المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في مراتب الخلفاء - المعتصر من المختصر من مشكل الآثار - جـ ٢

[جمال الدين الملطي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌كتاب الأقضية

- ‌ما جاء في كراهية القضاء لمن ضعف عنه

- ‌في قضاء الغضبان

- ‌في عقوبة الإمام بانتهاك ماله

- ‌في حكمه صلى الله عليه وسلم في القصعة المكسورة

- ‌في الاجتعال على القضاء

- ‌في الرشوة

- ‌في استحلاف المطلوب

- ‌في اقتطاع الحق باليمين

- ‌في التحلل من الدعاوى

- ‌في الحكم بالاجتهاد

- ‌القضاة ثلاثة

- ‌في التحكيم

- ‌في القضاء على الغائب

- ‌في وجوب طاعة الإمام إذا أمر بإقامة الحد

- ‌في منع الجار من غرز الخشبة

- ‌في حجر البالغين

- ‌في نفقة البهائم

- ‌في الحكم على قائل قوله على ما بين كذا إلى كذا

- ‌الحكم في ما أفسدت الماشية

- ‌في حريم النخلة وسعة الطريق

- ‌في الانتفاع بالطرقات

- ‌كتاب الشهادات

- ‌في تعارض البينتين

- ‌في شهادة خزيمة

- ‌في التحذير من الدين

- ‌في مطل الغنى

- ‌في أنظار المعسر

- ‌في بيع المديون

- ‌في قضاء جابر دين أبيه

- ‌في المديون إذا أفلس

- ‌كتاب الحمالة والحوالة وما جاء في الحمالة بالمال

- ‌مدخل

- ‌في الكفالة عن الميت

- ‌في الحمالة بالنفس

- ‌في الحوالة

- ‌كتاب الرهن

- ‌مدخل

- ‌في الرقبى

- ‌في العمرى

- ‌في استلحاق الولد

- ‌في الحكم بالقافة

- ‌في الغصب في دار الحرب

- ‌في غصب الأرض

- ‌في الإشهاد على اللقطة

- ‌في حكم اللقطة بعد التعريف

- ‌في لقطة الحاج

- ‌في لقطة مكة

- ‌في الضوال

- ‌كتاب القسمة

- ‌في المهايأة بالأزمان

- ‌في الوديعة وفي اقتطاع المرء حقه بنفسه

- ‌في حكم العارية

- ‌في عارية المتاع

- ‌كتاب المزارعة

- ‌مدخل

- ‌في المساقاة

- ‌كتاب الهبات

- ‌في الرجوع عن الصدقة

- ‌في الهبة للولد

- ‌في التسوية بين الأولاد

- ‌كتاب الوصايا

- ‌في وصية سعد

- ‌في الجار الذي يستحق الوصية

- ‌في الوصية للاختان والاصهار

- ‌كتاب العتق

- ‌في فضيلة عتق الرقاب

- ‌في فك الرقبة

- ‌في عتق رقبة من ولد اسماعيل

- ‌في عتق ولد الزنا

- ‌في عتق القريب

- ‌في عتق المقر بالإسلام وإن لم يصل

- ‌في عتق العبد المشترك

- ‌في العتق بالمثلة

- ‌في القرعة بين المعتقين

- ‌في أول عبدا وآخر عبدا ملكه فهو حر

- ‌في قوله: اعتق أي عبيدي شئت

- ‌كتاب المكاتب

- ‌في القادر على الوفاء

- ‌في الوضع عن المكاتب وبيعه

- ‌في بيع الأمة طلاقها

- ‌في الأمة تحت الحر إذا أعتقت

- ‌في مسقط الخيار

- ‌معاني حديث بريرة

- ‌المدبر

- ‌كتاب الاستبراء

- ‌كتاب المواريث

- ‌مدخل

- ‌في مجهول العصبة

- ‌في ذوي الأرحام

- ‌في الجد

- ‌في الكلالة

- ‌في النبي صلى الله عليه وسلم لا يرث ولا يورث

- ‌في رباع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌في التولي

- ‌في من أسلم على يد رجل ووالاه

- ‌في ميراث المرأة

- ‌في المولى الأسفل

- ‌في مولى ابنة حمزة

- ‌في هبة الولاء

- ‌كتاب الديات

- ‌في دية الخطأ

- ‌في دية شبه العمد

- ‌في العاقلة

- ‌في دية المعاهد

- ‌في دية الجنين

- ‌في شريك قاتل نفسه

- ‌في العفو عن الدم

- ‌في ما يجب لولي المقتول

- ‌في القود من اللطمة

- ‌في القود من الجبذة

- ‌في انتظار البرء بالقصاص

- ‌في العقود بين العبيد

- ‌كتاب القسامة

- ‌في وجوب القسامة

- ‌كتاب الجنايات

- ‌في قتل المؤمن بالكافر

- ‌في من أشار بحديدة على رجل

- ‌في نزع ثنية العاض

- ‌في حذف من اطلع عليه

- ‌كتاب الرجم

- ‌مدخل

- ‌في حد المقر بالزنا

- ‌في الستر

- ‌كتاب الحدود

- ‌مدخل

- ‌في وطء أمة الابن

- ‌في الحدود كفارة

- ‌في قطع يد المخزومية

- ‌في الصدق على السارق

- ‌في إقالة الكرام عثراتهم

- ‌في التعزيز والتاديب

- ‌في من افترى على جماعة

- ‌في زنا الأمة

- ‌في إقامة الحد في الحرم

- ‌في وطء البهيمة

- ‌في وطء المحارم

- ‌في اللواطة

- ‌في زنا أهل الذمة وشهادتهم

- ‌كتاب الحراب

- ‌مدخل

- ‌في المرتد

- ‌في الداخل بيت غيره بغير إذنه

- ‌كتاب أسباب النزول

- ‌في سبب نزول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}

- ‌في سبب نزول: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}

- ‌في نزول {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

- ‌في سبب نزول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ}

- ‌في سبب نزول قوله تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ}

- ‌في سبب نزول قوله تعالى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}

- ‌في سبب نزول قوله تعالى: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}

- ‌في سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}

- ‌في سبب نزول قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ}

- ‌في سبب نزول قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ}

- ‌في سبب نزل قوله تعالى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ}

- ‌تفسير القرآن

- ‌فاتحة الكتاب

- ‌سورة البقرة قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة هود

- ‌سورة يوسف

- ‌سورة سبحان

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة الأنبياء

- ‌سورة المؤمنون

- ‌النور

- ‌الفرقان

- ‌العنكبوت

- ‌الروم

- ‌الأحزاب

- ‌سبأ

- ‌حم فصلت

- ‌الأحقاف

- ‌القتال

- ‌الطور

- ‌سورة الواقعة

- ‌التغابن

- ‌التحريم

- ‌الجن

- ‌المدثر

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة التكاثر

- ‌المعوذتان

- ‌كتاب جامع مما يتعلق بالموطأ

- ‌في دعائه لأهل مكة

- ‌في البيعة والهجرة

- ‌في اليهود والنصارى

- ‌في القدر والتفاؤل والتطير

- ‌في التشاؤم

- ‌في الخلق الحسن

- ‌في الحياء

- ‌في البذاذة

- ‌في الغضب

- ‌في التجمل

- ‌في لبس الحرير

- ‌في الحلى

- ‌في الخاتم

- ‌في المشي بنعل واحد

- ‌في الدجال

- ‌في الفطرة

- ‌في معا الكافر

- ‌في الشرب قائما

- ‌في الخيل

- ‌في العين

- ‌في الرقبة

- ‌في سنة الأكل

- ‌في الحمى

- ‌في الشعر

- ‌في تغيير الشيب

- ‌في الحب في الله

- ‌في تعبير الرؤيا

- ‌في التحاسد

- ‌في السلام

- ‌في الاستئذان

- ‌في التشميت

- ‌في المصور

- ‌في المسخ

- ‌في الحية

- ‌السير في السفر

- ‌في الإكفار

- ‌في النجوى

- ‌في الكذب

- ‌في إضاعة المال

- ‌في الاستجابة

- ‌كتاب جامع مما ليس في المؤطا

- ‌في النهي عن اتخاذ الدواب كراسي

- ‌في مفاصل الإنسان

- ‌في جري الشيطان مجرى الدم

- ‌في التحدث عن بني إسرائيل

- ‌في فضل بناته صلى الله عليه وسلم

- ‌في اسم الله الأعظم

- ‌في قو ضعفي

- ‌في تكوير الشمس والقمر

- ‌في التحلل من المظالم

- ‌في قوله زعموا

- ‌في من قتل نفسه

- ‌في طول اليد بالصدقة

- ‌في إنزاء الحمير على الخيل

- ‌في ما شاء الله وشاء فلان

- ‌في من سن سنة حسنة أو سيئة

- ‌في لو

- ‌في الحجاب ستر العورة

- ‌في رفع العلم

- ‌في عائشة

- ‌في نفي شك إبراهيم عليه السلام

- ‌في النهي عن قوله: خبثت نفسي

- ‌في وعد النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة هدية النجاشي

- ‌النهي عن قوله: تعس الشيطان

- ‌في قوله: لا تكون مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف

- ‌في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌في السنين الجوادع

- ‌في الساعة

- ‌في من أحسن في الإسلام

- ‌في صدق أبي ذر

- ‌في الأمر والنهي

- ‌في كسب الإماء

- ‌في أن الله لا يمل

- ‌في تعبير الظلة في المنام

- ‌في الغرباء

- ‌في أهل البيت

- ‌في أهل فارس

- ‌في أهل اليمن

- ‌في أبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ ابن جبل

- ‌في سباب المسلم وقتاله

- ‌في النملة والنحلة والهدهد والصرد

- ‌في الكبائر

- ‌في ثناء الله على العبد

- ‌في القرآن

- ‌في الريح والرياح

- ‌في الغرف والقباب

- ‌في الدخان

- ‌في الاقتداء بأبي بكر وعمر

- ‌في شرة العابد وفترته

- ‌في استحقاق المجلس

- ‌المجازاة

- ‌في التغني بالقرآن

- ‌في قوله: ليس منا من فعل كذا

- ‌في ترك بسملة براءة

- ‌في بر الوالدين

- ‌في استعمال الفضة والذهب

- ‌في النصيحة

- ‌في المؤمن لا يلدغ مرتين

- ‌في مائة إبل لا تجد فيها راحلة

- ‌في النهي عن تسمية العنب بالكرم

- ‌في اللعب في العيد

- ‌في شيء مباح حرم بمسئلته

- ‌في النهي عن قوله عبدي وأمتي

- ‌في حملة الفقه

- ‌في رحى الإسلام

- ‌في الحلف في الجاهلية

- ‌في الدعابة

- ‌في حديث النفس

- ‌في صدق الله وعتقة

- ‌في المحدثين من الأولياء

- ‌في مال الوارث أحب إليه من ماله

- ‌في حفظ أبي هريرة

- ‌في الآبار

- ‌في مناقب علي رضي الله عنه

- ‌في الاستعاذة من القمر

- ‌في الشباب

- ‌في من له الأجر مرتين

- ‌في تعلم كتاب السريانية

- ‌في لولا الهجرة لكنت امرءا من الانصار

- ‌في كراهية طلب العقوبة في الدنيا

- ‌في لكع ابن لكع والكريم ابن الكريم

- ‌في الأكل متكئا

- ‌في البطانة

- ‌في واعظ الله

- ‌في ابتلاء الأنبياء والأولياء

- ‌في التفريق بين الأمة

- ‌في أعجب الناس إيمانا

- ‌في إسلام حصين

- ‌في فعل الله بمن أراد له خيرا

- ‌في التحذير من السر

- ‌في النجباء والوزراء والرفقاء من الصحابة

- ‌في ما يسعد به المرء

- ‌في الصبر على سوء جاره

- ‌التوصية بالجار

- ‌في خير الجيران والأصحاب

- ‌في الضيافة

- ‌في قطع السدر

- ‌في البله

- ‌في الرزق والأجل والسعادة والشقاء

- ‌في حين نفخ الروح

- ‌في المؤمن والفاجر

- ‌في صفة قريش

- ‌في عزاء الجاهلية

- ‌في الخصال المنهي عنها

- ‌في الذباب والشراب

- ‌في القمار

- ‌في كراهة الوقف قبل تمام الكلام

- ‌في التمثل بالشعر والرجز

- ‌في زمان لا معنى فيه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌في حفظ سر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌في ترك الإفتخار بالنسب

- ‌في الستة الملعونين

- ‌في قتال العجم على الدين عودا كما قوتلوا عليه بدءا

- ‌في اللاعنة ناقتها

- ‌في ما اختص به أبو بكر وعلي

- ‌في كراهة التبرج بالزينة

- ‌في لعن من لا يستحقه

- ‌في من سرته حسنته وساءته سيئته

- ‌في الدخول على أهل الحجر

- ‌في المؤمن في ظل صدقته

- ‌في عبادة الحنفاء

- ‌في بيع التالد

- ‌في لمن خاف مقام ربه جنتان

- ‌في محقرات الذنوب

- ‌في عالم المدينة

- ‌في مدة مقام أبي بكر في الغار

- ‌في نهي أبي بكرة الأحنف من نصرة علي

- ‌في اهتزاز العرش

- ‌في المستشار

- ‌في النساء والمال

- ‌في الأعمى البصير

- ‌في خير الكافر

- ‌في الأكل بغيره

- ‌في الخيلاء المحمودة

- ‌في قصة أيوب عليه السلام

- ‌في الأخوة والصحبة

- ‌في الجدل

- ‌في حلاوة المال وخضرته

- ‌في استخلاف عمر من بعده من الصحابة

- ‌في تعليم القرآن وتعلمه

- ‌في طول العمر

- ‌في ما اجتمع لأبي بكر وابنه وابن ابنه من المبايعة

- ‌في فضل أهل بدر

- ‌في أحب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌في عثمان وخلافته

- ‌في أما بعد

- ‌في شفاعة الأولياء

- ‌في موضع سوط من الجنة

- ‌في العزلة

- ‌في المرأة تقبل في صورة شيطان

- ‌في مثقال حبة من الكبر أو الإيمان

- ‌في الأمر بأخذ القرآن عن أربعة

- ‌في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على أبي

- ‌في الأعلام بحال عائشة

- ‌في التفدية

- ‌في نسبة الرجل إلى موضع استيطانه

- ‌في العجوة والكمأة

- ‌في أول نبي بعث

- ‌في النهي عن المبالغة في الحلب

- ‌في لا وحي إلا القرآن

- ‌في أن عثمان داخل في بيعة الرضوان

- ‌في عشرة من الصحابة فيهم سمرة آخركم موتا في النار

- ‌في الدعاء للأنصار وأبنائهم

- ‌في سحر اليهود

- ‌في قراءة الرواي على المروي كقراءة المروي على الراوي

- ‌في التوديع

- ‌في مرحبا وسهلا

- ‌في شهوده صلى الله عليه وسلم حلف المطيبين

- ‌في العبادة في الهرج

- ‌في ثواب البر وعقوبة البغي

- ‌في الجوامع من الدعاء

- ‌في استحلاف على الرواة

- ‌في حبس عمر مكثر الحديث

- ‌في الغنى والفقر

- ‌في من نزلت به فاقة

- ‌في المال الصالح

- ‌في ما يستدل به على صدق الحديث

- ‌الترغيب في تعلم العلم

- ‌في منتهى الإسلام

- ‌في مضر

- ‌في الخلة

- ‌في أخنع الأسماء

- ‌في قيام الناس بعضهم لبعض

- ‌في صلة الشعر

- ‌في أطيط السماء

- ‌في الرسالة والنبوة

- ‌في مزمار أبي موسى

- ‌في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌في مراتب الخلفاء

- ‌خاتمة الطبع

الفصل: ‌في مراتب الخلفاء

مما لو شاء أن يبني عليه ما يكون شعرا فعل وليس بشعر ولا قائله شاعر وقد يحكى عن الفقيه من ليس بفقيه ولا يصير بذلك فقيها ولقد زعم الخليل وموضعه من العربية موضعه إن الأراجيز ليست بشعر فبان جهل المنكر الذي نفى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منفيا عنه إذ ما تكلم به مما في الآثار كلها حكمة علق بلسانه من الشعر فنطق به ولم يكن به شاعرا.

قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: "وهو يعلم إني لست بشاعر فأهجوه" إنه لو كان شاعر لهجا الهاجي وهذا لا يناسب خلقه العظيم فإنه صح أنه قال لأبي جرى الهجيمي: "يا أبا جرى لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تصب من دلوك في دلو المستقى وإن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة والله لا يحب الخيلاء" قال: يا رسول الله الرجل يسبني بما في أسبه بما فيه قال: "لا فإن أجر ذلك لك وإثمه ووباله عليه".

قلت: لا دليل فيه على ما توهمه لأن المقصود أعلام الناس بذلك لأنه ليس بشاعر مثله كقوله: فيهجوه إذا التهاجي إنما يكون من الأكفاء ولا كفء له من الناس وكانوا يرفعون أنفسهم عن أن يهاجوا من ليس لهم بكفء أو في ذلك يقول حسان بن ثابت مخاطبا لأبي سفيان بن حرب1:

هجوت محمدا أفأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

فإن أبي ووالدتي وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخير كما الفداء

1 هذا سهو وإنما هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب- ح.

