الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [تشرع اليمين من جهة أقوى المتداعيين]
والذي جاءت به الشريعة أن اليمين تُشرع من جهة أقوى المتداعيين، فأي الخصمين تَرجَّح جانبه جُعلت اليمين من جهته، وهذا مذهب الجمهور كأهل المدينة وفقهاء الحديث كالإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم (1)؛ وأما أهل العراق فلا يحلِّفون إلا المُدَّعى عليه وحده، فلا يجعلون اليمين إلا من جانبه فقط، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، والجمهور يقولون: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالشاهد واليمين (2)، وثبت عنه أنه عرض الأَيْمان في القسامة على المدَّعِين أولًا، فلما أبَوْا جعلها من جانب المُدَّعى عليهم (3)، وقد جعل اللَّه [سبحانه](4) أيمان اللعان من جانب الزوج أولًا، فإذا نكَلَتِ المرأة عن معارضة (5) أَيْمانه بأَيْمانها وجب عليها العذاب بالحد، وهو العذاب المذكور في قوله:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] فإن المُدَّعي لما ترجَّح جانبه بالشاهد الواحد شُرعت اليمين من جهته، وكذلك أولياء الدَّم ترجَّحَ جانبهم باللَّوث فشُرعت اليمين من جهتهم وأُكِّدت بالعدد تعظيمًا لخطر النفس، وكذلك الزوج في اللعان جانبه أرجح (6) من جانب المرأة قطعًا، فإن إقدامه على إتلاف فراشه،
(1) انظر: "تهذيب السنن"(6/ 321 - 322، 325)، و"زاد المعاد"(3/ 200 - 201)، و"الطرق الحكمية" (ص: 71، 155، 127)، و"الروح"(ص 16)، وانظر:"أحكام الجناية"(388 - 395) للشيخ الفاضل بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-.
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
أخرجه البخاري (3173) في (الجزية والموادعة): باب الموادعة والمصالحة مع المشركين، و (6143) في (الأدب): باب إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال، و (6898) في (الديات): باب القسامة، و (7192) في (الأحكام)، باب كتاب الحاكم إلى عماله، ومسلم (1669) في (القسامة) أوله، من حديث سَهْل بن أبي حَثْمة، ورافع بن خديج.
وانظر: "تهذيب السنن"(6/ 325 - 326)، و"زاد المعاد"(3/ 201)، و"الطرق الحكمية"(ص 4، 10، 95، 155)، و"إغاثة اللهفان"(2/ 119)، و"بدائع الفوائد"(3/ 118)، و"الروح"(ص 16)، و"أحكام الجناية"(ص 363 - 376).
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
في (ق): "معارضته عن" وفي (ك): "معارضته".
(6)
في (ن): "أقوى".
ورميها بالفاحشة على رؤوس الأشهاد، وتعريض نفسه لعقوبة الدنيا والآخرة، وفضيحة أهله ونفسه على رؤوس الأشهاد، مما تاباه طباع العقلاء، وتَنفِرُ عنه (1) نفوسهم، لولا أن الزوجة اضْطَرَّتْهُ بما رآه وتيَّقنه (2) منها إلى ذلك، فجانبه أقوى من جانب المرأة قطعًا، فشُرعت اليمين من جانبه، ولهذا كان [الصواب](3) القتل في القَسَامة واللِّعان وهو قول أهل المدينة، فأما فقهاء (4) العراق فلا يقتلون لا بهذا ولا بهذا، وأحمد يقتل بالقسامة دون اللعان، والشافعي يقتل باللعان دون القسامة (5)، وليس في شيء من هذا ما يعارض الحديث الصحيح، وهو قوله [صلى الله عليه وسلم] (6):"لو يُعطَى الناسُ بدَعْوَاهم لادَّعَى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالَهم، ولكن اليمين على المُدَّعى عليه"(7) فإن هذا إذا لم يكن مع المُدَّعي إلا مجرد الدعوى، فإنه لا يُقضى له بمجرد الدعوى، فأما إذا ترجَّحَ جانبه بشاهد أو لَوْثٍ أو غيره لم يقض له بمجرد دَعْوَاه، بل بالشاهد المجتمع من ترجُّح (8) جانبه ومن اليمين، وقد حكم سُليمان بن داود عليه السلام لإحدى المرأتين بالولد لترجُّحِ (9) جانبها بالشفقة على الولد وإيثارها لحياته ورضى الأخرى بقتله، ولم يَلتفت إلى إقرارها للأخرى به، وقولها:"هو ابنها"(10)، ولهذا كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث: "التَّوْسِعَة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله: [أفعل ليستبين الحق](11)
(1) في (ك): "منه".
