الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الإِسْرَاءِ
(1)
.
قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي "تَهْذِيبِ الآثَارِ":
أَمَّا مَا رُويَ عَمَّنْ رُويَ عَنْهُ أَنَّ مَا ذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِسْرَاءِ اللَّهِ عز وجل بِهِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى، وَمَا ذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ عَايَنَ هُنَالِكَ وَفِي السَّمَوَاتِ السَّبْعِ مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كُلّهُ رُؤْيَا نَوْمٍ لَا رُؤْيَا يَقَظَةٍ فَقَوْلُ ظَاهِرِ كِتَاب اللَّهِ عَلَى خِلَافِهِ دَالٌّ، وَالتَّنْزِيلُ عَلَى فَسَادِهِ شَاهِدٌ، وَالأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِهِ مُتَظَاهِرَةٌ، وَالرِّوَايَاتُ بِبُطُولِهِ وَارِدَةٌ فَأَمَّا دَلِيلُ ظَاهِرِ كِتَاب اللَّهِ عَلَى خِلَافِهِ، فَقَوْلُهُ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} ، فَأَخْبَرَ تبارك وتعالى أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى، مُعَلِّمًا بِذَلِكَ خَلْقَهُ قُدْرَتهُ عَلَى مَا فَعَلَ به، مِمَّا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ إِلَى مِثْلِهِ، إِلَّا لِمَنْ مَكَّنَهُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ الَّذِي مَكَّنْ مِنْهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَدَالًّا بِذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ بِهِ عَلَى صِدْقِهِ وَحَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ المعْجِزَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ مِنَ البَشَرِ عَلَيْهِ أَحَدٌ، إِلَّا مَنْ خَصَّهُ اللَّه بِمِثْلِ مَا خَصَّهُ بهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ رُؤْيَا نَوْمٍ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ دَلَالَةٌ، وَلَا عَلَى مَنِ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَسُولِهِ حُجَّةٌ، وَلَا كَانَ لِإنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ مِنَ
(1)
الإسراء: 1.
المشْرِكِينَ مَسْرَاهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى وَرُجُوعهِ إِلَيْهَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَة وَجْهٌ مَعْقُولٌ، إِذْ كَانَ مَعْقُولًا عِنْدَ كُلِّ ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي مَنَامِهِ فِي السَّاعَةِ مَا عَلَى مَسِيرَةِ سَنَةٍ مِنْ مَوْضِعِ مَنَامِهِ مِنَ البلَادِ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَنَّهُ يَقْضِي هُنَالِكَ أَوْطَارًا وَحَاجَاتٍ، فَدَعْ مَا عَلَى مَسِيرَةِ (شَهْرٍ)
(2)
، وَفِي تَظَاهُرِ الأَخْبَارِ عَنْ مُشْرِكِي قَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِنْكَارِهِمْ مَما أَخْبَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْرَاهُ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى، أَوْضَحُ البُرْهَانِ وَأَبْيَنُ البَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ، لِإِخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ مِنَ الخَبَرِ بِمَا كَانَ مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ فِعْلُهُ عَلَى مَنْ كَانَ بِمِثْلِ خِلْقَتِهِمْ وَبِنْيَتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ البَشَرِ، فَأَمَّا مَا كَانَ جَائِزًا وَجُودُهُ وَمُمْكِنًا كَوْنُهُ مِنْ كُل مَنْ كَانَ بِمِثْلِ هَيْئَتِهِمْ وَمَفْطُورًا مِثْلَ فِطْرَتِهِمْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُ التَّكْذِيبُ بِهِ، وَمُسْتَحِيلٌ مِنْ رَسُولِ رَبِّ العَالَمِينَ أَنْ يَكُونَ احْتَجَّ عَلَيهِمْ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنّ النَّائِمَ قَدْ يَرَى فِي نَوْمِهِ مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبَيْتِ المقْدِسِ، أَنَّهُ بِهِ، وَأَنَّهُ يُعَانِي بِهِ أمُورًا وَيَقْضِي بِهِ أَوْطَارًا، وَالأنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا تَحْتَجُّ عَلَى مَنْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهِ لِصِدْقِهَا