الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفهمت من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] إرادة النَّهي عن جميع أنواع الأذى بالقول والفِعل، وإنْ لم تَرِد (1) نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى، فلو بَصَقَ رجل في وَجْه وَالديه وضَرَبهما بالنعل (2)، وقال: إني لم أقل لهما: أُفٍّ، لَعَدَّهُ الناس في غاية السَّخافة والحماقة والجهل من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه، وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره، ومَنْعُ هذا مكابرةٌ للعقل والفهم والفطرة، فمَنْ عَرف مراد المتكلِّم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تُقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يُستدلُّ بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده، ووضَحَ بأيِّ طريق كان؛ عُمِلَ بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو إيماء أو دلالة عقلية، أو قرينة حاليَّة، أو عادة [له](3) مطّردة لا يُخِلُّ بها، أو مِنْ مُقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته (4)، وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله [وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثلة ونظيره](5) ومشبهه، فيقطع العارفُ به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا، ويحبُّ هذا [ويبغض هذا](3)، وأنت تجد من له اعتناءٌ شديد بمذهب رجل [وأفتى له](6) كيف يفهم مراده من تصرفه ومذهبه (7)؟ ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا، ويقوله، وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه، لما لا يجد في كلامه صريحًا، وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة.
[العبرة بإرادة المتكلم لا بلفظه]
وهذا [أمر](3) يَعُمُّ أهلَ الحقِّ والباطلِ، لا يمكن دفعه؛ [فاللفظ الخاص قد ينتقل](8) إلى معنى العموم بالإرادة، [والعام قد ينتقل إلى معنى الخصوص بالإرادة](9)، فإذا دُعي إلى غَداء فقال: واللَّه لا أتغدَّى، أو قيل له:"نَمْ" فقال:
(1) في (ق): "يرد".
(2)
قال (د): "في نسخة: وضربهما بالفعل"، وكذا (ط): وزاد: انظر: "إعلام الموقعين" طبعة: فرج اللَّه زكي الكردي (1/ 263). أهـ.
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(4)
في (ق): "المصلحة".
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(6)
في المطبوع: "وأقواله".
(7)
في طبعة الجيل و (ك): "ومذاهبه"، ووقع في (ق) بعده:"أنه يفتي بكذا أو يقوله".
(8)
بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "باللفظ الخاص وقد ينقل".
(9)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، ووقع في (ق) بعدها:"وقال" بدل "فقال".
واللَّه لا أنام، أو:"اشرب هذا الماء" فقال: واللَّه لا أشرب، فهذه كلها ألفاظ عامة نُقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يَقْطع السامعُ عند سماعها بأنه لم يُرِد النَّفيَ العام إلى آخر العمر (1)، والألفاظ ليست تَعَبُّديَّة (2)، والعارفُ يقول: ماذا أراد، واللفظي يقول: ماذا قال، كما كان [يقول] الذين لا يفهمون (3) إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: ماذا قال آنفًا؛ وقد أنكر اللَّه سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]؛ فذمَّ من لم يفقه كلامه، والفقه أخص من الفهم؛ وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وَضْعِ اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت (4) مراتبهم في الفقه والعلم.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون على إذن الرب تعالى وإباحته بإقراره، وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي، وهذا استدلال على المراد بغير لفظ، بل بما عرف من مُوجب أسمائه وصفاته، وأنه لا يُقرُّ على باطل حتى يبينه، وكذلك استدلال الصِّدِّيقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عَرَفته من حكمة (5) الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته، أنه لا يُخْزي محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإنه (6) يصلُ الرَّحم، ويحملُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضَّيف، ويُعين على نوائب الحق (7)، وأَنَّ مَنْ كان بهذه المثابة فإنَّ العزيزَ الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإلهُ العالمين لا يُخزيه، ولا يُسَلِّط عليه الشَّيطانَ، وهذا استدلال منها قبل ثبوت النبوة والرسالة، بل استدلال على صحتها وثبوتها في حقِّ مَنْ هذا شأنه؛ فهذا معرفة منها بِمُرادِ الرب تعالى وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المُحْسنَ (8) بإحسانه، وأنه لا يُضيع أَجر المحسنين، وقد كانت الصحابةُ أَفْهَمَ الأمة لمراد نبيّها وأتْبَعَ
(1) انظر: "إغاثة اللهفان"(1/ 377)، في (ق):"واللَّه لا أنام أو أشرب".
(2)
في (ق): "تعمدته" وفي الهامش: "بعمده".
(3)
في المطبوع: "لا يفقهون"، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(4)
في (ق): "تفاوت".
(5)
في (ق): "حكم".
(6)
في (ق): "بأنه".
(7)
وردت هذه الألفاظ على لسان خديجة في حديث رواه البخاري (3) في (بدء الوحي)، و (4953) في (تفسير سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ})، و (6982) في (التعبير): باب أول من بُديء به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، ومسلم (160) في (الإيمان): باب بدء الوحي برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، من حديث عائشة.
(8)
في (ق): "للمحسن".