ص: 325

‌في زمان لا معنى فيه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عن أنس قيل: يا رسول الله متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: "إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل" قيل: وما ذاك؟ قال: "إذا ظهر الإدهان في خياركم والفاحشة في شراركم ويحول الملك في صغاركم والفقه في أراذلكم".

وعن ابن مسعود وأبي موسى مرفوعا: أن بني إسرائيل كان أحدهم يرى من صاحبه الخطيئة فينهاه تعذيرا فإذا كان من الغد جالسه وواكله

ص: 326

وشاربه كأنه لم يره على خطيئته بالأمس فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على رقاب بعض1 ويلعنكم كما لعنهم.

فالزمان الذي يكون أهله ملعونين لا معنى لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والإدهان التليين ممن لا ينبغي التليين له قاله الفراء ومنه قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي: تلين فيلينوا لك وإدهان الخيار للشرار هو التليين لهم لأن المفروض عليهم خلاف ذلك وتحول الملك في الصغار تولي أمور الإسلام من إقامة الجمعة وجهاد العدو وسائر الأشياء التي إلى الأئمة إقامتها وعلى العامة الاقتداء بهم فيها والفقه في أراذلكم أي: ممن ليس له نسب معروف قال عليه السلام: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا"، والخيار في الجاهلية بالشرف في الأنساب فإذا فقهوا كانوا خيار أهله2 وفقه من ليس له نسب ليس كذلك.

1 هكذا في الأصل والظاهر على قلوب بعض- ح.

2 كذا وعبارة المشكل 4/316 فإذا فقهوا كانوا خيار أهل الإسلام.

ص: 327

‌في حفظ سر الرسول صلى الله عليه وسلم

في حفظ سر الرسول الله صلى الله عليه وسلم

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى ابنته فاطمة فبكت ثم أسر إليها فضحكت فسألتها عائشة عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رسول الله لما توفي عزمت عليها عائشة أن تخبرها بذلك فقالت: أما الآن فنعم أنه لما سارني في المرة الأولى قال: "إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة وأنه عارضني العام مرتين وإني لا أظن إلا أجلي قد حضر فاتقى الله فنعم السلف أنا لك"، فبكيت بكائي الذي رأيت ثم سارني في الثانية فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة أو نساء

ص: 327

المؤمنين"، فضحكت.

وعن أنس كنت في غلمان فأتى علينا النبي صلى الله عليه وسلم فسلم علينا ثم أخذ بيدي فبعثني في حاجة له وقعد في الجدار أو في ظل الجدار حتى رجعت إليه فلما أتيت أم سليم فقالت: ما حبسك؟ فقلت: أرسلني رسول الله صلى الله عيه وسلم برسالة قالت: ما هي؟ قلت: أنها سر قالت: احفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أخبرت بها أحدا بعد.

وعن عبد الله بن جعفر أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه ثم أسر إلي حديثا أن لا أحدث به أحدا من الناس.

وعن عمر بن الخطاب حين بانت حفصة من زوجها وكان قد شهد بدرا توفي قال عمر: فلقيت عثمان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في ذلك فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: بدا لى أن لا أتزوج يومي هذا فلقيت أبا بكر فعرضتها عليه فصمت أبو بكر ولم يرجع إلي شيئا فكنت عليه أوجد مني على عثمان فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قلت: نعم قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلا أني علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها لقبلتها.

إنما جاز لفاطمة الإخبار بما أسر إليها لأن ذلك السر ظهر بموته فخرج من خبر السر إلى ضده فأطلق لها الأخبار وكذلك اعتذار أبي بكر لعمر لم يكن من إفشاء ما اؤتمن عليه من السر وأما الذي أسر إلى أنس وعبد الله بن جعفر مما لم يظهر فكتما لأنه أمانة اؤتمنا عليها فلم يحل لهما الخبر بها وعن جابر مرفوعا: "إذا حدث الرجل حديثا فالتفت فهي أمانة".

ص: 328

‌في ترك الإفتخار بالنسب

روي أن أبا الدرداء توفي له أخ من أبيه وترك أخا له لأمه فنكح

ص: 328

امرأته فغضب أبو الدرداء فأقبل إليها فقال: أنكحت ابن الأمة فرد ذلك عليها فقالت: أصلحك الله إنه كان أخا زوجي وكان أحق بي فضمني وولده فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه حتى وقف ثم ضرب على منكبه فقال: "يا أبا الدرداء يا ابن ماء السماء طف الصاع طف الصاع طف الصاع"، كناية عن تقصيره عن الإملاء ومنه المطفف وقيل: هو أن يقرب إلى الامتلاء ولما يمتلئ انتقاص أبي الدرداء أخا أخيه لأمه بأنه ابن أمة يتضمن وصف نفسه بكمال النسب والإسلام أمر بترك الافتخار بالنسب قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجلا فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن".

فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بتساويه معه ومع الناس جميعا في النقصان بقوله: "طف الصاع" وإن تباينوا في النقصان بقدر أعمالهم المحمودة وأن لا يدرك أحد بنسبه درجة الكمال وقال صلى الله عليه وسلم: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا"، ففيه إعلاء مرتبة الفقه وجلالة مقادير أهله وعلوهم على من سواهم من المتخلفين عنه وإن كانوا ذوي نسب يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"إن سبابكم هذه ليست بمساب على أحد إنما أنتم بنو آدم طف الصاع لم تملؤه ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو عمل صالح بحسب الرجل أن يكون فاحشا بذيا بخيلا جبانا".

ص: 329

‌في الستة الملعونين

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسم قال: "ستة ألعنهم لعنهم الله وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله عز وجل، والمكذب بقدر الله عز وجل، والمتسلط بالجبروت يذل به من أعز الله ويعز من أذل الله، والتارك لسنتي، والمستحل لحرم الله عز وجل، والمستحل من عترتي ما حرم الله عز وجل"، الجبروت

ص: 329

اشتقاقه من الجبر كالملكوت من الملك ومعنى استحلال الحرم جعله كسائر البلاد من اصطياد صيده والدخول فيه بغير إحرام وعدم جعل من دخله آمنا وعدم الامتناع من القتال فيه وغير ذلك وقد أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مكة لا تغزى بعد العام الذي غزاها وأنه لا يقتل قرشي بعد عامه هذا صبرا لأنه لا يكفر أهلها فيغزون ولا يكفر قرشي بعد ذلك العام الذي أباح دماء أهلها القرشيين فمن أنزل الحرم هذه المنازل كان به ملعونا، والعترة: هم أهل البيت الذين على دينه والتمسك بهديه، روي أنه خطب بماء يدعى خم بين مكة والمدينة فحمدالله وأثنى عليه ثم قال:"أما بعد أيها الناس إنما انتظر أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله فيه الهدى والنور فاستمسكوا بكتاب الله عز وجل وخذوا به" ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله عز وجل في أهل بيتي" فمن أخرج عترته من المكان الذي جعلهم الله به على لسان نبيه فجعلهم كسواهم ممن ليس من أهل عترته كان ملعونا والباقي ظاهر.

ص: 330

‌في قتال العجم على الدين عودا كما قوتلوا عليه بدءا

عن عباد خطبنا علي على منبر من آجر وصعصة بن صولجان حاضر فجاء رجل يتخطى رقاب الناس حتى دنا منه فقال: يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على وجهك فضرب صعصعة في ظهري وقال: ليبدين من أمر العرب أمرا قد كان يكتمه ثم قال: من يعذرني من هذه الضياطرة يتقلب أحدهم على حشاياه ويجهر قوم بذكر الله عز وجل يأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليضربنكم على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا- الحمراء الموالي" ومنه أرسلت إلى الأحمر والأبيض والضياطرة الذين يحضرون الأسواق بلا مال معهم فحضورهم كعدم الحضور وأحدها ضيطار والمعنى: هو أن

ص: 330

العرب قاتلوا العجم حتى أدخلوهم في الإسلام كما روي أنه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى استغرب فقال: "ألا تسألوني مم ضحكت" فقالوا: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: "عجبت من قوم يقادون إلى الجنة في سلاسل وهم يتقاعسون عنها فما يكرهها لهم" قالوا: وكيف يا رسول الله؟ قال: "قوم من العجم يسبيهم المهاجرون ليدخلوهم في الإسلام وهم كارهون"، فالعرب أدخلوا العجم بدءا في الإسلام حتى صار فيهم من عقل عن الله تعالى وعن رسوله شرائع دينه حتى صارت إليه مطالبة من خرج عما عليه إلى ضده بالرجوع إلى ما خرج منه فكان قتالهم إياه عود ليعودوا إلى ما تركوا منه كمثل ما كان العرب قاتلوهم على الدخول في الدين بدءا، ويحتمل أن يكون المراد من العجم من قد وصفه بقوله:"لو كان الدين أو العلم بالثريا لناله رجال من أبناء فارس"، يدل عليه ما روي عن سهل بن سعد قال: كنت يوم الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الكرزن فصادف حجرا فضحك فسأل ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس يؤتي بهم من قبل المشرق في كبول يساقون إلى الجنة وهم كارهون"، ففهم إنما أراد به من العجم الذي قاله في الحديث وهم أبناء فارس بناحية المشرق الذين وصفهم بما وصفهم به من الدين والعلم الذين دخلوا في قوله تعالى:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} أي: بالمذكورين في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} الآية.

ص: 331

‌في اللاعنة ناقتها

عن عمران بن حصين قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلعنت امرأة ناقتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا متاعكم عنها فإنها ملعونة"، قال عمران: فكأني انظر إليها اللعن الطرد والأبعاد فلما قالت: لعنها الله طردها وأبعدها عن رحمة الله وافقت دعاؤها وقت الإجابة فصارت مطرودة عنها فحرمت بذلك الانتفاع بها وعادت العقوبة بذلك عليها لا على ناقتها إذ لا ذنب

ص: 331

لها بل عادت تخفيفا عنها بترك الحمل عليها والركوب لها وقال صلى الله عليه وسلم في غزوة بواط لما قال الأنصاري لناضحه: لعنك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا اللاعن بعيره"؟ قال: أنا يا رسول الله قال: "أنزل عنه لا يصحبنا ملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم فتوافقوا من الله ساعة يمتد فيها عطاؤه فيستجيب لكم".

ص: 332

‌في ما اختص به أبو بكر وعلي

روي أنه قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: "سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم امرءا أفضل عندي يدا في الصحابة من أبي بكر وإني لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام أفضل أو إني رأيت على كل باب منها ظلمة" - وروي أن الباب المستثنى منها باب علي بن أبي طالب.

عن عمر بن الخطاب لقد أعطي علي بن أبي طالب خصالا لأن تكون في خصلة منها أحب إلي من أن أعطي حمر النعم قالوا: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجه فاطمة وسكناه المسجد مع رسول الله يحل له فيه ما يحل لرسول الله والراية يوم خيبر.

وعن سعد أنه قال: شهدت لعلي أربعة مناقب لأن تكون في إحداهن أحب إلي من الدنيا وما فيها سد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب المسجد وترك باب علي فسأل عن ذلك فقال: "ما أنا سددتها وما أنا تركتها" - وفي حديث آخر فتكلم في ذلك ناس فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي فقال قائلكم فيه والله ما سددت ولا فتحت ولكني أمرت بشيء فأتبعته".

وعن ابن عباس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي كان يدخل المسجد وهو جنب وهو طريقه ليس له

ص: 332

طريق غيره.

وعن عبد الله بن عمر أنه سئل عن عثمان وعلي فقال: أما علي فلا تسألنا عنه ولكن إلى منزلته1 من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سد أبوابنا في المسجد غير بابه وأما عثمان فإنه أذنب ذنبا يوم التقى الجمعان عظيما عفا الله عنه وأذنب ذنبا صغيرا فقتلتموه.

لا تضاد ولا اضطراب فيما روينا إذ يحتمل أن يكون الأمر بالسد في قولين مختلفين فكان الأول منهما أمره بسد تلك الأبواب إلا الباب الذي استثناه أما باب أبي بكر وأما باب علي ثم أمر بعد ذلك بسد الأبواب التي أمر بسدها بقوله الاول ولم يكن منها الباب الذي استثناه بقوله الأول واستثنى بقوله الثاني الباب الثاني أما باب أبي بكر إن كان المستثنى الأول باب علي أو باب علي إن كان المستثنى الأول باب أبي بكر فعاد البابان مستثنيين بالاستثنائين جميعا ولم يكن ما أمر به آخرا رجوعا عما كان أمر به أولا وكان ما اختص به أبو بكر وعلي كما اختص غيرهما من الصحابة كاختصاص عمر بأنه من المحدثين واختصاص عثمان باستحياء الملائكة منه واختصاص طلحة بأخباره عنه أنه ممن قضى نحبه واختصاص الزبير بقوله: "لكل نبي حواري وحواريي الزبير"، والحواري الناصر واختصاص سعد بن مالك بجمعه له أبويه جميعا بقوله يوم أحدا: إرم فداك أبي وأمي، وفي أبي عبيدة بن الجراح بأنه أمين الأمة فهذه خصائص اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من اختصه بها ممن اختصه الله منهم بقوله:{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآية فبانت به فضيلتهم وارتفعت به درجاتهم ثم قال: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فدخل في ذلك جميع الصحابة فثبت بذلك أن للصحابة فضلا على الناس جميعا وأنهم يتفاضلون بما كان منهم مما قد ذكره الله تعالى في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

1 هكذا ولعله ولكن انظر إلى منزله- ح.

ص: 333

‌في كراهة التبرج بالزينة

روي مرفوعا كراهية التبرج بالزينة قبل محلها في العشرة الأشياء التي كرهها في حديث ابن مسعود وذلك أن الله تعالى قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} الآية فكان محل التبرج وهو التبدي بمحضر من في هذه الآية وكان التبدي بمحضر غيرهم منهيا عنه وهو المكروه والمنهي عنه.

ص: 334

‌في لعن من لا يستحقه

عن عبد الله بن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن اللعنة إذا وجهت إلى أحد توجهت فإن وجدت عليه سبيلا أو وجدت فيه مسلكا دخلت عليه وإلا رجعت إلى ربها عز وجل فقالت: أي رب أن فلانا وجهني إلى فلان وإني لم أجد عليه سبيلا ولم أجد فيه مسلكا فما تأمرني؟ قال: ارجعي من حيث جئت".

وروي أن ابن مسعود أتى أبا عبيد وكان صديقا له فاستأذن أهله فدخل عليهم فسلم عليهم واستسقاهم من الشراب فبعثت المرأة الخادم إلى الجيران في طلب الشراب فاستبطأتها فلعنتها فخرج عبد الله فجلس في جانب الدار فجاء أبو عبيد فقال: رحمك الله وهل يغار على مثلك ألا دخلت على ابنة أخيك فسلمت عليها وأصبت من الشراب قال: قد فعلت ولكن لعنت المرأة الخادم فخفت أن تكون الخادم معذورة فترجع اللعنة فأكون بسبيلها فذلك الذي أخرجني.

لا منافاة بين ما روينا في المرأة اللاعنة بعيرها وفي الرجل الذي لعن بعيره حيث لم ترجع اللعنة على لاعنيهما مع أنه لا ذنب للبعيرين يستوجبان به اللعن وبين هذا الحديث لأن اللعن للأشياء التي لا ذنوب لها وليس بمكلف يرجع إلى معنى الدعاء عليها فيعود ذلك على لاعنه عقوبة عليه يمنع الانتفاع بما لعنه ويتضرر اللاعن به وأما اللعن للإنسان قد يكون منه الأخلاق المذمومة التي يكون بها ملعونا فيكون لاعنه غير معنف في لعنه إياه لأن الله عز وجل لعن الظالمين وقال:

ص: 334

{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قنوته من لعن من القبائل وكان ذلك سببا لقتلهم حتى لم يبق منهم أحد وإن كان الملعون بخلاف ذلك كان لاعنه ممن قد سبه فاستحق العقوبة على سبه إياه وهي بعود اللعنة إليه.

ص: 335

‌في من سرته حسنته وساءته سيئته

في من سرته حسنته وساءته سيئة

روي مرفوعا: "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن" يعني: فيرجو ثوابه من الله ويخاف عقابه فهو مؤمن لأن الرجاء والخوف من الأحوال المحمودة في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} .

وعن أبي هريرة مرفوعا أن رجلا أذنب ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا أو عملت ذنبا فاغفره فقال عز وجل: عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخرا وقال: أذنبت ذنبا آخر فقال: أي رب إني عملت ذنبا فاغفره فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر أو أذنب ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره فقال: عبدي علم أن له ربا يغفر الذين ويأخذ به أشهدكم إني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء.

وذلك لأن علم العبد بذنبه وعقابه عليه إن شاء وبمغفرته له إن شاء إيمان منه به وسبب لرجائه وخوفه فلذلك يسره حسناته ويسوءه سيئاته بخلاف من ظن أن الله يخفي عليه خافية فإنه كافر قال تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} الآية فاستحق النار مع الأشرار.

