الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثّانى
المجتمع السودانى-الثقافة
1 -
المجتمع (1) السودانى
رأينا فى الفصل الماضى كيف أن الإسلام أخذ ينتشر فى السودان وشرقيه تدريجا بفضل القبائل العربية الكثيرة التى نزلت فى حوض النيل جنوبى حلفا وفى شرقيه بقبائل البجّة واستغرق ذلك قرونا دخل فيها أهل النوبة فى الدين الحنيف وقامت فى دنقلة سنة 716 هـ/1316 م أول دولة إسلامية وأخذت صلة مملكة علوة جنوبى دنقلة بالكنيسة اليعقوبية فى الإسكندرية تتضاءل وأخذ أهلها يعتنقون الإسلام، وكان انتشاره فى غربى السودان أسرع بفضل كثرة من نزله من قبيلة زوارة البربرية وعرب الشاوية رعاة الشاة وأيضا بفضل تجار البرنو والكانم، وتكونت سريعا فى دارفور وواداى مملكة إسلامية أواخر القرن الخامس الهجرى.
وأخذ الإسلام ينتشر تدريجا فى مملكة علوة وفى جبال النوبة وعلى شاطئ النيل الأبيض وفى جنوبى السوباط وبحر الغزال، ولا نصل إلى القرن العاشر الهجرى، حتى يصبح السودان بلدا إسلاميا وإن ظلت به بعض الجيوب المسيحية والوثنية، وتتأسس سنة 910 هـ/1504 م دولة الفونج الإسلامية فى مدينة سنار على النيل الأزرق وتنشر سلطانها على النيل الأبيض وعلى الجزيرة بينه وبين النيل الأزرق وعلى مملكة تقلى فى جبال النوبة.
(أ) نزعة صوفية عامة
عملت دولة الفونج على نهضة دينية واسعة، وفسحت للتصوف وطرقه فى الانتشار بأنحائها وكان أول من حاول نشره فى ديارها الشيخ تاج الدين البهارى البغدادى وكان قد تعرف عليه بعض حجاج السودان فى أثناء حجه، وأقنعه بالذهاب معه إلى سنار ونشر طريقته الصوفية بها، وكان من أتباع الطريقة القادرية لعبد القادر الجيلانى الحسينى نسبا المتوفى ببغداد
(1) انظر فى المجتمع السودانى كتاب الطبقات لود ضيف الله وتاريخ الثقافة العربية فى السودان للدكتور عبد المجيد عابدين وكتاب الثقافة العربية وأثرها فى تماسك الوحدة القومية فى السودان المعاصر للدكتور محمد فوزى مصطفى عبد الرحمن وتاريخ السودان القديم والحديث لنعوم شقير والتربية فى السودان لعبد العزيز عبد المجيد والسودان عبر القرون للدكتور مكى شبيكة ومنشورات المهدى.
سنة 561 هـ/1165 م وله كتابان مطبوعان هما سر الأسرار والغنية لطالبى الحق، وطريقته إحدى طريقتين صوفيتين سنيتين والثانية الطريقة الرفاعية للشيخ أحمد الرفاعى المتوفى سنة 578 هـ/1182 م أشاعتهما بغداد فى العالم العربى، ويقول ابن تغرى بردى عن الجيلانى إنه «أحد المشايخ الذين طنّ ذكرهم فى الشرق والغرب» .
ونزل الشيخ تاج الدين البهارى البغدادى مدينة سنار حوالى سنة 952 هـ/1545 م وأخذ يدعو للطريقة الجيلانية، وحظيت دعوته بنجاح كبير فى دولة الفونج وبخاصة فى أرض الجزيرة التى أقام بها سبع سنوات، وجاءه السودانيون من كل مكان لينظمهم فى سلك الطريقة القادرية، وأخذ العهد على كثيرين من أهمهم محمد الأمين بن عبد الصادق جد الصادقاب فى إقليم سوكى بين واد مدنى والقضارف والشيخ عجيب المانجلك جد العبدلاّب وعبد الله دفع الله العركى جد العركيين وبان النقا الضرير جد اليعقوباب ويقال إن الشيخ البهارى قلّده شعار الرياسة بعده فى دولة الفونج. وهؤلاء الأربعة سيطروا على السلطة الروحية وورّثوها أبناءهم، وارتحل الشيخ البهارى إلى تقلى وأدخل فى الطريقة عبد الله الحمال جد الشيخ حمد ولد الترابى مع جماعته. وتفرعت عن هذه الطريقة فى أواخر دولة الفونج الطريقة السمانية على يد الشيخ أحمد الطيب ود البشير المتوفى سنة 1239 هـ/1823 م. وكل هؤلاء وذرياتهم ظلوا قائمين على الطريقة القادرية ناشرين لها ومسيطرين على السلطة الروحية فى السودان إلى اليوم.
