتمنيا لو أتيحت لك راحتك بجميع ما يملكون فى دنياهم. وبشراك بما سينالك من جزاء ربك إن عملت فعلا صالحا وقضيت بعض ما لوالديك من حقوق، وأول حق لهما أن تقرأ ما تستطيع من آيات القرآن الكريم وتهديه إلى روحهما، ليتقبّلهما الله قبولا حسنا. ويقول ابن زاكور المتوفى سنة 1120 هـ/1709 م فى العصر العلوى يرثى سيدة فاضلة من أهله (2):
سقى الرحمن قبرا ضمّ شخصا
…
تسربل بالمكارم وارتداها
ونضّر مضجعا لفتاة صدق
…
حوى غرر الفضائل إذ حواها
لقد كانت تحضّ على المعالى
…
وتندب للمكارم من أباها
وألبسها المنون حلى كسوف
…
فهلاّ فضلها الوافى حماها
فكم أحيت مواهبها كئيبا
…
أحلّته النوائب فى حماها
وكم ربّت بأنعمها يتيما
…
قلته أمّه حتى سلاها
لئن ماتت فما ماتت حلاها
…
وإن أودت فما أودى علاها
وابن زاكور يدعو الرحمن لقبر هذه السيدة بل الفتاة الكريمة التى لبست حلل المكارم أن ينزل عليه غيث الرحمة، وينضّر مضجها ويملأه رونقا، إذ هى فتاة صدق وفضائل عظيمة، ولقد كانت تحض كل من حولها على المعالى والأعمال السامية، وقد طوى الموت شمسها
(1) النبوغ المغربى 3/ 280.
(2)
النبوغ المغربى 3/ 299.
الساطعة، ولم يحمها فضلها ولا كرمها مما نزل بها من كسوف، ولئن ماتت فكم أحيت مواهبها وعطاياها تعسا وأنقذته مما يغمره من كآبة وهم، وكم حنت على يتيم ورعته حين نبذته أمه، وحقا إن ماتت فما مات ما كان يزينها من أفضال وسمو لا نظير له. وفى زيارة مقبرة يقول الطيب بن مسعود المرينى المتوفى سنة 1145 هـ/1733 م (1):
أتيت القبور أداوى بها
…
قساوة قلبى التى أجد
وقمت أسائل عن أهلها
…
وهيهات لا خبر يوجد
رأيت مصارعهم عبرة
…
تذيب حشاشة من يشهد
أقاموا قليلا وقد رحلوا
…
وغابوا وبالعود ما وعدوا
دعاهم على الرّغم داعى الرّدى
…
فلبّوه حين انقضى الأمد
وقد هدم الموت لذّاتهم
…
وغيّر عيشهم الأرغد
وحلّوا بطون الثّرى تحتهم
…
تراب وفوقهم جلمد
وهو يقول إنه أتى القبور يداوى بها قساوة قلبه، وأخذ يسائل عن أهلها، ولا نبأ ولا خبر عنهم، ويقول إن مصارعهم عبرة لمن يفكر فيهم حتى لتذوب روحه أسى، فقد أقاموا فى دنياهم ورحلوا عنها وغابوا دون وعد بالرجوع أو الإياب، وقد دعاهم داعى الهلاك فلبّوه حين انقضى الأجل، وقد أتى الموت على لذاتهم، وبدّل عيشهم الرغد الهنئ وحلوا بطون الثرى، تحتهم تراب وفوقهم صخور، فحرىّ بالإنسان أن يعتبر ويتعظ. ولعلى مصباح الزّرويلى المتوفى سنة 1150 للهجرة فى تأيين الفقيه جسّوس الشهيد (2).
حلّ بالدين يا لقومى بلاء
…
أحجمت دون وصفه الشعراء
قتل اليوم أعلم الأرض ظلما
…
فبه للإسلام حقّ العزاء
قتلوه من أجل أن كان أستا
…
ذا أعزّته السّنّة السّمحاء
قتلوه من أجل أن كان للشّر
…
ع حساما تهابه الأمراء
قتلوه أن كان للحق قوّا
…
لا وما إن تضلّه الأهواء
يا لها من مصيبة سار فى الأر
…
ض وفوق السّما بها الأنباء
عمّت المسلمين رزءا فأضحت
…
كلّ عين منهم عراها البكاء
والزرويلى يجعل موت الفقيه جسوس بلاء حلّ بالدين الحنيف، فقد قتل ظلما أفقه الأرض وأعلمها، وإن الإسلام ليعزّى فيه. ويقول إنهم قتلوه، إذ رأوه يحمى الشرع والسنة النبوية، وكان يقول الحق ولا يخشى فيه أحدا. ويقول ما أعظمها مصيبة سارت بها الأنباء وطارت
(1) النبوغ المغربى 3/ 298.
(2)
النبوغ المغربى 3/ 284.