ص: 335

‌في الدخول على أهل الحجر

عن محمد بن أبي كبشة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 335

في غزوة تبوك فتسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فنودي في الناس الصلاة جامعة، فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره فقال:"علام تدخلون على قوم غضب الله عليهم" فناداه رجل تعجبا منهم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأعجب رجل من أنفسكم يخبركم بما كان قبلكم وبما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددو فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا ثم يأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا". لما كشف صلى الله عليه وسلم المعنى الذي لأجله منعهم من الدخول دل على أنه لو دخلوا عليهم لغير ذلك جاز لهم، يؤيده ما روي عن عبد الله بن عمر قال: مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم ما أصابهم" ثم زجر فأسرع حتى خلفها، فقوله:"باكين حذرا" أي: من أن يخالفوا أمر الله فينزل بهم عند ذلك ما نزل بهم ففي ذلك الاعتبار منهم.

وعن أبي ذر أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا على واد فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إنكم بواد ملعون فأسرعوا" فركب فرسه يدفع ودفع الناس ثم قال: "من كان اعتجن عجينه فليطعمها بعيره ومن كان طبخ قدرا فليكفأها" - لما غضب الله على أهل ذلك الوادي جعل ماءهم ماء يضرهم ويضر أمثالهم من المكلفين فأمروا فيما عجنوا بذلك الماء أن لا يأكلوه وأباح لهم أن يطعموه إبلهم التي لا تعبد عليها ولا ذنوب لها وكان إسراعه صلى الله عليه وسلم ليقتدي الناس به خوفا منه عليهم أن يؤاخذوا بذنوبهم هناك كما أخذ من تقدمهم من أهل الوادي هناك والمراد بلعن الوادي لعن أهله المغضوب عليهم كقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} والمراد: أهلها بدليل قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} وقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} .

ص: 336

‌في المؤمن في ظل صدقته

روي مرفوعا: "ظل المؤمن يوم القيامة صدقته" أي ثواب صدقته لأن الثواب يدفع عنه ما يؤذيه يوم القيامة كما يدفع الظل عن الرجل في الدنيا ما يؤذيه من حر الشمس فهي استعارة.

ص: 337

‌في عبادة الحنفاء

عن عياض بن حمار سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "أن الله عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم من دينكم هذا وإن كل مال نحلته عبدي فهو له حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنه أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم ينزل به عليهم سلطانا"، ومن وجه آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما:"إلا أحدثكم بما حدثني الله عز وجل في الكتاب أن الله عز وجل خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين فأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فمن شاء أفنى ومن شاء أحدث فجعلوا مما أعطاهم الله عز وجل حلالا وحراما وعبدوا الطاغوت فأمرني الله عز وجل أن آتيهم فأبين لهم الذي جبلهم عليه فقلت لربي عز وجل أخاطبه: إني أن آتهم به تثلغ رأسي قريش كما تثلغ الخبزة فقال لي: أمضه أمضك وانفق انفق عليك وقاتل بمن أطاعك من عصاك فإني سأجعل مع كل جيش عشرة أمثالهم من الملائكة ونافخ في صدر عدوك الرعب ومعطيك كتابا لا يمحوه الماء أذكركه نائما ويقظانا فأبصروني وقريشا هذه فإنهم قد رموا وجهي وسلبوني أهلي وأنا أناديهم فإن أغلبهم يأتوني ما دعوتهم إليه طائعين أو كارهين وإن يغلبوني فاعلموا إني لست على شيء ولا أدعوهم إلى شيء".

الحنف الميل في اللغة وجمع الحنيف حنفاء يعين خلقوا ميلاء إلى ما خلقوا له وهو المذكور في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فكانوا بذلك حنفاء وكان في خلقهم كتب بعضهم سعيد أو بعضهم شقيا فالشقي من أطاع

ص: 337

الشياطين فيما دعته إليه والسعيد من خالفهم وتمسك بما خلق له من العبادة وترك الميل إلى ما سواه وعن ابن عباس في تأويل: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} قال علي: ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي وشقوتي وسعادتي فالخلق من الله لعبادته هو ما كتب فيهم من طاعة معصية لا يخرجون عن ذلك إلى غيره وإن كان أعمالهم السعيدة كانت باختيارهم لها وإن كان أعمالهم الشقية كانت باختيارهم لها أيضا وكل ذلك مما قد سبق من الله فيهم أنهم سيعملونها فيسعدون بها أو يشقون بها.

ص: 338

‌في بيع التالد

روي مرفوعا: "من باع تالدا سلط الله عليه تالفا" وما من عبد يبيع تالدا إلا سلط الله عليه تالفا التالد عند العرب هو القديم والمعنى والله أعلم أن من متعه الله بشيء طال مكثه عنده فقد أنعم عليه بذلك فإذا أباعه فقد استبدل به ضد ما أنعم الله عليه به فيسلط الله عز وجل عليه عقوبة له متلفا لما استبدل به لأن معنى تالف متلف قال العجاج: ومنزل هالك من تعرجا أي مهلك ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع دارا أو عقارا ثم لم يجعل ثمنه في مثله وفي رواية من ثمنه في مثله لم يبارك له فيه وفي رواية فمن أن لا يبارك له فيه" قال ابن عيينة في قوله تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} يعني: الأرض فكان من باع عقارا باع ما بارك الله عز وجل فيه فعاقبه إذا استبدل بغيره وإن يجعله غير مبارك له فيه.

ص: 338

‌في لمن خاف مقام ربه جنتان

عن أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق فقال رسول اله صلى الله عيه وسلم الثانية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق فقال الثالثة {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله

ص: 338

قال: "وإن رغم أنف أبي الدرداء"، وعن مجاهد:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقام الله فيدعها ومعنى الحديث وإن زنى وإن سرق ثم زال عن تلك الحال إلى حال الخوف لله فرد السرقة على صاحبها لأن الخوف من الله يمنع من صغير معاصي الله وكبيرها فهما حالان متضادان فلا يجتمعان فلابد من الانتقال إلى الحال المحمودة التي يرجو فيها وعده ويخاف وعيده فيجتنب معاصيه ومصداقه {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي: مكان سيئاتهم على الخوف كقوله واسأل القرية كالإيمان مع الكفر والطاعة مكان المعصية.

ومن هذا المعنى ما روي مرفوعا من رواية أبي الدرداء: "من شهد أن لا إله إلا الله أو مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ولم يدخل النار" قال: قلت: وإن زنى وإن سرق قال: "وإن زنى وإن سرق وإن رغم أنف أبي الدرداء"، ورواه أبو ذر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: أن من قال لا إله إلا الله عارفا بما يجب على أهلها فقد قالها وهو عارف لمقام الله عز وجل وبما يرجوه أهلها ويخافونه عند خلافهم أمره والخروج عن طاعته وذلك لا يكون إلا والزنى والسرقة فيه قد زال عنهما وانتقل منهما إلى ضدهما يؤيده ما في حديث أبي موسى من قال: لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة أي موفيا لها حقها.

ص: 339

‌في محقرات الذنوب

قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: "إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا"، فيه أن الإيمان لا يرفع عقوبة صغائر الذنوب فكيف بكبارها يدل عليه قوله تعالى:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} الآية.

ص: 339

‌في عالم المدينة

روي مرفوعا: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة" قال سفيان: إن كان في زماننا أحد فذلك العمري العابد

ص: 339

العالم الذي يخشى الله واسمه عبد الله بن عبد العزيز1 قال الطحاوي: اسم العالم يستحق بشيئين بعلم الكتاب والسنة وشرائع الدين فهو العالم الفقيه والآخر بخشية الله تعالى قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فالمراد بالعالم في الحديث هو العالم الفقيه لأن آباط الإبل لا تضرب إلا في طلب العلم الذي هو الفقه لا في طلب العلم الذي هو الخشية فمن كان معه من الفقهاء من خشية الله تعالى ما ليس مع غيره منهم فهو في أرفع مراتب العلماء ولا يعلم أنه كان بالمدينة بعد الصحابة وبعد التابعين من اجتمع فيه المعنيان غير هذا الرجل لأنه كان فقيها زاهدا ورعالا تأخذه في الله لومة لائم وكان يخرج إلى البادية فيعلم من لا يحضر البلد أمر دينه ويفقهه ويرغبه في القربات ويحذره من المعاصي فرضوان الله عليه وعلى سفيان أيضا بتنبيهه على هذا الموضع ومعرفته بأهله وأجمع العلماء أن الرجل إذا كان أعلم فهو أولى بالإمامة من الأفضل لزيادة فضل العلم على فضل العمل وروي فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.

1 سفيان هو ابن عيينة فيما يظهر وقد قال مرة أخرى هو مالك ووافقه عبد الرزاق وغيره، قال الشافعي: مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين ولا ريب أن مالكا أعلم من العمرى وألى مالك ضربت أكباد الإبل من أقطار العالم لا إلى العمرى والعمرى نفع بعض أهل البادية بالتعليم كما سيذكره ومالك نفع الأمة إلى يوم القيامة بحفظ الحديث وضبطه وغير ذلك ولا تكاد تروى للعمرى إلا أربعة أحاديث وليس له في الأمهات الست شيء وقد كان لمالك رحمه الله من العبادة والخشية نصيب وافر رحم الله الجميع- ح.

ص: 340

‌في مدة مقام أبي بكر في الغار

روي عن طلحة بن عمرو البصري قال: كان الرجل منا إذا هاجر إلى المدينة إن كان له عريف نزل على عريفه وإن لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة وإني قدمت المدينة ولم يكن لي بها عريف فنزلت مع أصحاب الصفة

ص: 340

فوافقت رجلا فكان يخرج لنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مد تمر بين الرجلين1 فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض صلاته فلما سلم ناداه الرجل من أصحاب الصفة يا رسول الله أحرق التمر بطوننا وتحرقت الجنب2 فمال إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما لقي من قومه من البلاء والشدة ثم قال: "لقد كنت أنا وصاحبي بضع عشرة ليلة وما لنا طعام إلا البرير حتى قدمنا على إخواننا من الأنصار فواسونا في طعامهم وطعامهم هذا التمر وإني والله الذي لا إله إلا هو لو أجد لكم التمر والخبز لأطعمتكموه فإنه علة3 إن تدركوا زمانا ومن أدركه منكم يلبسون فيه مثل إستار الكعبة ويغدي ويراح عليهم بالجفان".

ثمر الأراك مرد ثم برير ثم كباث كثمر النخل بلح ثم بسر ثم رطب ينتقل من بعضها إلى بعض ففيه أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إقامته وإقامة صاحبه في الغار4 الذي تواريا فيه بضع عشرة ليلة وكان طعامهم فيها الطعام المذكور فيه وفيه دلالة على شدة الجهد الذي كانا لقيا في تلك المدة.

وروي أن عائشة قالت في حديث طويل: لم أعقل أبواي إلا وهما يدينان الدين قالت: فلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له: ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب لقن ثقف فيدلج من عندهما في سحر فيصبح في قريش بمكة كبائت معهم

1 زاد في المستدرك 2/15 ويكسونا الخنف قال في النهاية هي جمع خنيف وهو نوع غليظ من أردأ الكتان.

2 لفظ المستدرك وتخرقت عنا الخنف ومثله في مسند أحمد 3/487 ووقع هنا في الأصل وتحرقت الجنب وهو خطأ- ح.

3 كذا ويمكن أن تكون عله أي لعله ولفظ المستدرك عسى.

4 لم يتقدم في الحديث ذكر الغار ولا هو في رواية المستدرك ولا في رواية أحمد في مسنده ولكن كأنه وقع في بعض الروايات على ما يظهر من فتح الباري باب الهجرة فراجعه- ح.

ص: 341

فلا يسمع أمرا يكيدون به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر غنمه ويريحها عليهما فيبيتان في رسل منحتهما الحديث فلقائل أن يقول: بين الحديثين اضطراب شديد ولكن الجواب أن هذه الآثار كلها صحيحة لعدل رواتها فيجوز أن يكون كل من طلحة وعائشة أخبر عن غار غير الغار الذي أخبر عنه الفريق الآخر كانت إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في كل واحد منهما غير إقامته في الآخر منهما وقد شد إقامته مع صاحبه في أحدهما قول الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، ثم ما روي عن أبي بكر فيما كان يخافه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم على نفسه في أحد الغارين اللذين كانا فيه حين قام المشركون وهم على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله: لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدمه أبصرنا تحت قدمه فقال: "يا أبا بكر ما ظنك بإثنين الله ثالثهما".

وعن عمرو بن ميموم قال: إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه سبعة رهط فسألوه عن علي فقال: كان أول من أسلم من الناس بعد خديجة ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فجعل المشركون يرمون كما كانوا يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يحسبون أنه نبي الله فجاء أبو بكر فقال: يا نبي الله فقال علي: أن نبي الله قد ذهب نحو بئر ميمون فأتبعه فدخل معه الغار وكان المشركون يرمون عليا حتى أصبح.

كان ذلك من فعل علي لأمر كان من النبي صلى الله عليه وسلم إياه بذلك ليكون سببا لبعد النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وليقصر المشركون عن إدراكهم إياه بدليل ما روي عن ابن عباس قال: قال علي: لما انطلق صلى الله عليه وسلم ليلة الغار فأقامه في مكانه وألبسه برده فجاءت قريش تريد أن تقتل النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يرمون عليا وهم يرون أنه النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 342

فجعل يتضور فنظروا فإذا هو علي فقالوا: لو كان صاحبك لم يتضور ولقد استنكرنا ذلك.

وأعلام علي أبا بكر حين أتى فظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي قصد إليه لا يكون إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه بذلك ليلحق به وانفرد أبو بكر بالصحبة له صلى الله عليه وسلم والدخول في الخوف معه فكان الذي كان من على بعض ليلة وكان الذي كان من أبي بكر ثلاث ليال أو بضع عشرة ليلة والبضع ما بين الثلاث إلى العشر فكان جملة ذلك ستة عشر يوما أو أكثر انفرد بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقايته بنفسه مع الخوف والجهد حتى قدما دار الهجرة فاختص أبو بكر بالذكر في كتاب الله تعال وكونه عز وجل معهما في تلك المدة صلى الله عليه وسلم ورضي عن أبي بكر مؤنسه في الغار وصاحبه.

ص: 343

‌في نهي أبي بكرة الأحنف من نصرة علي

عن الأحنف بن قيس أخذت سلاحي وأنا أريد أن أنصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفلا أحدثنك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا توجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فهما في النار" فقيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه قد أراد أن يقتل صاحبه".

لما كان علي رضي الله عنه أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو على تنزيله علم به أنه خليفة رسول الله فيه فطلب المنزلة التي يلحق بها قتال من وعده صلى الله عليه وسلم أنه يقاتله وإن طلحة والزبير لم يكونا علما ذلك كعلي ولم يكن عندهما على أولى منهما مع علمهما أنه لابد للناس ممن يتولى أمرهم ليقاتل عدوهم ويقيم جمعتهم ويأخذ زكاتهم ويصرفها في مصرفها ويحج بهم ويقسم فيئهم إلى غير ذلك مما لا يقوم به إلا الأئمة فقاتلاه لذلك

ص: 343

ولكن من كان معه توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أولى ممن ليس معه ذلك فكل فريق منهم قاتل بالتحري والاجتهاد والذي كان من أبي بكرة إلى الأحنف لم يكن نهيا بل تنبيها له لئلا يقع فيما لا يجوز له إذ من قاتل بالتحري دون من قاتل بالنص فعسى تدركه الحمية بما دخل فيه من القتال فيتمادى عليه فيدخل بذلك في الجنس الذي حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم بما حدثه عنه من ذلك قول أحد ابني آدم {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} الآية وكان له مديده ليدفع عن نفسه ولكنه خاف أن يرجع صاحبه عما كان هم به ويتمادى هو في الدفع حتى يكون في ذلك تلف صاحبه فخاف الله من أجل ذلك ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، مع علمه أن لا مؤاخذة فيما لأي ملك ولكن على التوقي من الزيادة فيما لا يملك فكان الذي من أبي بكرة للأحنف تنبيها على ما هو مخوف عليه وكان انصراف الأحنف على الإشفاق منه لعلمه بنفسه وبأخلاقه التي هو عليها.

ص: 344

‌في اهتزاز العرش

عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ"، وروي أن أمه بكت وصاحت لما أخرجت جنازته فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك فإن ولدك أول من ضحك الله له واهتز له العرش"، واهتزاز العرش لم يبين أي العرش هو؟ فقيل: أنه السرير الذي حمل عليه عن ابن عمر اهتز العرش لحب لقاء الله عز وجل سعدا فقالوا: وما العرش؟ قال: سبحان الله لقد تفسخت أعواده أو عوارضه وأنه على رقابنا فكان آخر من خرج من قبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أن سعدا ضغط في قبره ضغطة فسألت الله أن يخفف عنه وقرأ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} " قال: السرير، ومنه ما روي أن أسيد بن حضير لما أخبر بموت امرأته بكى فقيل له: أتبكي؟ قال: ومالي لا أبكي وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

ص: 344

"إن العرش اهتزت أعواده لموت سعد بن معاذ" وعلى هذا فيحتمل أن الله تعالى ألهمه بعد أن حمل عليه سعد بمكانته ومنزلته فصار بذلك أهلا للمعرفة فاهتز له كالخشبه التي كان يخطب إليها صلى الله عليه وسلم إشفاقا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقيل: أنه عرش الرحمن، وروي أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش؟ قال: فخرج إلى سعد فإذا سعد قد مات. وروت رميثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات سعد قال: لقد اهتز له عرش الرحمن وكذلك افتخار الأوس على الخزرج بقولهم: منا غسيل الملائكة حنظلة ومنا من اهتز له عرش الرحمن ومنا من حمته الدبر ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين مشهور لا يخفى ويحتمل أن يكون العرشان جميعا اهتزا وقيل: الاهتزاز هو السرور والارتياح فيكون الله تعالى ألهم العرشين موضع سعد منه فكان منهما ما كان وقيل: الاهتزاز كان من الملائكة الذين يحملون العرش ويحفون به وأضيف إلى العرش كقوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وهذا جبل نحبه ويحبنا أي: يحبنا أهله وهم الأنصار ونحبهم والله أعلم بمراد الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.

