الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
وقت التيمم
وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول
وقت التيمم للصلاة المؤقتة بوقت
اختلف الفقهاء في الوقت الذي يصح فيه التيمم للصلاة المفروضة، والنافلة المؤقتة بوقت كالسنن الرواتب، والوتر ونحوهما، هل يشترط لصحة التيمم دخول وقت العبادة المؤقتة أم لا؟ وذلك على قولين:
القول الأول: أنه يشترط لصحة التيمم دخول وقت العبادة المؤقتة، ولا يصح التيمم قبله، وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
القول الثاني: أنه لا يشترط لصحة التيمم دخول الوقت، ويصح التيمم قبله، وهو قول الحنفية، وابن شعبان من المالكية
(2)
، وبعض الشافعية في النافلة
(1)
المقدمات (1/ 118)، مواهب الجليل (1/ 520)، الأم (2/ 97)، روضة الطالبين (1/ 232، 233)، الإنصاف (1/ 252، 253)، كشاف القناع (1/ 387).
(2)
هو: أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان المعروف بابن القرطي، كان رأس الفقهاء المالكية بمصر في وقته، وأحفظهم لمذهب مالك مع التفنن في سائر العلوم، وإليه انتهت رئاسة المالكية بمصر، له مصنفات منها: الزاهي في الفقه، ومناقب مالك وغيرهما.
انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 78، 79)، الديباج المذهب (1/ 248).
المؤقتة، ورواية للحنابلة، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
.
سبب الخلاف:
سبب الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة هو اختلافهم في التيمم هل هو رافع للحدث أو مبيح
(2)
؟
وذكر بعض أهل العلم أن سبب الخلاف هو اختلافهم في المفهوم من آية الوضوء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
…
} الآية [المائدة: 6].
فهل ظاهرها يقتضي تكرار الطهارة عند القيام إلى الصلاة فلا يجوز التيمم والوضوء إلا عند دخول الوقت، ولكن خرج الوضوء بالنص
(3)
فبقي التيمم على مقتضى ظاهرة الآية، أو ليس هذا ظاهر الآية وإنما معنى: إذا قمتم إلى الصلاة: أي أردتم القيام إليها
(4)
.
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأنه يشترط لصحة التيمم دخول الوقت، بما يلي:
(1)
المبسوط (1/ 109)، بدائع الصنائع (1/ 342)، المنتقى للباجي (1/ 111)، المقدمات (1/ 120)، المجموع (2/ 192)، الإنصاف (1/ 253)، فتاوى ابن تيمية (21/ 353) وما بعدها.
(2)
تحفة الفقهاء (1/ 90)، الذخيرة (1/ 360)، شرح الزركشي (1/ 349).
(3)
حيث ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس كلها يوم الفتح بوضوء واحد. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد [صحيح مسلم (1/ 232) حديث (227)].
(4)
بداية المجتهد (1/ 134)، شرح العمدة (1/ 440، 441).
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى أمر بالوضوء عند إرادة القيام إلى الصلاة، فإن لم يجد الماء تيمم، وإنما يكون ذلك بعد دخول الوقت، ولكن خرج جواز تقديم الوضوء قبل الوقت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فبقي التيمم على الأصل
(1)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن المراد بالآية: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وإرادة القيام تكون في الوقت، وتكون قبله، فليس في الآية دليل على اشتراط الوقت حتى يقال: خصص الوضوء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
الوجه الثاني: أن الاستدلال على جواز تقديم الوضوء قبل الوقت ثابت ومسلم به، وليس فيه ما يدل على عدم الجواز بالنسبة للتيمم، بل إنه متى ثبت ذلك للأصل الذي هو الماء فإنه يثبت للبدل الذي أقيم مقامه عند عدمه إلا أن يدل دليل على هذا الفرق.
(1)
المعونة (1/ 149)، مغني المحتاج (1/ 272)، الانتصار (1/ 435).
(2)
نيل الأوطار (1/ 306).
ثانيًا: من السنة:
حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل»
(1)
.
