الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا قوله (1): {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6].
ومن هذا قياس المشركين الربا على البيع بمجرد الشبه الصوري، ومنه قياسهم الميتة على الذَّكيّ في إباحة الأكل بمجرد الشبه.
وبالجملة فلم يجئ هذا القياس في القرآن إلا مردودًا مذمومًا، ومن ذلك قوله [تعالى] (2):{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 194، 195]، فبين سبحانه (3) أن هذه الأصنام أشباح وصور خالية عن صفات الإلهية، وأن المعنى المعتبر معدوم فيها، وأنها لو دعيت لم تجب؛ فهي صور خالية عن أوصاف ومعان تقتضي عبادتها، وزاد هذا تقريرًا بقوله:{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]، أي أن جميع ما لهذه (4) الأصنام من الأعضاء التي نحَتتْها أيديكم إنما هي صور عاطلة عن حقائقها وصفاتها؛ لأن المعنى المراد المختص بالرِّجلِ هو مَشْيُها، وهو معدوم في هذه الرجل؛ والمعنى المختص باليد هو بطشها وهو معدوم في هذه اليد؛ والمراد بالعين إبصارها وهو معدوم في هذه العين؛ ومن الأُذن سَمْعُها وهو معدوم فيها، والصور في ذلك كله ثابتة موجودة، وكلها فارغة خالية عن الأوصاف والمعاني، فاستوى وجودها وعدمها، وهذا كله مدحض لقياس الشبه الخالي عن العلة المؤثرة والوصف المُقْتضي للحكم، واللَّه أعلم (5).
فصل [ضرب الأمثال في القرآن والحكمة فيه]
ومن هذا ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون؛ فإنها تشبيه شيء بشيء في حكمه (6)، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر، كقوله تعالى في حق المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ
(1) في (ق) بعدها: "تعالى".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
في (ق): "تعالى".
(4)
في (ق) و (ك): "جميع مثال هذه".
(5)
انظر: "الصواعق المرسلة"(3/ 915).
(6)
في (ك): "حكمته".
ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)[صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}][البقرة: 17، 18](1) إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: 20]، فضرب للمنافقين بحسب حالهم مَثَلين: مثلًا ناريًا، ومثلًا مائيًا، لما في النار والماء من الإضاءة (2) والإشراق والحياة؛ فإن النار مادة النور، والماء مادة الحياة، وقد جعل اللَّه الوحي الذي أنزله (3) من السماء متضمنًا لحياة القلوب واستنارتها، ولهذا سماه روحًا ونورًا، وجعل قَابِلِيه أحياءَ في النور، ومن لم يرفع به رأسًا أمواتًا في الظلمات، وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي أنهم (4) بمنزلة من استوقد نارًا لتضيء له وينتفع بها، وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاؤا به، وانتفعوا به، وآمنوا به، وخالطوا المسلمين (5)، ولكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفئ عنهم، وذهب اللَّه بنورهم، ولم يقل بنارهم؛ فإن النار فيها الإضاءة والإحراق، فذهب اللَّه بما فيها من الإضاءة، وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فهذا حال من أبصر ثم عَمي، وعَرف ثم أنكر، ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه، فهو لا يرجع إليه؛ ولهذا قال:{فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي (6)، فشبههم بأصحاب صَيِّب -وهو المطر الذي يَصوب، أي؛ ينزل من السماء- فيه (7) ظلمات ورعد وبرق، فلضعف بصائرهم (8)، وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق، فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق، فلضعفه وخوره جعل أصبعيه في أذنيه، وغمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه (9).
(1) "وتمام الآيات: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (ط)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(2)
في (ن): "من الإحياء".
(3)
في (ق): "أنزل".
(4)
في المطبوع: "وأنهم".
(5)
في (ق) و (ن): "وخالفوا المسلمين". وقال في هامش (ق): "لعله: وخالطوا" وقوله: "آمنوا به" سقطت من (ك) و (ق).
(6)
في (ك): "الثاني".
(7)
في (ق): "وفيه".
(8)
في (ق) و (ك): "أبصارهم".
(9)
انظر كلام ابن القيم رحمه الله حول تفسير هذه الآيات بتوسع أكثر من هذا في كتابه الفذ: "اجتماع الجيوش الإسلامية"(ص 12 - 16، الطبعة الهندية)، و"الوابل الصيب"(ص 68 - 72 تحقيق الأرناؤوط)، و"شفاء العليل"(ص 96).