ص: 345

‌في المستشار

روي مرفوعا: "المستشار مؤتمن". الرجل إذا استشار أخاه ملتمسا فضل رأيه مقلدا له في ذلك ليمضيه على نفسه فإن أشار عليه بخلاف الصواب فقد غشه وخانه والخيانة ضد الأمانة، وروي أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشد فقد خانه، ففيه أنه لو أشار برشد لوفي أمانته.

ص: 345

‌في النساء والمال

روي مرفوعا: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء"

ص: 345

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال"، ففيه أنه ترك في أمته فتنة غير النساء منها فتنة المال وهي تعم الرجال والنساء وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة السناء وفتنة الدنيا بقوله:"أن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل من النساء". وفتنة الدنيا أعم من الجميع إذا المال والنساء وغيرهما داخلة فيها.

ص: 346

‌في الأعمى البصير

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذهبوا بنا إلى بني واقف نعود ذلك البصير وكان محجوب البصر"، إنما وصف صلى الله عليه وسلم الأعمى بالبصير ولم يذكره بالعمى كما قال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} و {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} لأن البصر يكون بالقلب وبالعين فذكره النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن حاليه وهو البصر الذي بقلبه وإن كان جائزا ذكره بالعمى.

ص: 346

‌في خير الكافر

عن عائشة قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابن جدعان في الجاهلية كان يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا يا عائشة أنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"، وعن عدي ابن حاتم قلت: يا رسول الله إن أبي كان يفعل كذا وكذا ويصل الرحم قال: "إن أباك أراد أمرا فأدركه"، يعني: كان ذلك لقصد منه قد بلغه، وعن سلمان بن عامر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أن أبي كان يقري الضيف ويفعل ويفعل وأنه مات قبل الإسلام قال: "لن ينفعه ذلك"، فلما ولي قال:"على الشيخ" فلما جاء قال: "إن ذلك لن ينفعه ولكن في عقبه إنهم لن يفتقروا ولن يذلوا ولن يخزوا"، يحتمل إنما رده لأن الملك نزل في أمر أبي سلمان كما في حديث أبي قتادة هل

ص: 346

يكفر الله خطاياه بالقتل في سبيل الله؟ قال: "نعم" ثم قال له: "أردده إلا الدين" كذلك قال جبريل وما روي عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم هل لي فيها من أجر؟ قال: "أسلمت على ما سلف لك من خير"، أراد بالخير ما يحمد عليه مثله على ما كان منه وإن كان لا أجر له فيه فلا يخالف ما تقدم من الآثار وجملة الأمر فيه الرجوع إلى مراد العامل بعمله لقوله عليه السلام:"إنما الأعمال بالنية" الحديث، وإذا كانت الأعمال في الإسلام لغير الله لا يكون لعاملها إلا ما قصد بها فأحرى أن تكون الأعمال في الجاهلية لا يثاب فاعلوها ولا يحصل لهم إلا ما قصدوا بها من أسباب دنياهم.

ص: 347

‌في الأكل بغيره

عن المستورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله عز وجل يطعمه مثلها من جهنم ومن اكتسى برجل مسلم ثوبا فإن الله عز وجل يكسوه مثله من جهنم ومن قام برجل مسلم مقام سمعة فإن الله عز وجل يقوم به مقام سمعة يوم القيامة"، وذلك على الرجل يأكل بارجل أموال الناس كالذي ياخذ أموالهم ليسد بها فقره ويأخذ لنفسه وهو مثل ما يقال فلان يأكل بدينه وفلان يأكل بعمله ومثله من اكتسى برجل مسلم ومعنى من قام برجل مسلم أي من قام من أجله مقام سمعة لا لمعنى استحق به ذلك ولكن ليفضحه به ويسمع به فيه كان من أهل الوعيد المذكور.

ص: 347

‌في الخيلاء المحمودة

عن جابر بن عتيك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن من الخيلاء ما يحب الله تعالى ومنها ما يكره فأما الخيلاء التي يحب الله عز وجل اختيال المرء بنفسه عند الصدقة وعند القتال والخيلاء التي يكره الله عز وجل فالبغي والفخر"، الاختيال عند القتال هو: احتقار قرنه واقتداره عليه وقلة اكتراثه

ص: 347

به فيلقي بذلك الرعب في قلب عدوه ومثله الخيلاء عند الصدقة فإن الشيطان يعارضه فيها كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية فيري باختياله شيطانه قلة اكتراثه بوسوسته لقوة يقينه وثقته بالجزاء عند ربه فيقهره ويخالف هواه.

ص: 348

‌في قصة أيوب عليه السلام

روي أنس مرفوعا أن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من أخوانه كانا من أخص أخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين فقال له صاحبه وما ذاك قال منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به فلما راحا إليه فلم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال أيوب لا أدري ما يقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهة أن يذكر الله عز وجل إلا في خير وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عنها وأوحى إلى أيوب في مكانه اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فاستبطأته فتلقته تنظر وأقبل عليها قد أذهب الله عز وجل ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى والله ما رأيت أحدا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فإني أنا هو وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله عز وجل سحابتين فلما كانت إحداهما على اندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى منهما في أندر الشعير الورق حتى فاض.

قوله: فاكفر عنهما لا يجوز أن يكون كفارة يمين لأنه لا يجوز أن يكفر أحد عن يمينه قبل الحنث ولا بعده وهو حي ولكن هذا على الكفارة عن الكلام الذي ذكر الله عز وجل فيه بما لم يكن يصلح أن يذكر فيه والكفارة مغطية لما كفرت به عنه ولكن التغطية قد تكون بفناء المغطى كالبذر في الأرض

ص: 348

يغطي بالطين ولا ينبت إلا بعد فناء البذر ولأجله سمى الزارع كافرا وقد تكون ببقاء المغطى وظهوره بعد ذلك قال الشاعر:

في ليلة كفر النجوم غمامها

تأويل كفارة أيوب ما كان من ذكر الله من الرجلين بما لا يصلح أن يذكر كان خطيئة قد ظهرت وما ظهر من الخطايا إن لم يغير يعذب الله الخاصة والعامة عليها كما روي مرفوعا "أن الله لا يهلك العامة بعمل الخاصة ولكن إذا رأوا المنكر بين ظهرانيهم فلم يغيروه عذب الله العامة والخاصة" فلذلك تلاقاه أيوب بما يدفع به عذاب الله من الصدقة التي تكفر الذنوب وتدفع العقوبات من غير أن يكون للرجلين في ذلك كفارة تغطي معصيتهما أو تفنيها ومثله قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} والاستغفار ما كان من الجميع ولكنه كان من بعضهم ودفع به العقوبة عمن كانت منه المعاصي وعمن لم تكن منه وهذا أحسن ما تؤول كفارة أيوب عن الرجلين به والله أعلم.

ص: 349

‌في الأخوة والصحبة

روي عن طلحة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فلما اشرفنا على حرة وأقم إذا نحن بقبور قلنا: يا رسول الله هذه قبور إخواننا قال: "هذه قبور أصحابنا" فلما جاء قبور الشهداء قال: "هذه قبور أخواننا"، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت إخواننا"، قالوا: يا رسول الله لسنا بإخوانك قال: "بل أنتم أصحابي وأخواني الذين يأتون من بعدي وأنا فرطهم على الحوض".

الأخوة هي المصافاة التي لا غش فيها ولا باطن لها يخالف ظاهرها قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} ومنه: لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا والصحبة قد تكون بظاهر يخالفه الباطن الذي كان مع أصحابها بخلاف الأخوة.

ص: 349

‌في الجدل

عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقة وفاطمة ابنة رسول الله فقال: "ألا تصلون"؟ قال: فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع إلى شيئا ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم كراهة لقول علي ولا إنكارا منه عليه بل أعجل بالسرعة جوابه الصائب.

ومنه قول بلال وقد وكله بصلاة الصبح ليلة التعريس أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك فلم ينكر ذلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيما تلاه ما يدل على أن الإنسان قد يكون معه من الجدل ما يحسن من الجواب بما هو محمود منه.

ص: 350

‌في حلاوة المال وخضرته

عن سعيد المقبري عن خولة قال: جئناها لنسألها عن حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تحت حمزة بن عبد المطلب فحلف عليها بعده رجل من بني زريق فجاء زوجها ونحن عندها فقال: ما جاء بكم؟ قلنا: جئنا لنسألها عن حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: انظري ما تحدثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كذبا على رسول الله ليس كالكذب قالت: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دخل على عمه يعوده يقول: "أن هذا المال حلوة خضرة فمن أخذه بحقه بورك له فيه ورب متخوض فيما اشتهت نفسه من مال الله ورسوله له النار يوم القيامة" لم يقل خاضرا حلوا وهو مذكر لأنه رده إلى الدنيا إذ كان المال لا يكون إلا فيها.

ص: 350

‌في استخلاف عمر من بعده من الصحابة

روي أن عمر خطب يوما فقال: إني رأيت فيما يرى النائم ديكا أحمر

ص: 350

نقر في معقد ازاري ثلاث نقرات وإني استعبرت أسماء بنت عميس فقالت: يقتلك رجل من العجم وإني أخشى أن يكون موتي فجأة وإني أشهدكم إني أن أهلك ولم أعهد فالأمر إلى هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وروي مثله بمعناه عمرو بن ميمون ومعدان بن أبي طلحة وهم أئمة العلم عدول فيه مأمونون عليه مقبولة روايتهم فلا يجوز لذي عقل أن يتعلق برواية أبي مخرمة الذي لا يعرف ولا يعد من أهل العلم ولا يعرف له لقاء عمر فيما قد خلفه فيه وبالله التوفيق.

ص: 351

‌في تعليم القرآن وتعلمه

روي مرفوعا: "خياركم من تعلم القرآن وعلمه أو خيركم من تعلم القرآن وعلمه" فيه أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خير القرن الذي هم منه من تعلم القرآن وعلمه ويجوز أن يكونوا متفاضلين بمعنى زائد على المعنى المذكور من العلم بالأحكام التي في كتابه والتي أجراها على لسان رسوله ممن ليس بقيتهم فيها كذلك فيكون بذلك أفضل ممن سواه من أهل قرنه ثم كذلك كلما تعالوا بمعنى من المعاني المحمودة يفضلون من سواهم ممن هو في طبقته حتى يتناهى إلى من هو أعلاهم في تلك المعاني فيكون خيرهم وكذلك الحكم في كل قرن لأن الله تعالى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم وفضل القرن الذي بعث فيها على بقيتها ثم الذي يليه وهلم جرا إلى أخر الزمان.

ص: 351

‌في طول العمر

عن أبي بكرة سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ أو قال: خير- قال: "من طال عمره وحسن عمله" قيل: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء عمله"، ظاهره العموم والمراد به الخصوص لأنه معلوم أنه ليس أفضل من الأنبياء ولا من الصحابة والمراد من خير الناس مثله قوله

ص: 351

تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} والمراد بهما بعض الأشياء ومثله ما روي عن درة قالت: كنت عند عائشة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أيتوني بوضوء" فابتدرت أنا الكوز فتوضأ ثم رفع طرفة أو عينه إلى فقال: "أنت مني وأنا منك" فأتاه رجل وكان سأله على المنبر من خير الناس؟ قال: "أفقههم في دين الله عز وجل"، فيه جلالة درة بنت أبي لهب لأنها كانت من المهاجرات فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إلى نفسها لا إلى أبيها لأن الله تعالى قال:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فكان الذي من أبي لهب لا يتعداه إلى ولده ولا إلى غيره والذي اكتسبته ابنته من الخير لا يتعداها إلى من سواها من أب ولأعبره.

ص: 352

‌في ما اجتمع لأبي بكر وابنه وابن ابنه من المبايعة

عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه روحه مر به ابن لعبد الله أو عبد الرحمن بن أبي بكر1 ومعه إراكة خضراء فلحظ إليه فدعوته فأخذتها منه فناولتها إياه فوضعها على فيه وكان رأسه بين سحري ونحرى فبينما نحن كذلك إذ رفع رأسه فظننت إنه بعض ما يريد من أهله وكانت ريحا باردة فقبض الله عز وجل روحه وما أشعر.

1 الثابت في صحيح البخاري وغيره من رواية جماعة عن عائشة دخل عبد الرخمن بن أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدري ومع عبد الرحمن سواك رطب وفي رواية ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة ولم يذكر الحافظ في فتح الباري ما يخالف ذلك والله أعلم، نعم ذكروا أن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر ولد على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال موسى بن عقبة له رؤية وقال ابن شاهين كان أسن من عمه يعني محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي بكر ولد في طريق المدينة إلى مكة في حجة الوداع- ح.

ص: 352

علمنا بهذا الحديث أنه قد كان لعبد الله ولعبد الرحمن ابن ومحال أن يكون حينئذ في حال من يسعى إلا وسنه متقدمة لفتح مكة وكان الناس بمكة جاؤوا بأبنائهم الصغار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يبايعوا مع آبائهم كما بايع من لم يبلغ قبل ذلك كالزبير وعلي فكان ابن عبد الله وابن عبد الرحمن كذلك وكان الناس يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم فيكون ابن ابن أبي بكر من أولائك ويحتمل أنه كان عقل البيعة فبايعه ويكون أبو بكر ممن تفرد بالبيعة من نفسه يومئذ وبالبيعة من ابنه وبالبيعة من ابن ابنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعلم اجتماع ذلك لأحد من الناس سواه.

ص: 353

‌في فضل أهل بدر

عن رافع بن خديج أتى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أو قال: ملك عظيم فقال: كيف أهل بدر فيكم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم عندنا أفضل الناس" قال: الملك كذلك عندنا من شهد بدرا من الملائكة لا يعارض هذا قوله: جميعا وهم في أنفسهم متفاضلون بأسباب تختص ببعضهم كالأنبياء أفضل الناس وفيما بينهم متفاضلون فأهل بدر يفضلون أهل قرنهم بشهودهم بدرا واختصاصهم بهذا.

ص: 353

‌في أحب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

عن أسامة بن زيد قال: مررت فإذا علي والعباس قاعدان فقالا: يا أسامة استأذن لنا فقلت: يا رسول الله إن عليا والعباس بالباب يستأذنان فقال: أتدري ما جاء بهما قلت: لا قال: لكني أدري ائذن لهما فدخلا فقال: علي يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: "فاطمة" ابنة محمد قال: إني لست أسألك عن النساء إنما أسألك عن الرجال قال: "من أنعم الله عليه وأنعمت عليه؟ أسامة بن زيد" قال علي: ثم من؟ قال: "ثم أنت"؟ وفي رواية فدخلا فقالا: يا رسول الله

ص: 353

نسألك عن أحب أهل بيتك إليك فقال: "فاطمة" قالا: لسنا نسألك عن النساء إنما نسألك عن الرجال قال: "أسامة" فقال العباس شبه المغضب ثم من يا رسول الله؟ قال: "ثم علي" فقال: جعلت عمك آخر القوم فقال: يا عباس إن عليا سبقك بالهجرة،

وما روى ابن عمر قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمرته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل وإيم الله أنه كان خليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعد"، لا يعارض ما ذكرنا لأنه لما سأله علي عن أحب الناس إليه وعن أحب أهل بيته إليه فقال:"فاطمة" دل أنها في المحبة فوق أسامة وقوله: في أسامة من أحب الناس يريد من أحب الرجال.

وما روي عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشه على ذات السلاسل قال: فقلت أي الناس أحب إليك؟ قال "عائشة": قلت: فمن الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: ثم من قال "عمر": فعد رجالا يحتمل أن يكون عمرو علم مزية أهل البيت في المحبة على جميع الناس فكان سؤاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس من سوى أهل البيت وعلم صلى الله عليه وسلم مراده فأجابه عليه وأجاب عليا بما أجابه من أحب الناس من أهل بيته وأسامة كان حينئذ من أهل بيته لأن أباه كان يدعي زيد بن محمد ثم نسخ بقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية ولكن محبة أسامة بعد أهل البيت مقدم على غيرهم.