فِيمَا يُنْكِرُهُ المرْسِلُونَ إِلَيْهِمْ مِنْ نُبُوَّتِهَا، إِلّا بِمَا يَعْجَزُ عَنْ مِثْلِهِ جَمِيعُ البَشَرِ، إِلّا مَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ جَلّ ثَنَاؤُهُ بِمِثْلِ مَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الأَعْلَامِ وَالأَدِلَّةِ، وَأَمَّا الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمُتَظَاهِرَةٌ بِأَنَّهُ قَالَ:"أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالبُرَاقِ، فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ فَسَارَ بِي حَتَّى أَتَيْنَا بَيْتَ المقْدِسِ". وَلَا شَكَّ أَنَّ الأَرْوَاحَ لَا تُحْمَلُ عَلَى الدَّوَابِّ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ عَلَيْهَا الأَجْسَامُ ذَوَاتُ الأَرْوَاحِ وَغَيْرُ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، وَفِي إِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى البُرَاقِ، الإِبَانَةُ عَنْ خَطَإِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكَرَهُ عَنْ نَبِيِّه: أَنَّهُ أَسْرَى بِهِ لَيْلًا مِنَ
(2)
ما بين القوسين زيادة لابد منه؛ لأن الكلام بعده مستأنف، وأخذته من قول قريش: هذا واللَّه الأمر البيِّن! واللَّه إن العير لتطرد شهرًا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرًا مقبلة. "سيرة ابن هشام"(2/ 39)، وغيرها وكان عند هذا الموضع في المخطوطة في هامشها دلالة على الشك، وهو موضع شك بلا ريب.
المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى، إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنْهُ عَنْ أَنَّهُ أَسْرَى بِرُوحِهِ دُونَ جِسْمِهِ، مَعَ أَنَّ فِي خَبْرِ شَدَّادِ ابنِ أَوْسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: طَلَبْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ البَارِحَةَ فِي مَظَانِّكَ فَلَمْ أُصِبْكَ، وِإجَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ: بِأَنَّ جِبْرِيلَ حَمَلَهُ فِي تِلْكَ الليْلَةِ إِلَى بَيْتِ المقْدِسِ؛ البَيَانُ الوَاضِحُ أَنَّهُ سَارَ بِنَفْسِهِ تِلْكَ الليْلَة مِنَ المسَجِدِ الحَرَامِ إِلَى المسْجدِ الأَقْصَى، وَالإِبَانَةُ عَنْ خَطَإ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رُؤْيَا مَنَامْ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ تَتَابَعَتِ الأَخْبَارُ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ.
(3)
قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي "تَفْسِيرِهِ" بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِأَحَادِيثِ الإِسْرَاءِ:
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُسْرِىَ بِرُوحِهِ، وَلَمْ يُسْرَ بِجَسَدِه.
وَالصَّوَابُ مِنَ القَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَسْرى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَكَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ اللَّهَ حَمَلَهُ عَلَى البُرَاقِ حِينَ أَتَاهُ بِهِ، وَصلَّى هُنَالِكَ بِمَنَّ صَلَّى مِنَ الأَنبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَأَرَاهُ مَا أَرَاهُ مِنَ الآيَاتِ؛ وَلَا مَعَنْى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: أَسْرَى بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِه؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَلَا كَانَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ صِدْقِهِ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الفِطَرَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَرَى الرَّائِي مِنْهُمْ فِي المنَام مَا عَلَى مَسِيرَةِ سَنَةٍ، فَكَيْفَ مَا هُوَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ أَوْ أَقَلّ؟ وَبَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَسْرَى بعَبْدِه، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، وَلَيْسَ جَائِزًا لِأحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى مَا قَالَ اللَّه إِلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ
(3)
"تهذيب الآثار" مسند ابن عباس (ص 453 - 456).