(2)
في (ق): "بما رآه وعلمه" وفي (ك): "بما رآه وقيعة".
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(4)
في (ق): "أهل".
(5)
انظر كلام المؤلف رحمه الله في "الطرق الحكمية"(ص 10).
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(7)
أخرجه البخاري في "الصحيح"(كتاب الرهن): باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه (رقم 2514)، و (كتاب الشهادات)، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود (رقم 2668)، و (كتاب التفسير)، باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (رقم 4552)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأقضية): باب اليمين على المدعى عليه (رقم 1711).
(8)
في المطبوع و (ن): "ترجيح".
(9)
في (ن): "لما ترجح".
(10)
سبق تخريجه قريبًا.
(11)
في (و): "أفعل كذا ليستبين به الحق"، وعلّق قائلًا: هذه ترجمة أبي عبد الرحمن النسائي في "سننه"، وزيادة كلمة (كذا) من "الطرق الحكمية" للمؤلف اهـ.
وفي (د) و (ط) و (ح): "أفعل ليستبين به الحق". =
ثم ترجم [عليه](1) ترجمة أخرى أحسن من هذه وأفقه فقال: "الحكم بخلاف ما يَعْترف به المحكوم [عليه] (2) إذا تبيّن للحاكم أن الحقَّ غير ما اعترف به"(3) فهكذا يكون فهم الأئمة من النصوص واستنباط الأحكام التي تشهد العقول والفِطَرُ بها [منها](4)، ولعمر اللَّه: إنّ هذا هو العلم (5) النافع لا خَرْصُ الآراء وتخمين الظنون (6).
فإن قيل: ففي القسامة يُقبل مجرد أَيمان المُدَّعين، ولا تُجعل أَيمان المُدَّعى (7) عليهم بعد أيمانهم دافعة للقتل، وفي اللعان ليس كذلك، بل إذا حلف الزوج مُكِّنَتِ المرأة أن تدفع عن نقسها بأيمانها، ولا تُقتل بمجرد أيمان الزوج، فما الفرق؟
قيل: هذا من كمال الشريعة وتمام عَدْلها [ومحاسنها](8)؛ فإن المحلوف عليه في القَسَامة [حقٌّ](8) لآدمي، وهو استحقاق الدم، وقد جُعلت الأيمان المكررة بيِّنة تامة مع اللَّوْث، فإذا قامت البينة لم يُلتفت إلى أَيمان المُدَّعى عليه (9)، وفي اللعان المحلوف عليه حقٌّ للَّه وهو حد الزنا، ولم يشهد به أربعة شهود، وإنما جُعل الزوج (10) أن يحلف أيمانًا مكررةً مؤكدةً باللعنة أنها جَنَت على فراشه وأفسدته، فليس له شاهد إلا نفسه، وهي شهادة ضعيفة، فمكنت المرأة أن تعارضها بأيمان مكررة [مثلها](8)، فإذا نكلَتْ [ولم تُعارضها](8) صارت أيمان الزوج [مع نكولها](8) بينة قوية [لا معارض لها](8)؛ ولهذا كانت الأيمان أربعة لتقوم مقام الشهود الأربعة، وأُكِّدت بالخامسة هي (11) الدعاء على نفسه [باللعنة](8)
= قلت: وكل هذه فيها زيادات، والصواب ما أثبتناه، كما في "سنن النسائي"(8/ 236)، وفيها بدل كلمة "التوسعة":"السعة"، ووقع في (ق) و (ك):"أفعل ليتبين له الحق".
(1)
ما بين المعقوفتين من (ن) و (و)، وعلّق (و) قائلًا:"يعني: النسائي، وإن كان لم يسبق ذكره" اهـ.
(2)
كذا في (و)، ولعله الصواب -واللَّه أعلم-، وفي (ق) و (ك)، وباقي النسخ و"الكشاف على تحفة الأشراف"(14/ 379) معزوًا لـ"السنن الكبرى" للنسائي "له".
(3)
قال (و): "ترجم عليه أخرى، فقال: نقض الحاكم ما حكم به غيره ممن هو مثله، أو أجل منه، وفيه قاعدة أخرى: "الحكم بالقرائن وشواهد الأحوال".
قلت: انظر: "المجتبى"(8/ 234 فما بعدها) للنسائي.
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن).
(5)
كذا في (ق)، وفي غيرها:"العمل".
(6)
انظر "الطرق الحكمية"(ص 3).
(7)
في (ن): "ولا يجعل المدعى".
(8)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن).
(9)
في (ك) و (ق): "عليهم".
(10)
في (ق): "للزوج".
(11)
في (ق): "وهي".