وما روي عن عائشة أنها سألت أي أصحاب رسول الله كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر قيل: ثم من؟ قالت: عمر قيل: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح قيل: ثم من؟ فسكتت يحتمل أنها أخبرت على ما وقع في قلبها وفي ظنها فقد روي عن عائشة أنه ذكر لها علي فقالت: ما رأيت رجلا كان أحب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ولا امرأة أحب إليه صلى الله عليه وسلم من امرأته

ص: 354

فالتوفيق أنها كانت علمت أن أحدا لا يذهب عنه تقدم أهل البيت في محبته صلى الله عليه وسلم فأجابت أولا بما أجابت ولما سألت عن علي أجابت بما أجابت به فيه يحققه ما روي عن النعمان بن بشير أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة تقول والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك من أبي مرتين أو ثلاثا فاستأذن أبو بكر فدخل فأهوى إليها وقال يا بنت فلان ألا أسمعك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة ما قالته من ذلك فخرج بحمد الله معانى الآثار خروجا لا تضاد فيه ولم يكن تقدم علي في المحبة على أبي بكر بأفضل من تقدم أبي بكر في الفضل عنده صلى الله عليه وسلم فلكل واحد منهما موضعه من محبته ومن فضله رضوان الله عليهم أجمعين.

ص: 355

‌في عثمان وخلافته

عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد يوما ألما فأرسل إلى عثمان أن الله عز وجل سيقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه فقيل لها فأين كنت لم تذكري هذا قالت نسيته فيه ما يدل على أن أوصافه التي بها استحق الخلافة وأجمع الناس على استحقاقه من أجلها لم تتغير عما كانت عليه لأنه لو أحدث ما لا يصح معه بقاؤه على الخلافة على زعم بعض لما أمره صلى الله عليه وسلم بالتمسك بها.

ص: 355

‌في أما بعد

روى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله في ابتداء خطبته أما بعد في حديث المسور بن مخرمة خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما بعد فإن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب" الحديث والمعنى فيه أن العرب من عادتها ألا يجازوا الاختصار في الكلام بالإيماء إلى ما يفهم به من مخاطبة مراده وكانت عادتهم استفتاح الكلام

ص: 355

باسم الله وحمده والثناء عليه فكان معنى قولهم أما بعد أما بعد ذي كان منهم من التسمية والحمد والثناء كان كذا وكذا فيذكرون حاجتهم مع حدفهم ذكر ما أرادوه من ذلك ولهذا يرفعون بعد إذ كان المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد ولو جاؤا بالكلام لنصبوا بعد فقالوا أما بعد كذا وكذا لأنها صفة فلو حذفوا رفعوا بعد وهو الذي يسمى غاية ومنه قوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ومنه أعطيتك درهما لا غير ولو ذكروا لنصبوا غير فقالوا أعطيتك درهما لا غيره.

ص: 356

‌في شفاعة الأولياء

عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل أهل الجنة صفوفا وأهل النار صفوفا فينظر الرجل من صفوف أهل النار إلى الرجل من صفوف أهل الجنة فيقول يا فلان ألا تذكر يوم اصطنعت إليك معروفا فيقول: اللهم إن هذا اصطنع إلي في الدنيا معروفا فيقال له: خذ بيده وأدخله الجنة برحمة الله عز وجل"، فيه إن الشفاعة قد تكون من ذوي المنازل العليا وإن لم يكونوا أنبياء لكن في أهل التوحيد من المذنبين فضلا من الله على عباده الصالحين فيشفعون على قدر منازلهم كما أن الأنبياء يشفعون فيما يشفعون فيه لعلو منازلهم.

ص: 356

‌في موضع سوط من الجنة

روي مرفوعا: "موضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها" أي موضع سوط مما أوتي من أدخل الجنة خير من الدنيا وما فيها إذ لا منفعة في ذلك المقدار من الجنة كما يقول الرجل شبر من داري أحب إلي من كذا وكذا ليس على أنه ليس له الإشبر منها وإنما يعني ذلك المقدار من الدار التي هي له فقد روي أن أدنى أهل الجنة منزلة يعطى مثل الدنيا وعشرة أمثالها.

ص: 356

‌في العزلة

عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير

ص: 356

الناس منزلا"؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: "رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله حتى يقتل أو يموت وأخبركم بالذي يليه"؟ قلنا: نعم يا رسول الله قال: "رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس وأخبركم بشر الناس منزلا"؟ قلنا: نعم يا رسول الله قال: "الذي يسأل بالله عز وجل ولا يعطي به"، لا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، لأن قوله: "خير الناس" عام أريد به الخصوص يعني من خير الناس كقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله وخياركم من تعلم القرآن وعلمه"، وقال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ولم تؤت مما اختص الله تعالى به سليمان وكذا قوله: "أخبركم بالذي يليه" يحتمل أن المراد به من خير أهلها ويحتمل أن يكون بين المنزلتين منزلة فيكون من يخالط ويصبر أفضل ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم باعتزاله شرورهم وانقطاعه عنهم ولعلها فوق المنزلة التي هي قبلها وتكون هذه تليها على حاله يؤيده حديث أبي ذر فيما تقدم في الثلاثة الذين يحبهم الله ذكر فيهم رجل له جار يؤذيه فيصبر على أذاه ويحتسبه حتى يفرج الله له منه أما بموت وأما بغيره فإذا نال هذه الدرجة بصبره على أذى رجل واحد فالذي بذل نفسه للناس ويصبر على أذاهم ويخالطهم بذلك أولى.

ويحتمل أن يكون المخالطة في وقت أفضل والاعتزال عن الناس في وقت آخر أفضل من المخالطة يؤيده حديث أبي ثعلبة الخشني سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه رأيت أمرا لابد منه فعليك نفسك إياك أمر العوام"، الحديث، فيكون اعتزال الناس أفضل من المخالطة فلا تضاد.

ومما يدل على صحة هذا التأويل ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنها ستكون فتن تكون فتنة المضطجع فيها خير من القاعد والقاعد فيها خير من

ص: 357

القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي فإذا وقعت فمن كانت له أرض فليلحق بأرضه ومن كانت له إبل فليلحق بابله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه" فقال رجل: يا رسول الله فمن لم يكن له أرض ولا إبل ولا غنم قال: فليغمد سيفه ثم ينج إن استطاع النجاة ثم قال: اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فاشهد فقال رجل: يا رسول الله فإن أكرهت حتى يذهب بي فأصير بين الصفين فيجئ الرجل فيقتلني قال: يبوء بإثمك ويكون من أصحاب النار، فاعتزال الناس في هذا الحال مرتبة عالية فيحتمل أن تكون هي المرادة في الحديث الأول.

ص: 358

‌في المرأة تقبل في صورة شيطان

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فدخل على زينب بنت جحش فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال لهم: "أن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان"، لم يرد الصورة التي هي الخلقة لأن الله تعالى شبه رؤوس الشياطين بالشجرة التي تخرج في أصل الجحيم لقبح ما هي عليه وفظاعته وشبهت المرأة بالشيطان لأنه يخالط قلوب الناس من الفتنة المؤدية إلى العقوبة في الدنيا والخزي في الآخرة كما تخالط قلوب الناس بإلقاء الشياطين ما يغويهم ويزين لهم الآثام والقبائح قال تعالى:{لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} الآية فكان مثل ذلك ما يكون رؤيتهم المرأة مما يوقع في قلوبهم ما لا خفاء به مما يكون مثل ما يوقعه الشيطان بقلوبهم.

ص: 358

‌في مثقال حبة من الكبر أو الإيمان

عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قبله مثقال حبة من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان"، وخرجه من طرق يعني لا يدخل النار دخول تخليد كالكافر لأن الآثار تظاهرت بدخول المؤمنين المذنبين وخروجهم منها بالشفاعة يؤيده حديث أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من قال: لا إله إلا الله وكان

ص: 358

في قلبه من خير ما يزن ذرة".

"ولكل نبي دعوة دعا بها لأمته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" وعن عبد الله بن مسعود مرفوعا "أني لأعلم آخر أهل النار خروجا من النار وآخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبوا فيقال له: ادخل الجنة فيدخل وقد أخذ الناس مساكنهم فيخرج فيقول: أي رب لم أجد فيها مسكنا فيدخل ثم يخرج فيقول: رب لم أجد فيها مسكنا فيقول الله عز وجل له: فإن لك مثل الدنيا وعشرة أضعافها أو قال: هل ترضى أن يجعل لك مثل الدنيا وعشرة أضعافها، فيقول: أي رب أتسخر بي وأنت الملك قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك حتى بدت نواجذه ولا يخرج من النار إلا من كان دخلها".

فإن قيل: أفيجوز أن يقال: لا يدخل النار من يدخلها فقلت: جاء القرآن بمثله قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} فلم يكن ذلك على كل من أشرك بل على من بقي على شركه حتى خرج من الدنيا أما من تاب من شركه حتى خرج من الدنيا وهو مؤمن فلا يتناوله لقوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية إلى قوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فكذا حديث ابن مسعود فيه نفي دخول معه تخليد وإثبات دخول بغير تخليد.

والمراد بالكبر هو الترفع عن الناس ووضع الرجل نفسه في موضع لم يضعه الله فيه وغمصه الناس بإنزالهم دون المواضع التي جعلهم الله فيها وفي ذلك خلاف لحكم الله تعالى فيهم وفيه الوعيد من الله غير مستنكر في ذلك يبين ما قلنا ما روي عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل النار مثقال ذرة من إيمان ولا يدخل الجنة مثقال ذرة من كبر" فقال رجل: يا رسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال: "الكبر بطر الحق وغمص الناس".

ص: 359

وعن ثابت بن قيس قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر فشدد فيه وقال: "إن الله عز وجل لا يحب من كان مختالا فخورا" فقال رجل من القوم: والله يا رسول الله إن ثيابي لتغسل فيعجبني بياضها ويعجبني شراك نعلي وعلاقة سوطي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك من الكبر إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس".

والمعنى فيما روينا أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر أنه لا يدخل الجنة قبل دخول النار إلا أن يغفر الله له لأنه دون الشرك ويحتمل أن الحديث عام يراد به الخصوص وهو من سبق في علم الله تعالى أنه لا يغفر له فيكون معناه أنهم لا يدخلون الجنة قبل أن يدخلوا النار وإنما يدخولنها بعد أن يخرجوا من النار لأنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره إنهم لا يدخلون أبدا إذ لا يخلد في النار إلا الكفار وكذا قوله: "لا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان"، عام أريد به خاص وهو من سبق في علم الله تعالى أنه يغفر له من الموحدين المذنبين.

ص: 360

‌في الأمر بأخذ القرآن عن أربعة

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا القرآن من أربعة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة"، سبب اختصاص الأمر بالأخذ منهم دون غيرهم مع مشاركتهم لهم في حفظ جميع القرآن كزيد بن ثابت وأبي زيد هو أن من يجمع القرآن قد يصلح لأن يؤخذ عنه لضبطه إياه ولحسن أخذه على من يقرأه عليه وقد يجمعه من لا يكون كذلك فاحتمل أن يكون الأربعة يصلحون لذلك ويقدرون عليه من أنفسهم ويقدر الناس عليه منهم ومن سواهم يقصر عن ذلك فأمر الناس أن يأخذوه عن الذين لا تقصير معهم فيما يحتاج إليه في أخذه عنهم دون من يقصر عن ذلك.

ص: 360

‌في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على أبي

عن أبي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقرأ القرآن عليك" قال: قلت: سماني لك ربك عز وجل قال: نعم فقرأ علي {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، بالتاء جميعا أي: بعض القرآن لا كله يؤيده رواية قتادة عن أنس أنه لما قال: الله سماني لك قال: "الله سماك لي" فجعل أبي يبكي قال قتادة: نبئت أنه قرأ عليه {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهذا كما يقال: سمعت القرآن أي: بعضه وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} ومن قرأ شيئا منه مأمور بالاستعاذة ولا وجه لإنكار منكر بأن القارئ يقرأ على من فوق رتبته ليأخذ عنه لحاجته إليه لأن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ليوقفه على ما يقرأ عليه حتى يكون آخذا له من فيه كقراءة الشيخ الحديث على من سمعه منه وعن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن اقرئك" قال أبي: وقد ذكرت عنده قال: نعم، فاغرورقت عيناه وجعل يبكي، وفي رواية عبد الرحمن بن ابزي عن أبي أن الله أمره أن يقرئه سورة من القرآن لا أن يقرأ عليه القرآن.

فإن قيل: فهل لأحد من الصحابة من الرتبة في القرآن مثل ما لأبي منها؟ قلنا: لعبد الله بن مسعود زيادة على ما وجدناه لأبي وذلك ما روي عن أبي ظبيان قال: قال عبد الله بن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد قال: بل هي الآخرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على جبريل في كل عام مرة فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين فحضر ذلك عبد الله بن مسعود فعلم ما نسخ وما بدل فكان فيه حضوره لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل ونحن نحيط علما أن تلك المرتبة لم يبلغها ابن مسعود إلا بأمر الله عز وجل إياه أن يبلغه إياها.

ص: 361

وعن علقمة جاء رجل إلى عمر بعرفات فقال: جئتك من الكوفة وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب فغضب عمر وانتفخ قال: ويحك من هذا؟ قال عبد الله بن مسعود: قال: فوالله مازال يطفأ ويذهب عنه الغضب حتى عاد إلى حاله التي كان عليها ثم قال: والله ما أعلم أحدا من الناس هو أحق بذلك منه وسأحدث عن ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر في أمر المسلمين وأنا معه ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه فلما دخلنا المسجد إذا رجل قائم يصلي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع قراءته فلما كدنا أن نعرف الرجل قال: "من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، ثم جلس الرجل يدعو فقال صلى الله عليه وسلم: مثل قوله فقلت: والله لأغدون إليه فلأبشرنه فغدوت إليه فوجدت أبا بكر سبقني إليه فبشره ولا والله ما سابقته إلى خير إلا سبقني إليه ففيه حلف عمر أنه لا يعلم أحدا من الناس أحق بما ذكر له من ابن مسعود وأبي وغيره حي خلا سالم فإنه كان مات وخلا أبي زيد فإنه قد يجوز أن يكون مات قبل ذلك لأن موته كان في أيام عمر وعن أبي وائل قال: خطبنا عبد الله على المنبر فقال: والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل وما أحدا علم بكتاب الله مني وما أنا بخيركم ولو إني أعلم أحدا يبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته قال أبو وائل: فلما نزل من المنبر جلست في الحلق فلم ينكر أحد ما قال وفي سكوت الصحابة من الإنكار عليه دليل على متابعتهم له فيه.

ص: 362

‌في الأعلام بحال عائشة

عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: "أيتكن صاحبة الجمل إلا دبب تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثير ثم تنجو بعد ما كادت"، قيل فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقف على أي

ص: 362

أزواجه يكون ذلك منها وليس كذلك فإنه صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنه سيكون بينك وبين عائشة أمر"؟ قال: نعم قال: أنا من بين أصحابي؟ قال: نعم قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله، قال:"لا فإذا كان ذلك فأرددها إلى مأمنها"، ولا تضاد بينهما إذ يجوز أن يكون أعلم الله تعالى نبيه إحدى زوجاته إجمالا ثم بينها له بيانا شافيا فخاطب عليا بما خاطبه بعد ذلك.

ص: 363

‌في التفدية

روي أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله جعلنا الله فداك ما يصلح لنا من الأشربة فقال: "لا تشربوا في النقير" قالوا: يا نبي الله أتدري ما النقير؟ قال: "نعم الجذع ينقر وسطه ولا في الدباء ولا في الحنتم".

وعن أبي عبد الرحمن الفهري قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الرواح يا رسول الله فقال: "أجل ثم قال: يا بلال فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك فقال: أسرج لي فرسي"، الحديث.

قيل: كيف يقبل هذا وقائله غير قادر عليه وغير مجاب إليه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة لما قالت: اللهم متعني بزوجي رسول الله وبابي أبي سفيان وبأخي معاوية سألت لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة وآثار معلومة لا يعجل منها شيء قبل حله ولا يؤخر بعد حله.

والجواب أن السائل والمسؤول له يعلمان أنه غير مجاب إليه ومعناه لو وصل إلى ذلك وقدر عليه لفعله فلم يكره ذلك من قائله لما فيه مما يوجب المودة من بعضهم لبعض ويؤكد الأخوة وذلك كدعاء بعضهم لبعض بطول البقاء وزيادة العمر والنسئ في الأجل وهو معروف عرفا غير مستنكر نصا.

ص: 363

وعن محمد بن سيرين قد علم المسلمون أن لا دعوة لهم في الأجل وعن علي بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لسعد يوم أحد: "إرم فداك أبي وأمي"، وعن سعد بن أبي وقاص لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبويه وقال صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين:"بابي أنتما وأمي من أحبني فليحب هذين"، يعني: لو كنت أقدر على أن أجعل أبي وأمي لمن جعلتهما فداء له لفعلت لما قد بلغ مني نهاية مبلغه.

ص: 364

‌في نسبة الرجل إلى موضع استيطانه

عن أنس مرفوعا: قال: ليصيبن قوما سفع من النار عقوبة بذنوب عملوها ثم ليدخلنهم الله الجنة بفضل رحمته وشفاعة الشافعين يقال لهم: الجهنميون سموا جهنميون وإن لم يولدوا بجهنم لأنهم حلوها وأقاموا بها وهو مذهب أبي يوسف أن من حل بموضع فاوطنه جاز أن يقال أنه من أهله خلافا لأبي حنيفة من أنه أهل من موضع ميلاده لا غيره من المواضع التي تحول إليها لأنه صلى الله عليه وسلم تحول إلى المدينة ولم يخرجه من أن يكون من أهل مكة ولكن لأبي يوسف أنه يقال له: مدني لاستيطانه المدينة وإن لم يكن ولد بها وفيه ما دل على جواز القول بعد انتقاله من الموضع الذي قد صار من أهله باستيطانه إياه أنه من أهل الموضع الأول يقال لمن سكن مصر من أهل الكوفة كوفى كما سمي الجهنميون بعد انتقالهم إلى الجنة ولمن انتصر للإمام أن يقول: إنما سموا الجهنميون لأن بني آدم لا يولدون في الآخرة ولكن جهنم أول موضع لمن دخلها كمولد الشخص أول موضع وجد فيها لا لإقامته فيها.