ذَلِكَ جَائِزٌ، إِذْ كَانَتِ العَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا، كَمَا قَالَ قَائِلُهُمْ:
حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عنَاقًا
…
ومَا هِيَ وَيْبَ غيرِكِ بالعْنَاقِ
يَعْنِي: حَسِبْتُ بغامَ رَاحِلَتِي صَوْتَ عِنَاقٍ، فَحَذَفَ الصَّوْتَ وَاكْتَفَى مِنْهُ بِالعناقِ، فَإِنَّ العَرَبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مَفْهُومًا مُرَادُ المتَكَلِّمُ مِنْهُمْ بِهِ مِنَ الكَلَامِ. فَأَمَّا فِيمَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ إِلَّا بِظُهُورِهِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِ المتَكَلِّمِ إِلَّا ببَيَانِهِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْذِفُ ذَلِكَ؛ وَلَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ قُوْلِهِ:{أَسْرَى بِعَبْدِهِ} أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، بَلِ الأَدِلَّةُ الوَاضِحَةُ، وَالأَخْبَارُ المتَتَابِعَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ اللَّه أَسْرَى بِهِ عَلَى دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا البُرَاقُ؛ وَلَوْ كَانَ الإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ لَمْ تَكُنِ الرُّوحُ مَحْمُولَةً عَلَى البُرَاقِ، إِذْ كَانَتِ الدَّوَابُّ لَا تَحْمِلُ إِلَّا الأَجْسَامَ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا أَسْرَى رَوحَهُ رَأَى فِي المنَامِ أَنَّهُ أَسْرَى بِجَسَدِهِ عَلَى البُرَاقِ، فَيُكَذِّبُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الأَخْبَارِ الَّتِي رُويَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ جَبْرَائِيلَ حَمَلَهُ عَلَى البُرَاقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَنَامًا عَلَى قَوْلِ قَائِلِ هَذَا القَوْلِ، وَلَمْ تَكُنِ الرُّوحُ عِنْدَهُ مِمَّا تَرْكَبُ الدَّوابَّ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى البُرَاقِ جِسْمُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، لَم يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم علَى قَوْلِهِ حُمِلَ عَلَى البُرَاقِ لَا جِسْمُهِ، وَلَا شَيءٌ مِنْهُ، وَصَارَ الأَمْرُ عِنْدَهُ كَبَعْضِ أحْلَامِ النَّائِمِينَ، وَذَلِكَ دَفْعٌ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَمَا تَتَابَعَتْ بِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَاءَتْ بِهِ الآثَارُ عَنِ الأَئِمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
(4)
قَالَ ابْنُ كثِيرٍ فِي "تَفْسِيرِ القُرْآنِ العَظِيمِ" بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَاتِ الإِسْرَاءِ:
وَإِذَا حَصَلَ الوُقُوفُ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الأَحِادِيثِ صَحِيحِهَا وَحَسَنِهَا وَضَعِيفِهَا، يَحْصُلُ مَضْمُونُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ
(4)
"تفسير الطبري"(9/ 16 - 17).
المقْدِسِ، وَأَنَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الرُّوَاةِ فِي أَدَائِهِ، أَوْ زَادَ بَعْضُهُمْ فِيهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَ، فَإِنَّ الخَطَأَ جَائِزٌ عَلَى مَنْ عَدَا الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام. وَمَنْ جَعَلَ مِنَ النَّاسِ كُلَّ رِوَايِةٍ خَالَفَتِ الأُخْرَى مَرَّةً عَلَى حِدَةٍ، فَأَثْبَتَ إِسْرَاءَاتٍ مُتَعَدِّدَةً فَقَدْ أَبْعَدَ وَأَغْرَبَ، وَهَرَبَ إلَى غَيْرِ مَهْرَبٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ عَلَى مَطْلَبٍ.
وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ مِنَ المتَأَخِّرِينَ: بِأنَّهُ عليه السلام أسْرِيَ بِهِ مَرَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ المقْدِسِ فَقَطْ، وَمَرَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَطْ، وَمَرَّةً إِلَى بَيْتِ المقْدِسِ وَمِنْهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَفَرِحَ بِهَذَا المسْلَكِ، وَأَنَّهُ قَدْ ظَفَرَ بِشَيءٍ يَخْلُصُ بهِ مِنَ الإشْكَالَاتِ؛ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَلَوْ تَعَدَّدَ هَذَا التَّعَدُّدَ لَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ أُمَّتَهُ، وَلَنَقَلَتْهُ النَّاسُ عَلَى التَّعَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَ الإِسْرَاءُ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَكَذَا قَالَ عُرْوَةُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا.