وبجانب الطريقة القادرية الصوفية عرف السودان فى دولة الفونج الطريقة الشاذلية الصوفية ويبدو أن معرفته بهذه الطريقة تسبق زمنيا قيام دولة الفونج. فقد نزله أحد أتباعها المغاربة- وهو حمد أبو دنانة زوج بنت الشيخ محمد بن سليمان الجزولى مؤلف دلائل الخيرات وداعية الطريقة الشاذلية فى المغرب منذ سنة 849 هـ/1445 م. ومعروف أن أبا الحسن الشاذلى مؤسس هذه الطريقة نزل مصر ودعا إلى طريقته وتبعه خلق كثير، وتوفى سنة 656 هـ/1258 م وظلت طريقته إحدى الطرق الصوفية السنية الأساسية فى مصر. ومن أهم دعاتها فى السودان أيام الفونج الشيخ خوجلى عبد الرحمن المحسى المتوفى سنة 1115 هـ/1743 م واشتهر بعده بالدعوة لها الشيخ حمد المجذوب المتوفى سنة 1190 هـ/1776 م وكان قد زار مصر والحجاز وأسس للشاذلية فرعا فى مدينة الدامر شمالى الخرطوم وسميت طريقته باسم طريقة المجاذيب، ومعروف أن الطريقة الشاذلية تقوم على التمسك بالكتاب والسنة والشريعة المحمدية بجانب النسك والعبادة وصدق القلب والشعور الباطنى الصوفى، وهاجم الشاذلى بشدة حياة الخانقاهات والتسول التى كان يعيشها الدراويش الرّحّل. وبجانب هاتين الطريقتين كان بعض السودانيين يأخذون طريقتهم الصوفية عن حجازيين فى أثناء حجهم أو عن مصريين فى أثناء دراستهم بالأزهر وأحيانا عن بعض أهل تمبكتو كما حدث للشيخ خوجلى عبد الرحمن الشاذلى المذكور
آنفا، وقد جمع بين التصوف وعلم الكلام والفقه، أما التصوف فأخذه عن الشيخ أحمد التمبكتاوى نسبة إلى تمبكتو على النيجر الأوسط، وأخذ علم الكلام عن الشيخ أرباب الخشن، والفقه على الشيخ الزين بن صغيرون. وكان يلبث الثياب الفاخرة، وعلى رأسه الطربوش الأحمر، ويتعمّم بالشيشان الفاخرة، ويتبخّر بالعود الهندى ويتعطّر، ويجعل الزباد الحبشى فى لحيته وثيابه، ويقول إنه يقتدى فى ذلك بشيخ طريقته أبى الحسن الشاذلى إظهارا لنعمة الله، فقيل له إن القادرية: إنما يلبسون الجبب والمرقّعات فقال: ثيابى تقول للخلق: أنا غنية عنكم، وثيابهم تقول لهم أنا مفتقرة إليكم.
وعمت فى زمن دولة الفونج (910 هـ/1504 م-1236 هـ/1820 م) النزعة الصوفية كل أنحاء السودان، وبحق ما لاحظه الدكتور عبد العزيز عبد المجيد فى كتابه:«التربية فى السودان» من أن هذه النزعة كانت تعم حينئذ الحياة الدينية فى العالم الإسلامى وإنها «سيطرت على عقائد الناس وتفكيرهم وامتزجت بالدراسات الإسلامية، وصار من العلماء من يعتقد أن علم الظاهر لا بد له من علم الباطن بل إن منهم من اعتبر أن علم الباطن هو العلم الحقيقى» ومما يدل على ذلك بوضوح ما يذكره ود ضيف الله عن الشيخ عبد الله العركى فإنه بعد أن تفقه على الشيخ عبد الرحمن بن جابر ذهب إلى غابة الهلالية وشرع فى التدريس وذاع صيته، وقدم فى أيامه الشيخ تاج الدين البهارى فحاول أن يدخله فى طريقته القادرية الصوفية، فامتنع، وحين رأى ما لأتباع الشيخ من مكانة تحركت فى نفسه الرغبة فى أن ينضم إلى الطريقة القادرية، وكان الشيخ البهارى رحل إلى مكة فسافر إليه وأخذ عنه الطريق. ومن ذلك أن نجد الشيخ المسلمى الصغير بعد أن قرأ مختصر خليل فى الفقه المالكى وتفقه فى الدين رأى أن معرفته لا تتكامل إلا إذا دخل فى طريقة صوفية فذهب إلى الشيخ دفع الله العركى وقال له:«علمى ما نفعنى، أتيتكم راغبا مددكم، فسلكه فى الطريق وأدخله خلوة سبعة أيام، وخرج منها «صوفيا» كاملا. ويذكر ود ضيف الله أيضا عن الشيخ أبى القاسم الوديانابى أنه تفقه على الشيخ صغيرون، وسلك طريق الصوفية على الشيخ إدريس. ومن ذلك ما يقوله ود ضيف الله عن الشيخ محمد البنوفرى من أنه رحل إلى مصر ليقرأ على علمائها مختصر خليل، وبعد عودته إلى السودان صحب فى التصوف الشيخ إدريس ود الأرباب. ويكثر ود ضيف الله فى طبقاته من قوله عن هذا الصوفى أو ذاك إنه جمع بين الفقه والتصوف.