ص: 364

‌في العجوة والكمأة

عن ابن عباس مرفوعا: "العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم والكمأة من المن وفيها أو ماؤها شفاء للعين والكبش العربي الأسود شفاء من عرق النساء يؤكل من لحمه ويحسى من مرقه" ولا يضاده حديث صلاته صلى الله عليه

ص: 364

وسلم عند المقام مع الجماعة فلما فرغ من صلاته أهوى بيده بينه وبين الكعبة كأنه يريد أن يأخذ شيئا بيده فقال: "هل رأيتموني حين قضيت الصلاة أهويت بيدي قبل الكعبة كأني أريد أن آخذ شيئا" قالوا: نعم يا نبي الله قال: "أن الجنة عرضت علي فرأيت فيها الأعاجيب والحسن والجمال فمرت بي خصلة من عنب فأعجبتني فأهويت إليها لآخذها فسبقتني ولو أخذتها لغرستها بين أظهركم حتى تأكلوا من فاكهة الجنة واعلموا أن العجوة من فاكهة الجنة".

فإن لو امتناع فدل على أنهم لم يأكلوا من فاكهة الجنة لأنه يحتمل أن مراده بأن العجوة من فاكهة الجنة عن الله تعالى أتحف بعض أوليائه بشيء من عجوة الجنة فأكل من ذلك وغرس نواة في الدنيا فكان عنه النخيل الذي منه العجوة وإن انتقلت عما كانت عليه ألا ترى أن النواة من الحجاز إذا غرس في غير الحجاز أعادتها الأرض المغروس فيها إلى ثمار كلها ويقال: أنها من الحجاز ويؤيده قوله: "لو أخذته لغرسته" أي لغرست نواة لأن العنقود لا يغرس حتى تأكلوا من ثمار الجنة ويحتمل أن يكون حتى تأكلوا من ثمار الجنة يريد العنب الذي في العنقود لا ما سواه وقوله: "العجوة من فاكهة الجنة" يقضي بصحة قول أبي يوسف ومحمد في أن الرطب من الفاكهة وكذا قوله صلى الله عليه وسلم جوابا لليهود يا محمد في الجنة فاكهة قال: "فيها فاكهة ونخل ورمان" لاستحالة إجابة من سأله عن الفاكهة بذكر ما سواها ولا وجه لمن حمل الآية على التأكيد من باب قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} لأن الحجة قامت في ذلك وفي {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح} ولم تقم الحجة بمثل ذلك في الرطب أنه من الفاكهة.

وروى من تصبح كل يوم سبعا من عجوة العالية لم يضره ذلك اليوم سحر ولا سم وروي من ابتكر سبع تمرات ما بين لأبتي المدينة لم يضره ذلك اليوم سم حتى يمسي فيه أن المراد بالعجوة في الحديث عجوة في المدينة لا ما سواها من جنس

ص: 365

وعن جابر كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض أصحابه: أن الكمأة من جدري الأرض فامتنعوا من أكلها فبلغ ذلك النبي صلى الله عيه وسلم فخرج فصعد المنبر فخطب فقال: "ألا ما بال أقوام يزعمون أن الكمأة من جدري الأرض ألا وأنها ليست من جدري الأرض إلا أن الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين إلا أن العجوة من الجنة وفيه شفاء من السم"، فيه بيان سبب أعلام الرسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الكمأة ما علمهم فيها.

ص: 366

‌في أول نبي بعث

عن أنس مرفوعا: "أول نبي بعث نوح عليه السلام" يعني أول نبي بعث إلى من في الأرض جميعا في زمنه دل عليه تغريق الأرض كلها عقوبة لهم إذ عتوا ولا يكون ذلك إلا باستحقاق الجميع عقوبة المخالفة لأن إلياس من المرسلين وهو إدريس وهو جد نوح1 لأن نوحا هو ابن لأمك بن متوشلح بن

1 لم تقم حجة على أن إلياس هو إدريس ولا أن إدريس هو جد نوح ومع ذلك ففي كون نوح بعث إلى أهل الأرض نظر ففي الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي الحديث، عد فيهن وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ويؤيده في نوح أن في القرآن مواضع في إرساله إلى قومه منها في سورته قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} وأحسن الأجوبة ما نقله الحافظ في كتاب التيمم من فتح الباري عن ابن عطية وحاصله بإيضاح وزيادة أن معنى بعث الرسول إلى قومه خاصة أن يؤمر بالتجرد لتبليغهم وتكلف المشاق في الذهاب إليهم والتردد عليهم وتجشم الأخطار في ذلك بحسب ما يستطيعه ولا يؤمر بمثل ذلك في غير قومه بل يكفيه ما تيسر له، وعلى غير قومه إذا بلغتهم دعوته ولم يكن فيهم ما يغنيهم عنها أن يأتوه ويؤمنوا به ويتبعوه، مثلا هود عليه السلام بعث إلى قومه خاصة فعليه التجرد لتبليغهم وبذل وسعه في ذلك فأما بقية الأقوام في عصره على أقسام، الأول من يبلغهم دعوته=

ص: 366

اخنوح وهو إدريس إلا أنه كان مبعوثا إلى قومه خاصة بدليل قوله تعالى: {إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا} الآية فلا مخالفة بين الحديث وبين الكتاب كما توهم بعض لأنه لم ينطق عن هوى بل عن وحي كالقرآن يصدق بعضه بعضا قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}

= أصلا فهؤلاء لا كلام فيهم، الثاني من بلغتهم دعوته ولكن لهم نبي آخر حي بين أظهرهم أو قد مات ولكن شريعته محفوظة عندهم حفظا يوثق به فهؤلاء يكفيهم ما عندهم ولا يلزمهم أن يأتوا هودا، الثالث من بلغتهم وليس لهم نبي حي ولا شريعة محفوظة فهؤلاء يلزمهم أن يأتوا هودا ويتبعوه إذ لا يعقل أن يعلموا أنهم على غير هدى وأن هناك نبيا لله يمكنهم الوصول إلأيه ثم لا يلزمهم ذلك ولا يخفى أنهم إذا جاؤه وتيسر له إرشادهم لزمه ذلك إذ لا يعقل أن يقول لهم ابقوا على كفركم وجهلكم ولا شأن لي بكم إنما بعثت إلى غيركم، هذا محال إذا تقرر هذا فنوح عليه السلام بعث إلى قومه خاصة كما دل عليه القرآن وحديث أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي.. ولكن إن كان بقية الأقوام في عصره كلهم من الفسم الثالث لم يكن في قوم منهم نبي حي=

ص: 367

‌في النهي عن المبالغة في الحلب

عن ضرار بن الأزور قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقوح من أهلي فقال: "أحلبها" فذهبت لأجهدها فقال: "لا تجدها دع دواعي اللبن".

فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أخلاق العرب فيما لم يؤمر بخلافها وكان عادتهم في حلب الناقة تبقية شيء من اللبن في ضرعها فإذا احتاجوا لضيف نزل بهم أو لحاجة احتلبوا مما كانوا قد أبقوه في الضرع وإن قل ثم خلطوه بماء بارد ثم ضربوا به ضرعها وأدنوا منه حوارها أو جلده محشوا إن كانوا نحروه فتلحسه فتدر عليه من اللبن ملء ضرعها فيصرفون فيما يحتاجون إلى صرفه من أضيافهم ومن أنفسهم فأمرهم صلى الله عليه وسلم بذلك لهذا المعنى والله أعلم.

ص: 367

‌في لا وحي إلا القرآن

عن ابن عباس لا وحي إلا القرآن ما قاله رأيا بل توقيفا وليس فيه ما يدفع أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأشياء كثيرة ليست في القرآن ويكون معنى قوله: لا وحي إلا القرآن أي: القرآن نفسه وما أمر به القرآن مما لم يقله إلا بالقرآن لأن الله عز وجل قال لنا فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية ويكون هذا مراد ابن عباس كما كان مراد علي بن أبي طالب في جواب سؤال أبي جحيفة عنه هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى القرآن إلا أن يؤتي الله فهما في القرآن وما في الصحيفة قال: قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر فحلف بما حلف ومعه من السنة ما قد كان معه التي منها الوحي الذي يوحي إليه مما ليس هو بقرآن لأن ما كان معه من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم داخل في القرآن إذ كان قبولهم إياه منه صلى الله عليه وسلم بأمر القرآن إياهم به يحتمل أن يكون قوله: لا وحي سوى القرآن من باب لا عالم سوى فلان يعني هو في أعلى مراتب العلم وكل عالم سواه

= ولا شريعة محفوظة وبلغتهم كلهم دعوة نوح لطول عمره وقلة أهل الأرض في زمانه وتقارب بلدانهم فلزمهم كلهم اتباعه أن يبذلوا وسعهم في تعرف دعوته وتعلم شريعته فلما اتفق هذا أن يقال أنه بعث إلى أهل الأرض جميعا ولكن هذا المعنى غير المعنى في بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الأرض جميعا ولزمهم جميعا اتباعه حتى لو كان في عهده أنبياء لزمهم اتباعه كما في الحديث لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي وكذلك من كان من الأقوام عندهم شريعة يرونها محفوظة لم يغنهم ذلك بل عليهم اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته وقد قام صلى الله عليه وآله وسلم بما أمكنه من التبليغ بنفسه وبرسله وبكتبه ثم أمر أمته بتبليغهم ذلك والله الموفق. اليماني.

ص: 368

دون رتبته لا أن لا عالم أصلا سواه ومثله لا زاهد إلا عمر بن عبد العزيز وفي الدنيا زهاد كثير إلا أنهم لم يقدروا من الدنيا على مثل ما قدر هو فرسه فيها.

ص: 369

‌في أن عثمان داخل في بيعة الرضوان

عن المسور ومروان بن الحكم في حديث الحديبية وقد كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خداش ابن أمية إلى مكة وحمله على جمل له يقال له: الثعلب فلما دخل عثرت به قريش فأرادته ومنعته الأحابيش حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى أهل مكة فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بها من عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت بحرب وأنه إنما جاء زائر لهذا البيت معظما لحرمته فخرج عثمان حتى أتى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله بين يديه ورد فيه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان حتى اتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نبرح حتى نناجز القوم"، فكانت بيعة الرضوان وكانت بيعتهم على أن لا يفروا ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.

فكان عثمان هو السبب في البيعة الرضوان وبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها على ما لم يبايع من قبل على مثله وقول من قال: أن عثمان كان غائبا فلم ينل فضيلتها قول جاهل بالآثار وبمناقب الصحابة بل كان له أجل ما كان لأحد ممن كان حاضرا تلك البيعة يؤيده قول ابن عمر أن رسول الله صلى الله

ص: 369

عليه وسلم قال يوم بدر: إن عثمان انطلق في حاجة الله عز وجل وحاجة رسوله فضرب بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان يوم بيعة الرضوان وهو يريد أن يدخل مكة فقال: إن عثمان انطلق في حاجة الله عز وجل وحاجة رسوله وإني أبايع الله له فصفق إحدى يديه على الأخرى فبان بحمد الله أنه كان لعثمان في تلك البيعة مع غيبته عنها ما لم يكن لأحد شهدها سواه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع له وصفق يده على يده فأي فضيلة كهذه الفضيلة.

ص: 370

‌في عشرة من الصحابة فيهم سمرة آخركم موتا في النار

عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم لعشرة من أصحابه فيهم سمرة: "آخركم موتا في النار"، وعنه كنت أنا وابن عمر وسمرة انطلقنا نطلب النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: توجه نحو مسجد التقوى فأتيناه فإذا هو قد أقبل واضعا يده على منكب أبي بكر والأخرى على كاهل عمر فلما رأيناه جلسنا فقال: "من هؤلاء"؟ فقال أبو بكر: هذا أبو هريرة وعبد الله بن عمر وسمرة فقال: "أما ان آخرهم موتا في النار"، فمات أبو هريرة وابن عمر ثم مات سمرة وعنه أنه قال لي ولحذيفة ولسمرة: آخركم موتا في النار وكان يسأل بعضهم عن موت بعضهم وكان آخرهم موتا سمرة.

يحتمل أنه أراد به نار الآخرة ولكن لما كان موحدا يؤول أمره إلى الخير ويحتمل نارالدنيا وأنه موته في النار لا أنه من أهل النار كما أجاب محمد بن سيرين لما سأل عن أمره قال أصابه كزاز شديد فكان لا يكاد يدفأ فأمر بقدر عظيمة فملئت ماء وأوقد تحتها واتخذ هو فوقها مجلسا فكان يصعد إليه فيجد حرارتها فتدفئه فبينا هو كذلك إذ خسف به فظن أن ذلك هو لذلك فعلم أن النار المذكورة في أره كانت من نيران الدنيا فعاد إلى الأعلام بفضيلة سمرة وأنه من جملة الشهداء الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم شهداء بالحريق

ص: 370

فكان هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لنسوانه: "أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا" فلما توفيت زينب ابنة جحش وكانت قصيرة صناعا تصنع بيدها ما تخرجه في سبيل الله علمن أنها كانت أطولهن يدا بالخير وبان لهن بعد موته صلى الله عليه وسلم كما بان للناس أمر سمرة بعد موته رضي الله عنه.

ص: 371

‌في الدعاء للأنصار وأبنائهم

عن زيد بن أرقم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر للأنصار"، وعنه أنه كتب إلى أنس بن مالك يعزيه بمن أصيب من ولده وقومه يوم الحرة وأبشر وابشرك ببشرى من الله عز وجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار ولنساء أبناء الأنصار ولنساء أبناء أبناء الأنصار"، وكان أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم يقول: أنا آخر من بقي من أهل هذه الدعوة ما بقي أحد غيري قيل فيه ما دل على أن أبناء الأنصار لم يدخلوا في الأنصار ولهذا ذكرهم ثانيا وقيل بل هذا من باب قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} بعد دخولهم في النبيين ولا يقال: كيف يدخلون في الأنصار ولم يكن منهم نصرة لأنه صلى الله عليه وسلم حين تلمظ عبد الله بن أبي طلحة قال: حب الأنصار التمر ففيه أنه من الأنصار ولم يكن منه نصرة وكان صلى الله عليه وسلم أخذ من تمرات العجوة ومضغه بريقه فأوجره إياه فتلمظ الصبي وقيل له سمه يا رسول الله قال: هو عبد الله.

فإن قيل فلم لا يسم ابن المهاجر مهاجرا قلنا لأن المهاجرين أسلموا في دارهم فمن هاجر بنفسه كان مهاجرا والأنصار أتوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فبايعوه على أن يمنعوه فيما يمنعون منه أنفسهم وأبنائهم فعقدوا له النصرة على أنفسهم فدخل في تلك البيعة أبناؤهم كدخولهم فيها كما يدخل أبناء أهل الحرب فيما يصالح الإمام إياهم عليه مما يجري عليه أمورهم في المستقبل ومثله صلح عمر نصارى بني تغلب على ما كان صالحهم عليه من تضعيف الصدقة حتى دخل فيه

ص: 371

من حضر صلحة منهم ومن لم يحضر منهم ودخل فيه من يولد منهم بعد ذلك إلى يوم القيامة فمثل ذلك الأنصار الصالحون على النصرة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه عليهم ذلك فدخل فيه من حضر منهم ومن كان غائبا منهم ومن سواهم ممن يولد إلى يوم القيامة.

ص: 372

في لا ينجى أحد إلا عمله

عن أبي هريرة مرفوعا: "لن ينجي أحدا منكم عمله" فقال رجل: ولا إياك يا رسول الله؟ فقال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ولكن سددوا"، هذا قبل نزول قوله تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} الآية بالحديبية فعلم حاله التي لم يكن عالما بها قبل نزوله وكذا أنزل عليه في أصحابه {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} الآية ذكر لهم الجنة ولم يذكر فيما أنزل عليه في نفسه وذلك على عادة الفصاحة في الاقتصار على ما يفهم به المخاطب المراد لأن الصحابة إنما استحقوا الجنة بصحبتهم له صلى الله عليه وسلم وأجابتهم له إلى ما دعاهم إليه من الطاعة التي كان يفعلها وزيادة من جنسها وإذا كانوا بتقصيرهم عما هو عليه يستحقون الجنة كان صلى الله عليه وسلم لمجاوزته إياهم وزيادته عليهم بالجنة أولى وبدخوله إياها أحرى.

ص: 372

‌في سحر اليهود

سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وقال: أن رجلا من اليهود سحرك في بئر بني فلان فأرسل عليا فجاء به فأمر أن يحل العقد ويقرأ آيته فجعل يقرأ ويحل حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال فما ذكر لذلك اليهودي شيئا مما صنع به ولا رآه في وجهه فيه ما دل عليه بقاء السحر إلى ذلك الوقت فجاز بقاء عمله بعد ذلك أيضا.