وَالحَق: أَنَّهُ عليه السلام أُسْرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ المقْدِسِ رَاكِبًا البُرَاقَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ المَسْجِدِ رَبَطَ الدَّابَّةَ عِنْدَ البَابِ، وَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تَحِيَّةَ المَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى المِعْرَاجَ -وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَجٍ يَرْقَى فِيهَا- فَصَعَدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى بَقِيَّةِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، فَتَلَقَّاهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرِّبُوهَا، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الأَنْبِيَاءُ عليهم السلام الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ مَنَازِلِهِمْ وَدَرَجَاتِهِمْ، حَتَّى مَرَّ بمُوسَى الكَلِيمِ فِي السَّادِسَةِ، وَإِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ فِي السَّابِعَةِ، ثُمَّ جَاوَزَ مَنْزِلَتَهُمَا صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مِسْتَوى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلَامِ، أَيْ: أَقْلَامَ القَدَرِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَرَأَى سِدْرَةَ المنْتَهَى، وَغَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَظَمَةٌ عَظِيمَةٌ، مِنْ فِرَاشٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَغَشِيَتْهَا الملَائِكَةُ، وَرَأَى هُنَالِكَ جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ، وَلَهُ سِتُّمِئَةُ جَنَاحٍ،
وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الأُفُقَ، وَرَأَى البَيْتَ المعْمُورَ وَإِبْرَاهِيمَ الخَلِيلَ بَانِي الكَعَبَةِ الأَرْضِيَّةِ مُسْنِدًا ظَهَرَهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الكَعْبَةُ السَّمَاوِيَّةُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الملَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؛ وَرَأَى الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَفَرَضَ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَاتِ خُمْسِينَ، ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ؛ رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ.
وَفِي هَذَا اعْتَنَاءٌ عَظِيمٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ المقْدِسِ، وَهَبَطَ مَعَهُ الأَنْبيَاءُ فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصَّبْحُ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ بَيْتُ المقْدِسِ، وَلَكَنْ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ دَخُولِهِ إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ؛ لأَنَّهُ لمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اللائِقُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إلَى الجَنَابِ العُلْوِي لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ لمَّا فَرَغَ مِنَ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ، اجْتَمَعَ هُوَ وَإِخْوَانُهُ مِنَ النَّبِيينَ صَلَوَاتُ اللَّهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهُ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ عليه السلام لَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ المقْدِسِ فَرَكِبَ البُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ
(5)
وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا عَرْضُ الآنِيَةِ عَلَيْهِ مِنَ اللبَنِ وَالعَسَلِ، أَوِ اللبَنِ وَالخَمْرِ، أَوِ اللبَنِ وَالماءِ، أَوِ الجَمِيعِ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ فِي بَيْتِ المقْدِسِ، وَجَاءَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، لِأَنَّهُ كَالضِّيَافَةِ لِلْقَادِمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ كَانَ الإِسْرَاءُ بِبَدَنِهِ عليه السلام وَرُوحِهِ، أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ؟ عَلَى
(5)
الغَلَسُ: ظلام آخر الليل، وقيل: الغلس أول الصبح حتى ينتشر في الآفاق، وكذلك الغبس، وهما سواد مختلط ببياض وحمرة. "لسان العرب": غلس.
قَوْلَيْنِ، فَالأَكْثَرُونَ مِنَ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى كلَ ذَلِكَ مَنَامًا، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَهُ يَقَظَةً، لِأنَّهُ عليه السلام كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ؛ وَالدَّلَيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ عز وجل:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} فَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الأُمُورِ العِظَامِ، وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيْءٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظَمًا، وَلَما بَادَرَتْ كُفَّارُ قرَيْشٍ إِلَى تَكْذِيبِهِ، وَلَما ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّ العَبْدَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالجَسَدِ.
وَقَدْ قَالَ عَزَّ شَأْنُهُ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}
(6)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، وَالشَّجَرَةَ الملْعُونَةَ: شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}
(7)
وَالبَصَرُ مِنَ آلَاتِ الَّذَاتِ لَا الرُّوحُ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حُمِلَ عَلَى البُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَرَّاقَةٌ لَهَا لَمَعَانٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِلْبَدَنِ لَا لِلْرُوحِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ فِي حَرَكَتِهَا إِلَى مَرْكَبٍ تَرْكَبُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرُوحِهِ لَا بِجَسَدِهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي "السِّيرَةِ": حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ المغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَتْ رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ صَادِقَةً.
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ أَنَ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ: مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ.
(6)
الإسراء: 60.
(7)
النجم: 17.