وجه الدلالة:
دل الحديث على اشتراط دخول الوقت للتيمم لتقييد الأمر بالتيمم بإدراك الصلاة، وإدراكها لا يكون إلا بعد دخول الوقت
(2)
.
المناقشة:
يمكن مناقشته بأن الشرط في الحديث غير مقصود، وإنما المعنى متى أدركت المكلف الصلاة وليس عنده ماء وجب عليه التيمم؛ لأن وجوب التيمم لا يتصور إلا عند دخول الوقت وفقد الماء، فلو تيمم قبل الوقت، واستمر فقدان الماء حتى دخل وقت الصلاة الأخرى، فإن الوجوب قد سقط عنه بتيممه الأول، وأتى به قبل وجوبه عليه.
ثم إنه لا تأثير لدخول الوقت في بطلانه؛ لأن الشارع حكيم إنما يثبت الأحكام ويبطلها بأسباب تناسبها، فكما لا يبطل الطهارة بالأمكنة لا يبطل الطهارة بالأزمنة وغيرها من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع
(3)
.
(1)
سبق تخريجه (ص 38).
(2)
الإعلام لابن الملقن (2/ 164)، شرح الزركشي (1/ 328).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 361).
ثالثًا: من المعقول:
1 ـ أن التيمم قبل الوقت لا حاجة إليه كما لو تيمم مع وجود الماء
(1)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أنه يلزم من قولكم هذا بطلان التيمم في أول الوقت، ومن تيمم للنافلة
(2)
.
الجواب:
أجيب بالمنع؛ لأن تيممه في أول الوقت ليبرئ ذمته من الصلاة الواجبة وإحراز فضيلة أول الوقت من أكبر الحاجات، وكذلك بالناس حاجة إلى النوافل لتكثير حسناتهم وتكفير سيئاتهم
(3)
.
اعتراض:
قد يعترض بأن إحراز فضيلة أول الوقت لا يكون إلا بالتطهر قبل الوقت.
الوجه الثاني: أن التيمم مع وجود الماء حصل مع القدرة على الأصل فلم يجز البدل، وقبل الوقت لم يقدر على الأصل فجاز البدل، كما لو كان في الوقت
(4)
.
(1)
المنتقى للباجي (1/ 111)، المجموع (2/ 193)، المغني (1/ 313).
(2)
التجريد (1/ 230).
(3)
الانتصار (1/ 437).
(4)
التجريد (1/ 230)، تبيين الحقائق (1/ 130).
المناقشة:
نوقش بأنه إن كان هناك تيمم مع قدرته على الأصل، فهاهنا تيمم مع عدم حاجته إلى التيمم وهما في المعنى سواء
(1)
.
الجواب:
يمكن أن يجاب بأن قولكم أن التيمم قبل الوقت لا حاجة إليه غير مسلم؛ لأن المندوب التطهر قبل الوقت ليشتغل أول الوقت بالأداء
(2)
.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم لرد السلام
(3)
، فدل ذلك على أن التيمم يكون مستحبًا تارة، وواجبًا أخرى، أي أنه تيمم في وقت لا يكون التيمم واجبًا عليه أن يتيمم، وإن كان التيمم شرطًا للصلاة، فالتيمم قبل الوقت مستحب كالوضوء
(4)
.
2 ـ أنها طهارة ضرورة، فلم تصح قبل الوقت كطهارة المستحاضة
(5)
.
المناقشة:
تقدم مناقشة هذا الدليل من وجهين
(6)
، ونضيف هنا وجهًا ثالثًا من المناقشة وهو أن طهارة الضرورة تتعلق بالفعل لا بالوقت، فيلزم أن لا يتيمم حتى يريد فعل الصلاة، فإذا انتهى منها بطل تيممه، وأنتم لا تقولون بهذا
(7)
.
(1)
الانتصار (1/ 437).
(2)
البحر الرائق (1/ 273).
(3)
سبق تخريجه (ص 26).
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 438، 349).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 225)، البيان (1/ 287)، المبدع (1/ 162).
(6)
انظر: (ص 216).