ص: 372

‌في قراءة الرواي على المروي كقراءة المروي على الراوي

في قراءة الراوي على المروي كقراءة المروي على الراوي

عن أنس بينا نحن جلوس في المسجد دخل رجل على جمل وأناخه في المسجد وعقله ثم قال: إياكم رسول الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين أظهرنا قلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب فقال له رسول الله: "قد أجبتك" فقال: إني يا محمد سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجدن على في نفسك فقال: "سل ما بدا لك" فقال الرجل: أنشدك بربك وبرب من قبلك الله أرسلك إلى الناس كلهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم" قال: فأنشدك الله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال: "اللهم نعم" قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم" قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها في فقرائنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم" فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أحد بني سعد بن بكر.

ففي ما روينا أن الجواب بنعم ككلام المجيب بتلك الأشياء بلسانه وقد وجدنا في هذا الباب ما هو فوق هذا وهو ما في كتاب الله من قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ} فقولهم: نعم كقولهم وجدنا ما وعدنا ربنا حقا وفيه ما دل أن المقروء عليه الحديث كخطاب القارئ له إياه وقوله: أسمعت فلانا أخبرك فلان حدثك فلان بكذا إذا قال: نعم إنه يكون بذلك كقوله تلك الأشياء بلسانه حتى سمعت منه ومن ذلك إجماع أهل العلم أن الرجل إذا قيل له أشهد عليك بكذا كذا؟ فيقول: نعم أنه يسعه بذلك أن يشهد عليه به وإن يقول أشهد عليه أنه أقر عندي بكذا وأنه أشهدني بكذا.

ص: 373

‌في التوديع

عن قزعة قال: كنت عند عبد الله بن عمر فأردت الانصراف فقال: كما أنت حتى أودعك كما ودعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فصافحني ثم قال: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك.

وعن موسى بن وردان قال: أتيت أبا هريرة أودعه لسفر أردته فقال أبو هريرة: ألا أعلمك يا ابن أخي شيئا علمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوله عند الوداع فقلت: بلى فقال: قل استودعك الله الذي لا يضيع ودائعه.

في الحديث تقصير عما في الحديث الأول والمكمل أولى وعن يزيد الخطمي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شيع جيشا بلغ ثنية الوداع فقال: "استودع الله عز وجل دينكم وأمانتكم وخواتم أعمالكم"، فيه أن موضع الأمانة لموضع الإيمان الذي هو الدين فإنه روي مرفوعا لا إيمان لمن لا أمانة له فعقلنا بذلك أن كل واحدة منهما مضمنة بصاحبتها فاستودعتا جميعا.

ص: 374

‌في مرحبا وسهلا

عن أبي جحيفة أن نفرا من بني عامر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "مرحبا"، وروي أن عليا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:"مرحبا وأهلا"، وقال لفاطمة:"مرحبا"، وقال للأنصار:"مرحبا"، والرحب المكان الواسع قال تعالى:{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} وأما الأهل فالمراد أنك نزلت منزلة الرجل في أهله في الإكرام والراحة عندهم وعن بريدة قال: قال نفر من الأنصار لعلي عندك فاطمة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما حاجة ابن أبي طالب" فقال: يا رسول الله ذكرت فاطمة ابنة رسول الله فقال: "مرحبا وأهلا"، لم يزده عليهما فخرج على أولائك الرهط وهم ينتظرونه فقالوا: وما وراءك؟ قال: ما أدري غير أنه قال لي: "مرحبا وأهلا" فقالوا: يكفيك

ص: 374

من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاك الأهل وأعطاك الرحب فلما كان بعد ما زوجه قال: "يا علي لابد للعرس من وليمة" فقال سعد: عندي كبش وجمع له رهط من الأنصار آصعا من ذرة فلما كان ليلة البناء قال: لا تحدث شيئا حتى تلقاني فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ منه ثم أفرغه على علي فقال: "اللهم بارك فيهما وبارك عليهما وبارك لهما في نسلهما"، قال ابن غسان: النسل من النساء وما في هذا من قوله صلى الله عليه وسلم لعلي دليل على ما تأولنا عليه هاتين الكلمتين.

ص: 375

‌في شهوده صلى الله عليه وسلم حلف المطيبين

عن عبد الرحمن بن عوف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت مع عمومتي حلف المطيبين وما أحب أن لي حمر النعم" وإني أنكثه حلف المطيبين عند أهل الأنساب كان قبل عام الفيل بمدة طويلة وكان ذلك الحلف في ثمانية أبطن من قريش وهم هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل وعبد مناف وتيم بن مرة وأسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب والحارث بن فهر لما حاول بنو عبد مناف إخراج السقاية واللواء من بني عبد الدار فتحالفت هذه الأبطن على ذلك وبعثت إليهم أم حكيم ابنة عبد المطلب بجفنة فيها طيب فغمسوا فيها أيديهم ثم ضربوا بها الكعبة توكيدا لحلفهم فسموا بذلك مطيبين ثم تركوا ما بأيدي عبد الدار على حاله لما خافوا وقوع القتال بينهم وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عام الفيل.

عن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه ولدت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل فجرى الأمر على ما ذكرنا حتى قدم مكة رجل من زبيد بتجارة له فباعها من العاص بن وائل السهمي فمطله بها وغلبه عليها فحمله ذلك على أن أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها ثم أنشأ يقول.

ص: 375

يا آل فهر لمظلوم بضاعته

بطن مكة نائى الأهل والنفر

ومحرم أشعث لم يقض عمرته

أمسى يناشد حول الحجر والحجر

هل مخفر من بني سهم يقول لهم

هل كان فينا حلالا مال معتمر

إن الحرام لمن تمت حرامته

ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فلما سمعت ذلك قريش تحالفوا عند ذلك حلف الفضول وكان تعاقدوه قبائل اجتمعوا في دار عبد الله ابن جدعان بنو هاشم وبنو المطلب وأسد بن عبد العزي وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة فتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها ومن غيرهم ممن دخلها إلا قاموا معه وكانوا على الظالم حتى يردوا عليه مظلمته فسمت قريش ذلك حلف الفضول وكان أهله المذكورون مطيبين جميعا لأنهم من المطيبين الذين كان الحلف الأول الذي ذكرناه فيهم وهو المراد به بقوله صلى الله عليه وسلم: "شهدت مع عمومتي حلف المطيبين" هو حلف الفضول الذي تحالفه المطيبون الذي لم يشهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا فبان بحمد الله جهل من قال أنه صلى الله عليه وسلم ولد بعد فكيف شهده قال صلى الله عليه وسلم: "شهدت حلفا في دار ابن جدعان بنو هاشم زهرة وتيم وأنا فيهم ولو دعيت به لأجبت وما أحب أن أخيس به وإن لي حمر النعم"، قال: وكانت محالفتهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن لا يدعو الأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه وبذلك سمي حلف الفضول وكان ذلك الحلف أشرف حلف في الجاهلية ولذا شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمي أيضا حلف المطيبين إذ كان أهله مطيبون جميعا.

ص: 376

لا يقال للمنافق سيد

عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولن للمنافق سيد فإنه إن يكن سيدكم فقد اسخطتم ربكم"، السيد هو المستحق للسؤدد وهو الأسباب العالية التي يستحق بها ذلك كسعد بن معاذ الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه:"قوموا إلى سيدكم"، وقال صلى الله عليه وسلم لبني سلمة:"من سيدكم"؟

ص: 376

قالوا: جد بن قيس ثم ذكروه بالبخل فقال: "ليس ذلك سيدكم ولكن سيدكم البراء بن معرور".

قال جابر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا والمنافق لما كان موصوفا بالنقائص لا يستحق هذا الاسم فتسميته بذلك وضع له بخلاف المكان الذي وضعه الله فيه فاستحق السخط بذلك وقيل: معنى قوله: "أن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم" يعني لا يكون سيدهم وهو منافق إلا أن يكونوا بمنزلته في النفاق الذي يستوجب به سخط الله لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

ص: 377

‌في العبادة في الهرج

عن معقل بن يسار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العبادة في الهرج كهجرة إلي الهرج" لما شغل أهله عن غيره مما هو أولى بهم من عبادة ربهم فمن تشاغل بالعبادة في تلك الحال كان متشاغلا بما أمر بالتشاغل به تاركا لما قد تشاغل به غيره من الهرج المنهي عن الدخول فيه والكون من أهله فاستحق بذلك الثواب العظيم.

ص: 377

‌في ثواب البر وعقوبة البغي

عن عائشة مرفوعا: "أن أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم"، وعن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من ذنب هو أجدر أن يعجل الله عز وجل العقوبة لصاحبه في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم"، المراد مه من كان منه البغي وقطيعة الرحم من أهل التوحيد الذي لم يخرج منه بذلك لأنه علم أن الكفر أغلظ من ذلك والعقوبة عليه أشد.

ص: 377

‌في الجوامع من الدعاء

عن عائشة قالت: دخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي الصبح فكلمه بكلام كأنه كره أن أسمعه فقال: عليك بالجوامع

ص: 377

الكوامل فقالت عائشة فأتيته فقلت ما قولك الجوامع الكوامل فذكر هذا الكلام اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذبك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل وأسألك من الخير الذي سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وأعوذ بك مما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشدا وله طرق كثيرة صحيحة.

والمراد بالجوامع من الدعاء التقديم لها على ما سواها من الدعاء على أن مراده التعجيل لعمل الخير خوف ما يقطع عنه مما لا يؤمن على الناس فأمر بالجوامع من الدعاء لذلك كمثل ما أمر به الناس في الحج أن يتعجلوا إليه خوف ما يقطعهم عن ذلك من مرض أو حاجة عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له"، فأمر بالجامع من الكلام خوفا من أن يقطعه عن ذلك ما يقطع عن مثله.

ومنه ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على جويرية وهي في مصلاها تسبح وتذكر الله فانطلق لحاجته ثم جاء بعد ما ارتفع النهار فقال لها: "يا جويرية ما زلت في مقعدك"؟ قالت: يا رسول الله مازلت في مقعدي هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت أربع كلمات أعيدهن ثلاث مرات هو أفضل من كل شيء قلتيه سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله مداد كلماته سبحان الله زنة عرشه والحمد لله رب العالمين"، وخرجه من طرق فدل هذا على أن جميع ما يحتاج الناس إلى استعماله من الكلام الذي يتقرب به إلى خالقهم ينبغي أن يمتثل فيه هذا المعنى وإذا كان ذلك في الكلام كان في الأفعال التي يفعلونها للقربة إليه أيضا كذلك.

ص: 378

‌في استحلاف على الرواة

عن علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه ليس من رجل يذنب ذنبا فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين ويستغفر الله عز وجل إلا غفر له وفي رواية وقرأ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً- وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية قرأ الآيتين أو أحداهما وفي رواية ثم قرأ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية قيل: لا يخلو إن كان الراوي من أهل القبول فلا معنى لاستحلافه وإن لم يكن فلا وجه للاشتغال باستحلافه وجوابه إن مذهب علي كان في الشهود العدول على حق أنه لا يحكم بها إلا بعد حلف المشهود له على صدقها فيما شهدت به ففعل في الحديث الذي يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ولم يكتف بعدالة الراوي ولا يقال فكيف ترك استحلاف أبي بكر؟ لأنه إنما ترك استحلافه لما قرأ عليه من كتاب الله عز وجل ما قامت له به الحجة على صدقه بما صدقه مما لم يكن سمعه فأغناه ذلك عن طلب يمينه1.

1 في صحة هذا الأثر عن علي عليه السلام كلام للبخاري وغيره راجع ترجمة أسماء بن الحكم الفزاري من تهذيب التهذيب 1/267 وعلى فرض صحته فهو محمول أنه عليه السلام إنما كان يحلف لاإذا عرضت له ريبة ولذلك لم يحلف أبا بكر، بل قد روى عن عمر وعن المقداد وعن عمار وغيرهم ولم ينقل أنه حلف واحد منهم وعلى فرض أنه كان يحلف فالذي أغناه عن تحليف أبي بكر الصديق هو أن الله تبارك وتعالى سماه الصديق فأما الآيات التي ذكرها فهي وإن دلت على الاستغفار والصلاة فإنها لا تدل على مشروعية ركعتين كما في الحديث وما ذكره من مذهب علي في تحليف المدعي مع شاهديه لا أدري ما صحته ولو صح لم يلزم منه تحليف الراوي فإن الراوي لا يدعى شيئا لنفسه والله أعلم.

ص: 379

‌في حبس عمر مكثر الحديث

عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عمر حبس1 أبا مسعود وأبا الدرداء وأبا ذر حتى أصيب وقال: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما روى عنه أن عمر قال لأبي مسعود وأبي ذر ما هذا الحديث قال: واحسبه حبسهم حتى أصيب إنما فعل عمر هذا لأن مذهبه كان حياطة ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الرواة عدولا إذ كان على الأئمة تأمل ما يشهد به العدول عندهم وكذلك فعل بأبي موسى الأشعري مع عدله عنده في الاستئذان ووقف على ذلك منه أبي بن كعب ومن سواه من الصحابة فلم ينكروا ذلك عليه ولم يخالفوه فيه فكان حبسهم لذلك لا لأن يقطعهم عن التبليغ إلى الناس ما سمعوه منه صلى الله عليه وسلم وكذلك كان أبو بكر قبله يفعل الاحتياط في قبول الروايات.

عن قبيصة جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها فقال أبو بكر: مالك في كتاب الله شيء فارجعي حتى أسأل الناس فسألهم فقال المغيرة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال أبو بكر: هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل قول المغيرة فأنفذه لها أبو بكر ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فسألته ميراثها فقال: مالك في كتاب الله شيء وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض شيئا ولكن هو السدس فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما وأيتكما حلت به فهو لها.

فلم يكتف أبو بكر بشهادة المغيرة مع عدله عنده حتى انضم إليه غيره طلبا للاحتياط وإشفاقا أن يدخل فيه ما ليس منه إن لم يفعل ذلك ويحتمل أن يكون ما كان منه في حبس من حبسهم لتجاوزهم الحد حتى خاف أن يقطعوا الناس بذلك ويشغلوهم به عن كتاب الله تعالى وعن تأمله والاستنباط

1 يريد منعهم عن كثرة الرواية فأما السجن فلم يثبت.

ص: 380

للأشياء منه مما فيه لعلو مرتبة المستنبطين منه على غيرهم ممن يقرؤه وبقوله عز وجل: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وقوله تعالى في غيرهم: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} أي: إلا تلاوة فلم يحمدوا كما حمد المستنبطون.

يؤيده ما روي عن قرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى جدار فتوضأ فقال: أتدرون لم مشيت معكم قالوا: نعم نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امضوا وأنا شريككم فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا قال: نهانا عمر وخرجه من طرق وفي رواية قال قرظة: لا أحدث حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا فدل هذا على أن قصد عمر أن لا ينقطع الناس عن كتاب الله بالحديث فإنما كره منهم هذا المعنى لا ما سواه.

ص: 381

‌في الغنى والفقر

عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كان سعد في ابل له وغنم فأتاه ابنه عمر فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب فلما انتهى إليه قال: يا أبت رضيت أن تكون في إبلك وغنمك والناس بالمدينة يتنازعون في الملك فضرب سعد صدر عمر بيده ثم قال: اسكت يا بني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن الله يحب العبد التقي الخفي الغني"، وعن ابن مسعود قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة والغنى" قيل فيه تفضيل الغنى على الفقر وليس كذلك لأن الغنى المذكور لبس الغنى بالمال ولا يجوز ظنه بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه أنه قال: "ما أحب أن لي أحدا ذهبا يأتي على ليلة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين أو أقول به في عباد الله هكذا وهكذا"، بل المراد غنى النفس القاطع عن المال الذي يقطع عن الطاعات ويشغل القلب به عن الله تعالى فالغنى المحمود هو الغنى الذي

ص: 381

يتفرغ به القلوب عن الدنيا وعن الاهتمام بها وعن أبي هريرة مرفوعا ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس والذي ظن بالمذكور غنى المال فهو ضد المنزلة التي اختارها اله تعالى له من الأحوال التي كان عليها فكيف يجوز أن يظن به ذلك.

ص: 382

‌في من نزلت به فاقة

روي ابن مسعود مرفوعا "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم يسد الله فاقته وإن أنزلها بالله عز وجل أوشك الله له بالغنى" أما أجل عاجل أو غنى عاجل جعل الأجل العاجل غنى بمعنى غنى عن المال وقوله أو غنى عاجل يريد به الغنى الذي لا يلهي عن ذكر الله عز وجل وعن أداء الفرائض ويكون مع ذلك قواما للذي يؤتاه في دنياه حتى يكون نازعا لتلك الأشياء الأخر.

ص: 382

‌في المال الصالح

عن عمرو بن العاص قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي فقال: "خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني"، ففعلت فأتيته وهو يتوضأ فصعد البصر في ثم طأطأه ثم قال لي:"أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله عز وجل ويغنمك وازعب لك زعبة من المال صالحة" قلت: يا رسول الله ما للمال هاجرت ولكن هاجرت رغبة في الإسلام وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو نعما بالمال الصالح للرجل الصالح" لا مخالفة بينه وبين ما ذكرنا قبله لأن قوله أو غنى عاجل هو على المال الذي يكون قواما للذي يؤتاه وكذا المراد بالمال الصالح لأن المال لا يكون صالحا إلا وهو مفعول فيه ما أمر الله بفعله فيه ومن يفعل ذلك فيه بحق ملكه إياه فهو صالح أيضا فلا تضاد ولا اختلاف.