ومما رفع من شأن الطرق الصوفية وأصحابها فى نظر أهل السودان وجعلهم يلتفّون حولهم التفافا لم ينله أحد من الفقهاء وعلماء الشريعة الإسلامية أنهم رأوهم لا يعملون حسابا لذوى السلطان، إذ كانوا لا يأخذون رواتب منهم، كما رأوهم يتفانون فى خدمة أتباعهم وخاصة فى أيام الضيق والعسر الشديد. ويعرض علينا ود ضيف الله فى كتابه الطبقات صورا متعددة
توضح مدى ما كان ينهض به الشيخ الصوفى لأتباعه حين تحدث مجاعة كمجاعة نجيع أم لحم سنة 1095 هـ/1684 م فإن شيوخ الصوفية فتحوا حينئذ لأتباعهم خلواتهم وقدموا لهم فيها الطعام، وكان بعضهم يظل يقدم هذا الطعام حتى فى سنوات الخصب مثل الشيخ ود حسونه، ويقول عنه ود ضيف الله، إنه كان يعنى بالفقراء (أتباع المتصوفة) فى الخلوات فيذبح لكل خلوة من خلواته شاتين فى كل يوم، وكان عدد خلواته إحدى عشرة وقيل بل ثلاث عشرة.
ورأى أهل السودان أن هؤلاء الشيوخ لا يهابون ذووى السلطان، وإذا كان لأحد منهم شيئا عند حاكم طلب إلى شيخه الصوفى أن يقضيه له ويلبى طلبه وسرعان ما يقضيه له الحاكم، ومن ذلك أن الشيخ حمد المجذوب صاحب الطريقة الشاذلية فى مدينة الدامر اشتهر بأنه كثير الشفاعة لأتباعه عند الملوك والسلاطين وكانوا لا يردون له شفاعة. وكان كثير من الحكام يهابون هؤلاء الشيوخ هيبة شديدة، وبلغ الشيخ خوجلى من الهيبة فى نفوسهم مبلغا كبيرا، حتى قيل إن أكابر العلماء والسلاطين إذا جلسوا بحضرته كانوا كالأطفال من هيبته، لذلك كانوا لا يعصون له ولأمثاله طلبا. ويذكر ود ضيف الله عن الشيخ إدريس أنه دخل سنار مقر الملك للشفاعة فى مصالح أتباعه إحدى وسبعين مرة. ويقول ود ضيف الله عن الشيخ بدر بن سليمان العوضى إن قبائل العرب فى مدينة بربر وغيرها كانت لا ترد له شفاعة وكان له كرم وضيافة للوافدين.
وهذا وجه مهم من وجوه تعلق أهل السودان بالمتصوفة، إذ كانوا يدافعون عن حقوقهم ويردون الظلم عنهم ويشفعون لهم ويغيثونهم كلما ألمت بهم كارثة ويفتحون خلواتهم لإيواء الضعفاء منهم وإطعامهم. لذلك تعلق أهل السودان بهم وأخذوا يدخلون أفواجا فى دعوة كل شيخ وطريقته وانتهاج ما تأمر به فى العبادة والتقوى. وكان يغلب أن يختار الشيخ قرية يجعلها مركزا لدعوته ويبنى فيها مسجدا وخلواته، وما يلبث أن يلتفّ به كثير من الأتباع، ويأتيه الناس من القرى المجاورة، كما حدث فى قرية العيلفون جنوبى الخرطوم فقد أسس بها الشيخ إدريس ود الأرباب مركز دعوته الصوفية، وتوافد عليه الناس من كل فجّ سودانى، وأصبحت بعد قليل بلدة كبيرة متسعة الرقعة آهلة بالسكان ممن جاءوا يأخذون عنه الطريقة القادرية. ومن ذلك ما حدث لقرية الدامر حين اتخذها الشيخ حمد المجذوب مركزا لدعوته الشاذلية، فقد وفد إليه الناس من دارفور وكردفان وجميع أنحاء السودان، ليأخذوا عنه تعاليم طريقته. وكثيرا ما يتوقف ود ضيف الله فى كتابه الطبقات ليقول لنا إن هذا الشيخ أو ذاك شدّت إليه الرجال وضربت إليه آباط الإبل. ويذكرون عن حلقة الشيخ أرباب الخشن أنها كانت تشتمل على ألف طالب من الفونج إلى البرنو غربا. وأسهم بعض المشايخ فى توسيع دائرة جماعاتهم الصوفية مثل الشيخ عبد الله الحلنقى إذ يذكر ود ضيف الله عنه أنه كان يتنقل بين «أبو حراز»