الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتوفى-كما أسلفنا-فى جهاد برغواطة الضالة فى المغرب الأقصى وقضى عليها قضاء مبرما أبو بكر، وعاد بشطر كبير من جيشه إلى قواعده بمنطقة أدرار فى موريتانيا وأخذ يعد حملاته إلى أنحاء السودان الغربى، ودان له ودخل كثيرون من أهله فى الإسلام وتحولت كثرة من جيشه، يعلمون أهل السودان الغربى شئون دينهم، ويحفظونهم القرآن الكريم.
وذلك كان فضلا عظيما لصنهاجة موريتانيا، وعاد كثيرون منهم إلى موريتانيا سوى من كانوا لا يزالون بها، وفى كل بلدة وفى كل حى من أحياء القبائل البدوية كانت الناشئة تدوّى- دوىّ النّحل-بآى القرآن الكريم، وكانوا-بعد ترتيله أو تجويده-يلتحقون ببعض العلماء، ولكن ليس فى أيدينا شئ سجلوه عن التعليم فى ديارهم، إنما تلتقط-منذ القرن السادس الهجرى-أخبار العلماء وأسماؤهم التقاطا، كأن يقال إن غزو قبائل الصوصو لعاصمة غانة: كومبى صالح سنة 600 هـ/1204 م جعل الشيخ إسماعيل وبعض علمائها يفرّون منها مع فريق من المسلمين إلى ولاته، مما أحالها مركزا تجاريا مهما وأحدث بها حركة علمية نشيطة، ولا نعود نسمع عن ولاته أخبارا، حتى إذا كانت سنة 753 هـ/1352 م زارها ابن بطوطة ونوّه بإكرام أهلها وقاضيها له، ونمضى إلى سنة 873 هـ/1468 م فيغزوسن على ملك صنغى تمبكتو ويشعل فيها النيران ويقتل خلقا كثيرا، ويرحل منها فقهاؤها إلى مدينة ولاته وفى مقدمتهم عمر بن محمد أقيت وأولاده وكلهم أصبحوا فقهاء، ولقى بها فقيهها ومحدثها الإمام الزمورى، وأجازه كتاب الشفاء للقاضى عياض السبتى المتوفى سنة 544 هـ/1149 م، وسمعه منه معه وأجازه صهره الفقيه المختار النحوى المتوفى سنة 922 هـ/1516 م. ويذكر الحفناوى فى كتابه تعريف الخلف برجال السلف فقيها من فقهائها هو عبد الله بن عمر المسوفى المولود سنة 866 هـ/1461 م والمتوفى سنة 929 هـ/1522 م ويقول إنه كان غاية فى الزهد والورع. وكان يعاصره فى مدينة وادان الفقيه محمد بن أحمد بن أبى بكر الوادانى وله شرح على مختصر خليل فى مجلدين سماه «موهوب الجليل بشرح خليل» وكان حيا سنة 933 هـ/1526 م. ويذكرون عن مؤسس مدينة تشيت فى القرن السادس الهجرى الشريف عبد المؤمن أنه كان تلميذا للقاضى عياض ولا بد أنه أسس فيها حركة علمية على عادة الفقهاء، غير أنه ليس بين أيدينا شئ عنها وكذلك عن مثيلاتها فى شنقيط وغيرها من مدن موريتانيا فى القرن العاشر الهجرى وما قبله من القرون.
