الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
له، وإنما وكانوا يُدَنْدِنُونَ حول معرفة مراده ومقصوده، ولم يكن أحد منهم يظهر له مُرَادُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم يَعْدِلُ عنه إلى غيره ألبتة.
[بم يعرف مراد المتكلم
؟]
والعلمُ بمراد المتكلم يُعرفُ تارةً من عموم لفظه، وتارةً من عموم علَّته، والحوالة على الأول أوضَحُ لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضَحُ لأرباب المعاني والفهم والتدبر.
[أغلاط أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني]
وقد يعرض لكلٍّ من الفريقين ما يُخِلُّ بمعرفة مراد المتكلِّم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصيرُ بها عن (1) عمومها، وهضْمُها تارة، وتحميلها فوقَ ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربعُ آفاتٍ هي منشأ غلط الفريقين.
ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره، فنقول:
[بعض الأغلاط التي وقع فيها أهل الألفاظ وأهل المعاني]
قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]؛ فلفظ الخمر عام في كل مُسكر، فإخراج بعض الأشربة المُسكرة عن شمول اسم الخمر لها تقصيرٌ به وهضمٌ لعمومه، بل الحق ما قاله صاحب الشرع:"كل مسكر خمر"(2)، وإخراجُ بعضِ أنواع الميسر عن شمول اسمه لها تقصير أيضًا به، وهضم لمعناه (3) فما الذي جعل النردَ الخالي عن (4) العِوَضِ من الميسر وأخرج الشطْرَنْجَ عنه، مع أنها من أظهر أنواع الميسر؟ كما قال غير واحد من السلف: إنه مَيْسِر (5). وقال
(1) في (ق): "من".
(2)
أخرجه بهذا اللفظ مسلم (2002): (كتاب الأشربة): باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام عن جابر، و (2003) عن ابن عمر، وهو في "الصحيحين" عن عائشة، انظر تعليقي على "الموافقات"(2/ 522) للشاطبي.
(3)
انظر: "تهذيب السنن"(5/ 262 - 264)، و"الحدود والتعزيرات"(ص 256 - 262).
(4)
في (ن): "من".
(5)
انظر: "الفروسية"(ص 307 - 311 - بتحقيقي).
عليُّ [رضي الله عنه]: هو مَيْسر المعجم (1).
وأما تحميلُ اللفظ فوق ما يحتمله؛ فكما حُمّل لفظ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقوله في آية البقرة:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] مسألة العينة (2) التي هي ربًا بحيلة، وجعلها من التجارة، ولَعَمْرُ اللَّه إنَّ الربا الصريح تجارةٌ للمُرابي وأيُّ تجارة (3)، وكما حُمِّل قوله تعالى:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230][على](4) مسألة التحليل، وجعل التيس المستعار الملعون على لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم داخلًا في اسم الزوج (5)، وهذا في التجاوز يقابل الأول في التقصير.
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 212)، و"الآداب"(ص 416 - 417) من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عنه، وقال: هذا مرسل، ولكن له شاهد.
ثم ذكر قول علي: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون. . . وغيره.
وانظر "تحريم النرد والشطرنج" للآجري (ص 132 و 133) و"الفروسية"(ص 310 - بتحقيقي)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(2)
"هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم لأجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به"(و).
(3)
انظر: "إغاثة اللهفان"(1/ 340 - 353، 363)، و"تهذيب سنن أبي داود"(5/ 99 - 109)، ففيه بيان صورها، ومناقشة الخلاف وأدلته، وبيان معناها لغة (ص 108)، وانظره -أيضًا- (5/ 148 - 149)، و"بدائع الفوائد"(4/ 84)، و"الوابل الصيب"(ص 14)، و"الفروسية"(ص 100 - بتحقيقي)، ووقع في (ق):"للمربي".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
ورد من حديث جمع من الصحابة، منهم:
أولًا: حديث ابن مسعود، وله عنه طرق:
الأولى: هزيل بن شرحبيل عنه، أخرجه من طريقه أحمد (1/ 448، 462)، والترمذي في (النكاح) (1120): باب ما جاء في المحلل والمحلل له، والنسائي (6/ 149) في (الطلاق): باب حلال المطلقة ثلاثًا، وما فيه من التغليظ، والدارمي (2/ 158)، وابن أبي شيبة (3/ 392)، وأبو يعلى (5350)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 208)، و"المعرفة"(5/ 346).
وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 170):"صححه ابن القطان، وابن دقيق العيد على شرط البخاري".
وانظر -غير مأمور-: "بيان الوهم والإيهام"(4/ 442)، و"الاقتراح"(207) لابن دقيق العيد، و"تحفة المحتاج"(2/ 372) لابن الملقن. =
ولهذا كان معرفةُ حدود ما أنزل اللَّه على رسوله أصل العلم وقاعدته وآخِيَّته التي يرجع إليها، فلا يخرج شيئًا من معاني ألفاظه عنها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بل يُعطيها حقَّها، ويفهم المراد منها.