(7)
معرفة أوقات العبادات، خالد المشيقح (1/ 125)، ط: دار المسلم 1418 هـ.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأنه لا يشترط لصحة التيمم دخول الوقت، بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
1 ـ قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى أقام التيمم مقام الماء عند فقده، ولم يفرق بين ما إذا كان قبل الوقت أو بعده
(1)
.
2 ـ قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].
وجه الدلالة:
أن الآية اقتضت جواز فعلها عقيب الزوال، وذلك لا يمكن إلا بتقديم التيمم على الوقت
(2)
.
ثانيًا: من السنة:
حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين»
(3)
.
(1)
رؤوس المسائل للزمخشري (ص 113).
(2)
التجريد (1/ 229).
(3)
تقدم تخريجه (ص 25).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله مطهرًا للمتيمم كالماء، ولم يقيد ذلك بوقت، ولم يقل إن خروج الوقت يبطله
(1)
، وإنما علق جوازه بعدم الماء لا بالوقت
(2)
.
ثالثًا: من المعقول:
1 ـ قياسًا على الوضوء، ومسح الخف
(3)
بجامع أن كلا منهما يصح قبل دخول الوقت.
المناقشة:
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن القياس على الوضوء لا يصح؛ لأن الوضوء يرفع الحدث، والتيمم ضرورة لإباحة الصلاة، ولا تباح الصلاة قبل دخول الوقت
(4)
.
الجواب:
يمكن أن يجاب عليه بأن ذلك هو عين النزاع، ولا يصلح الاستدلال بمحل النزاع.
(1)
مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 353، 354).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 20).
(3)
تبيين الحقائق (1/ 130).
(4)
المجموع (2/ 193).
الوجه الثاني: أن المسح على الخف رخصة وتخفيف فلا يضيق باشتراط الوقت، بدليل أنه يجوز مع القدرة على غسل الرجل، والتيمم ضرورة لا يجوز مع القدرة على استعمال الماء
(1)
.
الجواب:
يمكن أن يجاب بالمنع؛ لأن التيمم تخفيف ورخصة، كالمسح على الخفين، والتيمم بدل مثله عن الغسل بل أقوى؛ لأن المسح مؤقت بمدة قليلة والشارع جوز التيمم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء
(2)
.
وأما القول بأنه ضرورة، فالضرورة فيه عدم الماء، وهذا موجود قبل الوقت
(3)
، فإذًا لا فرق ما بين قبل الوقت أو بعده.
2 ـ أن التيمم طهارة تبيح الصلاة، فلم تتقيد بالوقت كطهارة الماء
(4)
.
3 ـ أن أمر النافلة أوسع من الفرائض، فيجوز لها التيمم قبل الوقت
(5)
.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الثاني القائل بعدم اشتراط دخول الوقت لصحة التيمم، وذلك لما يلي:
(1)
المجموع (2/ 193)، الانتصار (1/ 439).
(2)
انظر: البحر الرائق (1/ 273).
(3)
التجريد (1/ 231).
(4)
المغني (1/ 341).
(5)
مغني المحتاج (1/ 273).
1 ـ لقوة أدلتهم، وإفادتها المراد، وسلامتها من الاعتراضات القادحة.
2 ـ مناقشة أدلة القول الأول.
3 ـ أنه لم يثبت دليل من الكتاب ولا من السنة يدل على بطلان التيمم قبل الوقت.
قال ابن رشد: «
…
فتأمل هذه المسألة فإنها ضعيفة أعني من يشترط في صحته دخول الوقت ويجعله من العبادات المؤقتة، فإن التوقيت في العبادة لا يكون إلا بدليل سمعي، وإنما يسوغ القول بهذا إذا كان على رجاء من وجود الماء قبل دخول الوقت، فيكون هذا ليس من باب أن هذه العبادة مؤقتة، لكن من باب أنه ليس ينطلق اسم غير الواجد للماء إلا عند دخول وقت الصلاة؛ لأنه ما لم يدخل وقتها أمكن أن يطرأ هو على الماء»
(1)
.
(1)
بداية المجتهد (1/ 134، 135).