(ب) التعليم والطلاب والشيوخ
الأخبار عن الحركة العلمية فى موريتانيا إنما تأخذ فى النمو منذ القرن العاشر الهجرى حين تم تعربها بفضل قبائل المعقل العربية: حسان وغيرها، ويسوق الشنقيطى فى كتابه تراجم أدباء شنقيط وكذلك الدكتور محمد المختار ولد إبّاه فى كتاباته أخبارا مختلفة عن تلك الحركة،
فمن ذلك أنهم كانوا يختبرون الصبى إذا بلغ خمس سنوات من عمره فى حفظ الأعداد الأولى من واحد إلى عشرة فإذا تعلمها وذكرها سريعا أخذوا فى تعليمه الحروف الأبجدية ثم يعلمونه الحركات: الضمة أو الرفع والفتحة أو النصب والكسرة أو الجر، ثم يحفظونه القرآن الكريم، ويذكر الشنقيطى أن كثرة معلمى الصبية فى هذه الدورة كنّ من النساء، مما يدل على أن النساء فى موريتانيا كن يتعلمن حتى يصبحن صالحات لتعليم الصبية. ويقول الحسن الوزان فى حديثه عن مدينة تشيت إن «النساء هن اللائى يتعلمن ويقمن بدور معلمات المدرسة للفتيات والفتيان» وبعد حفظ الصبى القرآن وتعليمه الكتابة يبدأ فى الالتحاق بشيخ ليتعلم على يديه بعض العلوم. والبيئات تختلف فى نوع العلوم التى يبدأ الصبى بتعلمها فى سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، بعد حفظ القرآن فأهل منطقتى آدرار وتكانت ومن حذا حذوهما يبدءون بتعليم الفقه على مذهب الإمام مالك فى متن مختصر لعبد الرحمن الأخضرى الجزائرى ومنظومة لابن عاشر فى الفقه ثم ينقلونه إلى دراسة رسالة ابن أبى زيد رئيس المالكية فى القيروان والبلاد المغربية، ثم يدرس مختصر خليل بن إسحاق المالكى المصرى وبعض شروحه. وبلدان أخرى يبدأ فيها الناشئ بدراسة بعض دواوين العرب والعقائد الأشعرية وتآليف السنوسى الجزائرى فى علم التوحيد ثم يقرءونه الفقه والنحو. وبلدان تبدأ بتعليم علوم البلاغة والمنطق.
ولم تكن هناك حكومة أو جهات تنفق على الطلبة والعلماء، وكان الطلبة يؤمون-فى أحيان كثيرة-علماء بعيدين عن أوطانهم، فكيف يتعيش الطالب الموريتانى إذن، يقول الشنقيطى إن أكثر الطلاب يأخذ الواحد منهم بقرة حلوبا أو بقرتين وربما ثلاثا، وإذا كان الشيخ صاحب إبل أخذ الطالب ناقة أو ناقتين وربما ثلاثا، ويتجمع الطلاب ساعة الحلب ويتناول كل منهم ما يكفيه من اللبن. ويتناوبون رعى بقرهم ونوقهم، ويأخذ راعيها معه كتابه أو لوحه، ويقرأ فى الكتاب أو يحفظ ما فى اللوح، وبالمثل يتناوبون سقى نوقهم أو بقرهم. ومع هذه المشقة كان طلاب موريتانيا يقبلون على دروس العلماء الكبار. وكان العلماء-مثل الطلاب-لا ينفق عليهم أحد ما يستعينون به فى حياتهم ومعيشتهم، ولم يكن أحد من الطلاب يعطيهم شيئا نظير تعلمه، بل على العكس كانوا يعطون المحتاجين من الطلاب بعض ما ينفقونه. ولم يكن فى موريتانيا مدارس بالمعنى المعروف إنما كان فيها محاظر منتشرة فى مدنها ومراعيها من ضفاف نهر السنغال إلى الساقية الحمراء غربا وفى الحوض جنوبا وفى الصحارى الشرقية حيث ترى شيخا بدويا كسائر البدو متقشفا فى ملبسه بالمراعى وبالمثل فى المدن، وترى أمام بيته أو خيمته طائفة من الشبان كثيرة أو قليلة تسكن تحت الشجر أو تحت عريش من الخشب، ومنذ الضحى يلتفون حول الشيخ، وقد يدعوهم إلى بيته أو يلتقى بهم فى مسجد، وقد يلقى الدرس جالسا أو قائما، وقد يلقيه خارج بيته والمسجد ماشيا، وقد