= الثانية: أبو واصل، رواه أحمد (1/ 450 - 451)، وأبو يعلى (5054)، والبغوي (2293)، وأبو واصل هذا مجهول؛ كما في "تعجيل المنفعة"(ص 527).
الثالثة: الحارث عن ابن مسعود، رواه عبد الرزاق (6/ رقم 10793)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"؛ كما في "التلخيص الحبير"، والحارث هذا هو الأعور وهو ضعيف، والحديث عنه عن علي، كما سيأتي.
قال الذهبي في "الكبائر"(ص 213 - بتحقيقي) بعد أن أورده عن ابن مسعود: "جاء ذلك من وجهين جيدين عنه صلى الله عليه وسلم".
ثانيًا: حديث علي رضي الله عنه، رواه عبد الرزاق (6/ رقم 10790)، والنسائي في رواية ابن حيوية -كما في "تحفة الأشراف"(7/ 18)، وأبو داود (2076)، في (النكاح): باب التحليل، والترمذي (1119) في (النكاح): باب ما جاء في المحلل والمحلل له، وابن ماجه (1935) في (النكاح): باب المحلل والمحلل له؛ والبيهقي (7/ 208)، وأحمد (1/ 83 و 87 و 107 و 121، 133، 150، 158 - 159)، وأبو يعلى (402) من طريق الشعبي عن الحارث عن علي، والحارث ضعيف، وأعله الترمذي.
ثالثًا: حديث ابن عباس، رواه ابن ماجه (1934) في (النكاح): باب المحلل والمحلل له، وأعله البوصيري في "مصباح الزجاجة" بـ "زمعة بن صالح".
رابعًا: حديث جابر، رواه الترمذي في (النكاح):(1119) باب ما جاء في المحلل والمحلل له، وأعله الترمذي، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1073).
خامسًا: حديث عقبة بن عامر، رواه ابن ماجه (1936) في (النكاح): باب المحلل والمحلل له، والطبراني (17/ 825)، والدارقطني (3/ 251)، والحاكم (2/ 198 - 199)، والبيهقي (7/ 208)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1072)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وحسّنه عبد الحق في "الأحكام الوسطى"(3/ 228).
وأعله ابن الجوزي بابي صالح كاتب الليث، وبمشرح بن هاعان، أما أبو صالح فقد توبع، وأعله البوصيري في "مصباح الزجاجة" بمشرح بن هاعان -أيضًا-، وأنكر أبو حاتم، وأبو زرعة سماع الليث من مثرح بن هاعان، وأثبت ذلك الحاكم!! وانظر:"بيان الوهم والإيهام"(3/ 504 - 556)، و"العلل"(1/ 411) لابن أبي حاتم.
سادسًا: حديث أبي هريرة، رواه أحمد (2/ 323)، والترمذي في "العلل"(273)، وابن أبي شيبة (4/ 392)، وابن الجارود (684). قال الترمذي:"فسألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن". والبزار (2/ 167 - زوائده)، والبيهقي (7/ 208). وانظر في الحديث:"نصب الراية"(3/ 238 - 240)، و"التلخيص الحبير"(3/ 194 - 195)، و"مجمع الزوائد"(4/ 267)، و"إرواء الغليل" (6/ 307 - 311). وفي المسألة:"زاد المعاد"(4/ 5 - 6، 66، 212)، و"إغاثة اللهفان"(2/ 97).
[ومن هذا](1): لفظ الأيْمَانِ والْحَلِفِ، أخرجت طائفةٌ من الأيمان الالتزامية التي يلتزم (2) صاحبُها بها إيجابَ شيء أو تحريمه، وأدخلت طائفةٌ فيها التعليق المحض الذي لا يقتضي حضًّا ولا منعًا، والأول نَقْصٌ من المعنى، والثاني تحميلٌ له فوق معناه.
ومن ذلك لفظُ الربا، أدخلتْ فيه طائفةٌ ما لا دليل على تناول اسم الربا له، كبيع الشَّيْرَج بالسِّمسِم، والدِّبْس بالعنب، والزيت بالزيتون، وكل ما استخرج من ربويٍّ وعمل منه بأصله، وإنْ خرج عن اسمه ومقصوده وحقيقته، وهذا لا دليلَ عليه يوجب المصيرَ إليه لا من كتاب، ولا من سنة، ولا إجماع ولا ميزان صحيح، وأدخلت فيه من مسائل مُد عَجْوَة ما هو أبعد شيء عن الربا، وأخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصريح (3) حقيقة وقصدًا وشرعًا (4)، كالحيل الربوية التي هي أعظم مَفْسدةً من الربا الصريح، ومفسدة الربا البَحْت الذي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقلُّ بكثير، وأخرجت منه طائفةٌ بيع (5) الرطب [بالتمر](6)، وإن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه، فإن التماثُلَ موجودٌ فيه في الحال دون المآل، وحقيقةُ الربا في الحيل الربوية أكملُ وأتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه.
