الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال محمد بن خاقان: شيَّعنا (1) ابن المبارك في آخر خَرْجَة خَرَج، فقلنا له: أوْصنا، فقال: لا تتخذوا الرأي إمامًا (2).
فصل [القياس يعارض بعضه بعضًا]
[قالوا](3): ولو كان القياسُ حجةً لَمَا تعارضت الأقيسةُ، وناقض بعضُها بعضًا، فترى كلَّ واحدٍ من المتنازعين من أرباب القياس يزعم أنَّ قوله هو القياس، فيُبدي مُنازعُه قياسًا آخر ويزعم أنه هو القياس، وحججُ اللَّه وبيِّناته لا تتعارض، ولا تتهافت.
قالوا: فلو جاز القولُ بالقياس في الدين لأفضى إلى وقوع الاختلاف الذي حَذر اللَّه منه (4) ورسوله [صلى الله عليه وسلم](5)، بل عامة الاختلاف بين الأمة إنما نشأ من جهة القياس، فإنه إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياسٌ مقتضاه [نقيضُ](3) حكم الآخر اختلفا (6)، ولا بد، وهذا يدل على أنه من عند غير اللَّه من ثلاثة أوجه:
أحدها: صريح قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
الثاني: [أن](3) الاختلاف سببه (7) اشتباه الحق وخفاؤه، وهذا لعدم العلم الذي يُميز [به](8) بين الحق والباطل.
(1) في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: "سمعت" والصواب ما أثبتناه كما في "تاريخ بغداد" و"الفقيه والمتفقه"، ومنه ينقل المصنف.
(2)
أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد"(5/ 25)، و"الفقيه والمتفقه"(1/ 463 - 464 رقم 504) من طريق محمد بن خاقان به. ورواه ابن سعد في "الطبقات"(6/ 251)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2089 ص 1074)، والبيهقي في "المدخل"(215) من طريقين عن صالح بن مسلم عن الشعبي. وسنده صحيح.
صالح بن مسلم: هو صالح بن صالح بن مسلم بن حي، وهو ثقة، لا كما ظنه محقق "جامع بيان العلم" أنه صالح بن مسلم بن رومان.
ورواه ابن سعد (6/ 251) من طريق سفيان عن عبد اللَّه بن أبي السَّفر عن الشعبي، وهذا إسناد صحيح أيضًا.
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(4)
في (ق) و (ك): "حذر منه اللَّه" بتقديم وتأخير.
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(6)
في المطبوع: "اختلف".
(7)
في (ق): "وسببه" بزيادة الواو.
(8)
ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق).
الثالث: أن اللَّه سبحانه ذمَّ الاختلافَ في كتابه، ونهى عن التفرق والتنازع، فقال:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى] (1) أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وقال:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، والزبر: الكُتُب، أي كل فرقة صنفوا كتبًا أخذوا بها وعملوا بها [ودعوا إليها](2) دون كتب الآخرين؛ كما هو الواقع سواء، وقال:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، قال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسودُّ وجوه أهل الفرقة والاختلاف (3).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم"(4)، وقال:"اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا"(5)، وكان التنازع والاختلاف أشد شيء
(1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(3)
أخرجه اللالكائي في "شرح السنة"(1/ 72 رقم 74) من طريق أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي، والسهمي في "تاريخ جرجان"(ص 132 - 133) من طريق إسماعيل بن صالح الحلواني، والخطيب (7/ 379)، والآجري في "الشريعة"(3/ 589 - 590 رقم 2128 - ط وليد سيف)، من طريق أبي عمر الدوري، كلهم قالوا: حدثنا علي بن قدامة عن مجاشع بن عمرو عن ميسرة بن عبد ربه عن عبد الكريم به، وألفاظهم قريبة من بعضها.
وأخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 464 رقم 339 - آل عمران) من طريق مجاشع به.
قلت: وإسناده ضعيف جدًا، إن لم يكن موضوعًا؛ ففيه علي بن قدامة ضعيف، وشيخه مجاشع بن عمرو اتهم بالكذب، وشيخه ميسرة مثله.
ثم إن المتأمل في هذا التفسير يجد فيه نكارة، وهي أنه مخالف لنص القرآن الكريم، فقد بيّن اللَّه تعالى لنا من هم الذين تبيض وجوههم، ومن الذين تسود وجوههم فقال:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106] واللَّه أعلم.
(4)
رواه مسلم (432) في (الصلاة): باب تسوية الصفوف وإقامتها، من حديث أبي مسعود.
(5)
رواه البخاري (5060) و (5061) في (فضائل القرآن): باب اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، و (7364) و (7365) في (الاعتصام): باب كراهية الاختلاف، ومسلم (2667) في (العلم): باب النهي عن أتباع متشابه القرآن، من حديث جندب بن عبد اللَّه.