الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[غلط المتأخرين في تفسير البينة]
وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص، ونذكر من ذلك مثالًا واحدًا، وهو ما نحن فيه [من](1) لفظ البينة، فإنها في كتاب اللَّه اسم لكل ما يبيِّن الحقَّ؛ كما قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ [وَالزُّبُرِ]} (1)[النحل: 43، 44]، وقال:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4]، وقال:{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57]، وقال:{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] وقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} [فاطر: 40] وقال: {بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133].
وهذا كثير [في القرآن](2)، لم يختص لفظ البينة بالشاهدين، [بل](3) ولا استعمل في الكتاب فيهما ألبتة (4)، إذا عرف هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم للمدَّعي:"ألك بينة"(5) وقول عمر: "البينة على المدعي"، وإن كان هذا قد روي مرفوعًا (6) المراد
(1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن).
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(4)
في (ق) و (ك): "فيه ألبتة".
(5)
ورد هذا في أكثر من حديث: منها حديث عبد اللَّه بن مسعود، أخرجه: أحمد (1/ 379 و 426 و 5/ 211)، والبخاري في (الخصومات) باب كلام الخصوم بعضهم في بعض (2416 و 2417)، وفي (الشهادات): باب سؤال الحاكم المدعي هل لك ببينة؟ (2666 و 2667)، وأبو داود في (الأيمان والنذور): باب فيمن حلف يمينًا ليقتطع بها مالًا لأحد (3243)، والترمذي في (البيوع): باب ما جاء في اليمين الفاجرة يقتطع بها مال المسلم (1269)، وابن ماجه في (الأحكام): باب من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالًا (2323)، والبيهقي (10/ 179 - 180).
وحديث وائل بن حُجْر، أخرجه مسلم (139) في (الأيمان): باب وعيد من اقتطع من مسلم بيمين فاجرة، وأبو داود (3245) في (الأيمان والنذور): باب فيمن حلف يمينًا ليقتطع بها مالًا لأحد، و (3623) في (الأقضية): باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه، والترمذي (1340) في (الأحكام): باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.
(6)
هو جزء من رسالة عمر لأبي موسى في القضاء التي تقدمت، ورواه الدارقطني (4/ 218) من طريق شريح عن عمر، وفي إسناده عبد العزيز بن عبد الرحمن الجزري قال النسائي: ليس ثقة، وقال ابن حبان: لا يحل الاخجاج به، وحَمَل أحمد على حديثه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقد ورد مرفوعًا من حديث ابن عباس، وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، ومن حديث ابن عمر.
* أما حديث ابن عباس، فقد رواه البيهقي (10/ 252) من طريق الفريابي، عن سفيان، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، والفريابي هو: محمد بن يوسف، من الثقات؛ إلا أنه ربما أخطأ في حديث سفيان، فقد رواه أصحاب نافع بن عمر بلفظ "اليمين على المُدَّعى عليه"، أخرجه البخاري (2514 و 2668)، ومسلم (1711)(2)، وأبو داود (3619)، والترمذي (1342)، والنسائي (8/ 248)، وغيرهم.
مما يدل على وجود خطأ لا محالة، إما من الفريابي وإما من سفيان.
ولفظ الحديث: "البينة على المدعي" له طريق آخر عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، فقد رواه البيهقي (10/ 252) من طريق الحسن بن سهل، حدثنا عبد اللَّه بن إدريس، حدثنا ابن جريج، وعثمان بن الأسود عنه به، وهو عند الطبراني في "الكبير"(11225) مختصر، ورجاله ثقات إلا الحسن بن سهل فقد ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. وقد روى عنه أبو زرعة، وأبو زرعة متشدِّد، لكن أصحاب ابن جريج رووه أيضًا بلفظ:"اليمين على المُدَّعى عليه"، أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711 بعد 1)، وعبد الرزاق (15193)، والطبراني (11224)، والدارقطني (4/ 157)، وابن حبان (5082 و 5083)، وغيرهم.
لكن حسَّن إسناده الحافظ في "الفتح"(5/ 283).
ورواه الشافعي في "مسنده"(2/ 181) من طريق مسلم بن خالد، عن ابن جريج به، قال:"البينة على المُدعي" -أحسبه قال ولا أثبته- إنه قال: "واليمين على المدعى عليه"، ومسلم بن خالد هذا هو الزنجي ضعيف، وقد اضطرب فيه كما يأتي.
* وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فله عنه طرق:
فقد رواه الترمذي (1341) في الأحكام: باب ما جاء في أن البيّنة على المدَّعي واليمين على المدعى عليه من طريق محمد بن عبيد اللَّه العرزمي وقال: "هذا حديث في إسناده مقال، ومحمد بن عبيد اللَّه العرزمي يضعف في الحديث. . ." قلت: بل أمره أشد.
ورواه الدارقطني (4/ 157 و 218) والبيهقي (10/ 256) من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو به والحجاج مدلس، وقالوا:"إنَّ أحاديث عمرو أخذها عن العرزمي ودلسها" ورواه البيهقي (10/ 256) من طريق المثنى عن عمرو به والمثنى ضعيف.
ورواه الدارقطني (3/ 111 و 4/ 218) والبيهقي (8/ 123) وابن عدي (6/ 2312) من طريق مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب به ومسلم ضعيف، وقد اضطرب فيه فقد جعله من قبل من مسند ابن عباس وهنا من مسند ابن عمرو، وجعله أيضًا من مسند أبي هريرة، رواه الدارقطني (3/ 110 و 4/ 218) وابن عدي (6/ 2312).
* حديث ابن عمر، رواه ابن حبان (5996) مطولًا جدًّا، والدارقطني (4/ 218 - 219) =
به: كلُّ (1) ما يُبيّن الحق من شهود أو دلالة، فإنَّ الشارع في جميع المواضع يقصد ظهورَ الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يردُ حقًا قد ظهر بدليله أبدًا فيضيع حقوقَ اللَّه وعباده ويعطِّلها، ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مُسَاواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحًا (2) لا يمكن جَحْده ودفعه، كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد، في صورة مَنْ على رأسه عمامة وبيده عمامة وآخر خَلْفه مكشوف الرأس يعدو أثره، ولا عادة له بكشف رأسه، فبيِّنة الحال ودلالته هنا تُفيد من ظهور صدق المُدّعي أَضْعَاف ما يفيده مجرد اليد عند كل أحد، فالشارعُ لا يُهْمل مثل هذه البيِّنة والدلالة، ويضيّع حقًا يعلم كل أحد ظهوره وحجته، بل لمَّا ظنَّ هذا من ظَنَّه ضيَّعوا طريق الحكم (3)، فضاع كثير من الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين، وصار الظالم الفاجر ممكَّنًا من ظلمه وفجوره، [فيفعل ما يريد](4)، ويقول: لا يقوم عليَّ بذلك شاهدان اثنان، فضاعت حقوقٌ كثيرةٌ للَّه ولعباده، فحينئذٍ (5) أخرج اللَّه أمر هذا الحكم العام (6) من أيديهم، وأدخل (7) فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويَضِيعُ به أخرى، ويحصلُ به العدوان تارة والعدل (8) أخرى، ولو عَرفَ ما جاء به الرسول على وجهه لكان فيه تمام المصلحة المُغْنية عن التفريط والعدوان (9).
= بلفظ: "المُدَّعى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم بينة"، ورجاله ثقات إلا سنان بن الحارث، فقد أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" ولم يذكر فيه شيئًا، وقد روى عنه ثلاثة من الثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وانظر "إرواء الغليل"(8/ 266).
وقال الترمذي رحمه الله: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أن البينة على المُدَّعي واليمين على المدعى عليه"، وانظر "الطرق الحكمية" بتحقيقي.
(1)
في المطبوع: "ألك".
(2)
في (ق): "ترجحًا".
(3)
في (ن) و (ق): "ضيقوا طريق الحق".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن).
(5)
في المطبوع: "حينئذٍ" وفي (ق): "وحين".
(6)
في المطبوع: "أخرج اللَّه أمر الحكم العلمي" وفي (ق): "أخرج اللَّه هذا الحكم العام عن أيديهم".
(7)
في (ق): "دخل".
(8)
في (ن) و (ك): "والعدول".
(9)
قلت: انظر "الطرق الحكمية"(ص 5 - وما بعدها) لابن القيم، و"مجموع الفتاوى"(20/ 388 - 390 و 34/ 238 و 35/ 392 - 395) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.