ومن ذلك لفظ البينة (7)، قَصَّرَتْ به (8) طائفة، فأخرجتْ منه الشاهدَ واليمين (9)، وشهادة العبيد (10) العُدُول الصادقين المقبولي القول على اللَّه ورسوله، وشهادة النساء منفردات (11) في المواضع التي لا يحضرهنّ فيه الرجالُ، كالأعراس
(1) في (ك): و (ق): "ومنها".
(2)
في (ن): "يلزم".
(3)
في المطبوع: "الصحيح".
(4)
في المطبوع: "قصدًا وشرعًا" بدون (و).
(5)
في المطبوع: "تبع"!.
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق)، وقال في هامش (ق):"لعله باليابس".
(7)
انظر: "الطرق الحكمية"(ص 9، 12، 20، 63، 175، 259، 263)، و"إغاثة اللهفان"(2/ 61، 119)، و"مفتاح دار السعادة"(ص 159 - 160)، و"بدائع الفوائد"(3/ 118).
(8)
في المطبوع: "بهما".
(9)
انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف"(5/ 44 رقم 1808) وتعليقي عليه.
(10)
انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف"(5/ 61 رقم 1821) وتعليقي عليه، ووقع في (ق):"المقبولين".
(11)
انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف"(5/ 53 رقم 1816) وتعليقي عليه، ووقع في (ق):"في الموضع".
والحمامات، وشهادة الزوج في اللِّعان إذا نَكَلتِ المرأة (1)، وأَيْمان المدَّعِين الدمَ إذا ظهر اللَّوْثُ (2)، ونحو ذلك مما يبيِّن الحق أعظم من بيان الشاهدين، وشهادة القاذف (3)، وشهادة الأعمى (4) على ما يتيقنه، وشهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم (5)، وشهادة الحال في تداعي الزوجين متاعَ البيت (6)، وتداعي النجار والخياطِ آلَتَهُما ونحو ذلك، وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال، الذي (7) لا يُعرف بعَدَالة ولا فسق (8)، وشهادة وجوه الآجر (9) ومعاقد القمط (10) ونحو ذلك (11)؛ والصَّوابُ أنَّ كلَّ ما يُبيِّنُ الحق فهو بينة، ولم يعطل اللَّه ولا رسوله حقًا بعد ما تبين بطريق من الطرق أصلًا، بل حكم اللَّه ورسوله الذي لا حكم له سواه، أنه متى ظهر الحقُّ ووضَح بأي طريق كان، وجب تنفيذه ونصره، وحَرُمَ تعطيلُه وإبطالُه، وهذا بابٌ يطول استقصاؤه، ويكفي المستبصر التنبيه عليه، وإذا فهم هذا في جانب اللفظ فهم نظيره في جانب المعنى سواء.
(1) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف"(3/ 507 رقم 1333) وتعليقي عليه، وقع في (ق):"للدم".
(2)
انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف"(4/ 156 رقم 1507) وتعليقي عليه.
(3)
انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف"(5/ 58 رقم 1819) وتعليقي عليه.
(4)
انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف"(5/ 62 رقم 1822) وتعليقي عليه.
(5)
انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف"(5/ 66 رقم 1824) وتعليقي عليه، و"مجموع فتاوى ابن تيمية"(30/ 396).
(6)
انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف"(5/ 101 رقم 1854) وتعليقي عليه.
(7)
في (ق): "كشهادة المجهول الذي"، ووقع في (ق):"ما ليس فيه كشهادة المجهول".
(8)
انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف"(5/ 20 رقم 1794) وتعليقي عليه.
(9)
في (ق) و (ك): "وشهادة وجه الآجر".
(10)
هي: الشُّرُط التي يشدُّ بها الخصُّ، ويوثق من ليف، أو خوص، أو نحوها، وينطبق هذا على ما يسمى اليوم بـ "جسر الحديد". انظر:"النهاية"(4/ 108)، و"لسان العرب"(3/ 297)، و"المصباح المنير"(2/ 516).
(11)
انظر تفصيل المسألة في: "الحيطان"(ص 27 - 28)، و"أحكام البنيان"(1/ 129 - 131)، و"تبصرة الحكام"(2/ 133 - 134)، و"الفواكه الدواني"(2/ 257 - 258)، و"المغني"(7/ 42)، و"حلية العلماء"(5/ 25) للشاشي، و"الإشراف"(3/ 48 رقم 909) وتعليقي عليه.