ص: 382

‌في ما يستدل به على صدق الحديث

عن أبي حميد وأبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم".

ص: 382

قريب فإنا أولاكم به وإذا سمعتم بحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكر فأنا أبعدكم منه وكان أبي بن كعب في مجلس فجعلوا يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمرخص والمشدد وأبي بن كعب ساكت فلما فرغوا قال: أي: هؤلاء ما حديث بلغكم عن رسول الله يعرفه القلب ويلين له الجلد وترجون عنده فصدقوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول: إلا الخير.

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الآية {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ} الآية فأخبر الله تعالى عن أهل الإيمان بما هم عليه من هذه الأحوال عند سماعهم ما أنزل الله والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وحي منزل من عند الله ففي حصول الحالة التي تحدث عند سماع القرآن إذا حصل في سماع الحديث دليل على صدق الحديث عنه وإن كانوا بخلاف ذلك يجب ترك قبوله والمخالفة بينه وبين ما سواه مما تقدم ذكرنا له.

وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به" قلته أو لم أقله فإني أقول ما يعرف ولا ينكر "وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف"، يحتمل أن تكون المعرفة منهم بطباعهم كما يعرفون بقلوبهم الأشياء التي تضرهم أو تنفعهم ويعلمون بقلوبهم تواترها علم طباع لا علم اكتساب وكانوا علموا أن الله تعالى قد جعل شريعته أجل الشرائع وأحسنها فالأشياء الحسنة اللائقة الملائمة لأخلاقه ولشرائعه يدخل فيها ما حدثوا به من ذلك فيجب عليهم قبوله وإن لم يقله بلسانه لهم لأنه من جملة ما قد قامت الحجة على صدقه وإذا سمعوا عنه الحديث فأنكروه من تلك الجهة وجب عليهم الوقوف عليه والتحامي لقبوله والحاصل أن الحديث المروي إذا وافق الشرع وصدقه

ص: 383

القرآن وما تظاهرت به الآثار لوجود معناه في ذلك وجب تصديقه لأنه إن لم يثبت القول بذلك اللفظ فقد ثبت أنه قال معناه بلفظ آخر ألا ترى أنه يجوز أن يعبر عن كلامه صلى الله عليه وسلم بغير العربية لمن لا يفهمها يقال له أمرك النبي صلى الله عليه وسلم بكذا ونهاك عن كذا وقائله صادق وإن كان الحديث المروي مخالفا للشرع يكذبه القرآن والأخبار المشهورة وجب أن يدفع ويعلم أنه لم يقله وهذا ظاهر.

ص: 384

‌الترغيب في تعلم العلم

عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أغد عالما أو متعلما أو محبا أو مستمعا ولا تكن الخامس فتهلك" قال عطاء قال مسعر بن كدام هذه خامسة زادنا الله عز وجل لم تكن في أيدينا إنما كان في أيدينا أغد عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرابعة فتهلك بإعطاء ويل لمن لم تكن فيه واحدة من هذه وكان ابن مسعود يقول أغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك ولم يقله إلا توقيفا والأمعة هي الخامسة لأن الأربعة محمودة والأمعة مذمومة وعن ابن مسعود كنا ندعو الأمعة في الجاهلية الذي يدعي إلى الطعام فيذهب معه بآخر وهو فيكم المحقب1 دينه الرجال الذي يبيح دينه غيره ينتفع به ذلك الغير في دنياه ويبقى إثمه عليه كالرجل الذي ينتفع بطعام الغير ويعود عاره على من جاء به وقال أبو عبيد الإمعة الذي يقول أنا مع الناس يعني يتابع كل أحد على رأيه ولا يثبت على شيء.

1المحقب الذي يجعل دينه تبعا لدين غيره بلا حجة ولا رواية وهو من الأرداف على الحقيبة المجمع.

ص: 384

‌في منتهى الإسلام

روي عن كرز بن علقمة أن رجلا قال: يا رسول الله هل للإسلام من منتهى؟ قال: "نعم يكون أهل البيت من العرب أو العجم إذا أراد الله

ص: 384

عز وجل بهم خيرا أدخل عليهم الإسلام" قال ثم ماذا؟ قال: "ثم تقع الفتن كأنها الظلل" فقال رجل: كلا إن شاء الله فقال: "لتعودن فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض".

قال الزهري: الأسود الحية السوداء إذا أرادت أن تنهش ارتفعت ثم أنصبت ولا يخالفه ما روي عن تميم الداري قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل ولا يترك الله عز وجل بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز يعزبه الإسلام وذل ذليل يذل الله عز وجل به الكفر".

قال: فهذا على أنه لا ينقطع حتى يعم الأرض كلها به حتى لا يبقى بيت إلا دخله أما بالعز الذي ذكره ثم تأتي الفتن فيشغل من شاء الله أن يشغله عما كان عليه من التمسك بالإسلام فيكون حديث تميم على عمومه بالمسافات وما في حديث كرز على انقطاعه عن بعض الناس بالتشاغل بالفتنة بعد دخوله فيمن عمه لأنه قد كان في الأرض التي تبلغها الليل فهذا وجه التئام معنييهما فلا تضاد بينهما والله أعلم.

ص: 385

‌في مضر

عن عمرو بن حنظلة قال حذيفه: لا يدع مضر عبد الله مؤمنا إلا فتنوه أو قتلوه ويضربهم الله والملائكة والمؤمنون حتى لا يمنعوا ذنب تلعة فقال له رجل: يا أبا عبد الله تقول هذا وأنت رجل من مضر فقال: الا أقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المراد من مضر المذكور المذموم منهم دون من سواهم فمنهم ظالم ومنهم صالح والعرب في الأشياء الواسعة تقصد بذكر ما كان من بعض أهلها إلى جملة أهلها والمراد بعضه ممن اتصف بالصفة المذمومة ومنه قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في قنوته: "وأشدد وطأتك اللهم على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف"، وهو كثير من الصحابة من مضر والمراد من كان منهم على خلاف الطريقة المستقيمة.

ص: 385

‌في الخلة

روي مرفوعا: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وإن صاحبكم خليل الله" وعن ابن عباس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه عاصبا رأسه بخرقة فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أنه ليس أحد من الناس أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر"، فيه أنه لم يكن له خليل عن عاصم قال: قلت للشعبي: أن حفصة كانت تحدثنا عن أم عطية فتقول: حدثني خليلي يعني: النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا من عقول النساء أو لم يقل صلى الله عليه وسلم قبل موته: من كانت بيني وبينه خلة فقد رددتها عليه ولو كنت متخذا خليلا من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلا.

أعلم أن الخليل في كلام العرب قد يكون من الخلة التي هي الصداقة وقد يكون من اختلال الأحوال والمقصود هنا الأول فإنه روي ابن أبي المعلى لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا ولكن ود إيمان مرتين ولكن صاحبكم خليل الله ومعنى إضافة الخليل إلى الله قيل فقير الله الذي لم يجعل فاقته إلا إليه وقيل أنه محب الله الذي لا خلل في محبته وقيل هو المختص بالمحبة دون غيره وقيل أنها الموالاة بأن جعله الله وليا ولاية لا ولاية فوقها ولا مثلها يؤيده ما روي عن مسروق عن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي ولاية من النبيين وإن ولي منهم أبي وخليل ربي ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {وَهَذَا النَّبِيُّ} الآية ولما كان الله له خليلا لم يجز إلا أن يكون من الخلة التي هي نهاية المحبة فكذا إذا كان هو خليلا لله يكون بهذا المعنى وكذا الولاية منسوبة لمن يتولاه من خلقه ويتولى الله خلقه قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية و

ص: 386

{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فإن قيل: لم يتخذ أبا بكر خليلا قلنا: كان بينهما خلة الإسلام وهو أفضل وكذا ود الإيمان أفضل من مودة تكون بغير إسلام فرد صلى الله عليه وسلم مكان أبي بكر منه إلى ذلك المعنى وجعله به فوق الخليل.

ص: 387

‌في أخنع الأسماء

عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى باسم ملك الأملاك أخنع الأسماء إذ لها لأن الخنع الذل يقال: خنع الرجل خنوعا إذا خضع والخضوع والذل إنما وقعت في هذا على ذي الاسم لأعلى الاسم نفسه لأن الاسم لا يلحقه مدح ولا ذم وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} بمعنى: سبح ربك وقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} أي: أهلها وملك الأملاك هو الله تعالى فمن تسمى به تكبر فرده الله إلى الذلة والخضوع.

ص: 387

‌في قيام الناس بعضهم لبعض

عن عبد الله بن كعب سمعت كعب بن مالك يحدث بحديث توبته قال: فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله الناس فقام إلي طلحة يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام رجل من المهاجرين إلي غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة وعن الحدري لما طلع سعد ابن معاذ بعد أن نزلت بنو قريظة على حكمه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم أو إلى خيركم".

وعن أبي هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل بيته قمنا وعنه قال: كنا نقعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد بالغدوات فإذا قام إلى بيته لم نزل قياما حتى يدخل بيته ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يستتم له الرجال قياما وجبت له النار" لأن

ص: 387

فيما روينا إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم القيام باختيارهم لا بمحبة الذين قاموا لهم إياه منهم وفي هذا الحديث ذكر المحبة من الذي يقام له بذلك من القائمين فالتوفيق أن القيام مباح إذا لم يكن ممن يقام له محبة في ذلك ومكروه إذا كان له محبة فيه وقد روي أنس قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك.

ففيه أنهم لو لم يعلموا كراهته لقاموا إليه وكراهته كان على سبيل التواضع منه لا لأنه حرام عليهم فعله ألا ترى أنه أمرهم بالقيام لسعد وقام بمحضره طلحة بن عبيد الله إلى كعب فلم ينهه وقيام الصحابة بعضهم لبعضهم مشهور لا ينكر فالمكروه هو محبة القيام بعضهم من بعض لا القيام المجرد وزعم بعض من ينتحل الحديث أن قوله: "من أحب أن يستتم له الرجال قياما"، إنما هو في القيام الذي يفعله الأعاجم لعظمائهم من قيامهم على رؤوسهم وإطالتهم ذلك حتى يسنخوا معه أي تتغير لذلك روائحهم لا طالتهم وليس كذلك لأن معاوية أنكر علي ابن عامر مجرد القيام بغير إطالة منه وقال: اجلس يا ابن عامر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يستتم"، الحديث، وقد كان قام لمعاوية فدل على بطلان تأويل المنتحل وفي انتفائه ثبوت التأويل الأول.

ص: 388

‌في صلة الشعر

عن عبد الله بن مسعود قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة. وعن أسماء ابنة أبي بكر مرفوعا لعن الواصلة والمستوصلة وخرجه من طرق وأهل العلم يبيحون صلة الشعر بغير الشعر من الصوف وما أشبهه ويروون عن ابن عباس قال: لأباس أن تصل المرأة شعرها بالصوف وعن الليث عن بكير عن أمه أنها دخلت على عائشة وهي عروس ومعها ماشطتها فقالت عائشة: أشعرها هذا فقالت: الماشطة شعرها وغيره وصلته

ص: 388

بصوف فما أنكرت ذلك وعائشة إحدى الرواة في لعن الواصلة والمستوصلة فلم تنكرلعلمها أنها غير مرادة باللعن ولا يظن بأهل العلم المأمونين على نقله يخرجون من حديث رووه مجملا ما ظاهره دخوله فيه إلا بعد علمهم بخروجه منه ولولا ذلك لسقت عدالتهم وروايتهم وحاشى لله أن يكونوا كذلك1.

1 هذه مسألة تخصيص العام بمذهب راويه من الصحابة وفيها خلاف فمن القائلين بالتخصيص من يشنع على مخالفيه بما ذكره المؤلف ومن مخالفيهم من يشنع عليهم بأن الحديث من كلام المعصوم وهو النبي صلى الله عليه وسلم فتخصيصه بمذهب الصحابي إما ذهاب إلى عصمة الصحابي أو رد الكلام المعصوم بكلام من ليس بمعصوم، ولا يخفى أن التشنيع من الجانبين في غير محله والمسألة مبنية على أمر آخر يعلم من موضعه- ح.

ص: 389

‌في أطيط السماء

عن حكيم بن حزام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم: "هل تسمعون ما أسمع"؟ قالوا: ما نسمع من شيء يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك أما ساجد وإما قائم"، وعن أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"، العرب تطلق أن يقال: فلان جالس على كذا لما يفضل عنه يقولون: فلان جالس على الحصير وهي مقصرة عنه وجلوسه في الحقيقة عليها وعلى غيرها من الأرض وفلان جالس على الحصير الفاضلة عنه وفي الحقيقة جلوسه على بعضها لا كلها فمن فهمه يقف على المراد في الحديث من قوله موضع قدم أو أربع أصابع.

ص: 389

‌في الرسالة والنبوة

عن البراء بن عازب قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا براء ما تقول إذا أويت إلى فراشك"؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم قال: "إذا أويت إلى فراشك

ص: 389

طاهرا فتوسد يمينك وقل: اللهم أسلمت1 وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبه إليك لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت"، وقال: "ونبيك الذي أرسلت" فقلت: كما قال: غير أني قلت: ورسولك الذي أرسلت قال: فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعه في صدري وقال: "ونبيك الذي أرسلت" ففعلته وذلك لأن الذي قاله رسالة فقط والذي أمره أن يقول: وهو ونبيك الذي أرسلت بجمع الرسالة والنبوة جميعا فكان أولى مما قاله.

1 سقط من هنا نفسي إليك ووجهت وهي ثابتة في الصحيح- ح.

ص: 390

‌في مزمار أبي موسى

عن عائشة وأبي هريرة وسلمة بن قيس وابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع قراءة أبي موسى الأشعري فقال: "لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود"، وفيما روي عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وسمع أبا موسى يقرأ القرآن فقال:"لكأن أصوات هذا من أصوات آل داود".

معنى إضافة صوته إلى صوت آل داود هو أن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} الآية أي: سبحي وقيل ارجعي معه من لا يأب ولما كانت تلك الأشياء مأمورة بالتسبيح معه كأن كل مسبح معه إلا له لأتباعهم كقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فسماهم آلا له لاتباعهم فرعون بعمله وبكفره ومنه قيل آل إبراهيم وآل محمد وإذا كان الآل استحقوا لمتابعتهم إياه كان هو أولى بالاستحقاق فمثله أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود وهي تسبيحهم الذي كان داود سببه وإن ما أضيف من المزامير إليهم مضافة إليه فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: "لقد أوتي مزمارا من مزامير داود" والله أعلم.

ص: 390

‌في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عن أبي موسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان من قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم بالخطيئة نهاه الناهي تعذيرا فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعض على بعض ثم لعنهم على لسان نبينهم داود وعيسى بن مريم صلى الله عليهما وسلم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم".

حكي عن الخيل أنه قال: أطرت الشيء إذا ثنيته وعطفته وأطر كل شيء عطفه كالمحجن والمنخل والصولجان، وعن الأصمعي أنه قال: يقال: أطرت الشيء وأطرته إذا أملته إليك ورددته إلى حاجتك فكان ما في هذا الحديث من قوله: "لتأطرنه على الحق إطرا" أي: تؤدونه إليه تعطفونه إليه وتميلونه إليه حتى يكون فيما يفعلونه به من ذلك كالمحجن والمنخل والصولجان الذي لا يستطيع أن يخرج مما عطف عليه وثنى إليه ورد إليه إلى خلاف ذلك أبدا والله نسأله التوفيق.

ص: 391

‌في مراتب الخلفاء

عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أرى الليلة رجل صالح" أن أبا بكر نيط برسول الله ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح

ص: 325

فهو رسول الله وأما ما ذكر من نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله عز وجل به نبيه- وفيما روى مرفوعا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الرؤيا ويسأل عنها فقال ذات يوم: "أيكم رأى رؤيا" فقال رجل: أنا يا رسول الله رأيت كأن ميزانا دلي من السماء فوزنت فيه أنت وأبو بكر فرجحت بأبي بكر ثم وزن فيه أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر بعمر ثم وزن فيه عمر وعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان فاستاء لها رسول الله فقال: "خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء".

في هذين الحديثين ما يدل على أن الخلافة في الثلاثة وليس فيه ما ينفى عن غيرهم بل روى مرفوعا الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون الملك منها سنتان لأبي بكر وعشر سنين لعمر واثنتا عشرة سنة لعثمان وست سنين لعلي رضي الله عنهم فالحق أن مدة علي داخلة في خلافة النبوة وإنما لم يذكر في الحديثين لأن ما فيهما كان في أبي بكر وعمر وعثمان خاصة وكل واحد منهم قد خص بفضائل دون صاحبه وهم بأجمعهم أهل السوابق والفضائل وينتابون في فضائلهم كأنبياء الله الذين جمعتهم النبوة وبعضهم أفضل من بعض قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} .

ص: 326