الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثالث
الوقت المستحب للتيمم
اتفق الفقهاء على أن من عدم الماء بعد طلبه المعتبر جاز له التيمم والصلاة في أول الوقت وآخره ووسطه، ولا فرق في الجواز بين أن يتيقن وجود الماء في آخر الوقت أو لا يتيقنه
(1)
.
قال النووي: «هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة» ، ثم ذكر من نقل الإجماع عليه
(2)
.
وكانت أدلة هذا الاتفاق ما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43، المائدة: 6].
(1)
بدائع الصنائع (1/ 342، 343)، التاج والإكليل (1/ 525، 526)، المجموع (2/ 208)، كشاف القناع (14/ 421).
هناك رأي لبعض المالكية أنه لا يجوز التيمم لمن تيقن أو غلب على ظنه وصوله إلى الماء قبل خروج الوقت، وهو خلاف المعتمد عند المالكية. انظر: حاشية الدسوقي (1/ 258).
وهناك قول للشافعي أنه لا يجوز التيمم إذا علم وصوله إلى الماء قبل خروج الوقت، ولكن قال عنه النووي: وهو شاذ ضعيف لا تفريع عليه. انظر: المجموع (2/ 208).
وهناك رواية للحنابلة أنه لا يجوز التيمم إلا عند ضيق الوقت، ولكن قال عنها الزركشي: ولا عبرة بهذه الرواية. انظر: شرح الزركشي (1/ 333، 334)، الإنصاف (1/ 285، 286).
(2)
المجموع (2/ 208).
وجه الدلالة:
(1)
.
ثانيًا: من السنة:
حديث أبي سعيد الخدري
(2)
رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم آتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد:«أصبت السنة وأجزأتك صلاتك» ، وقال للذي توضأ وأعاد:«لك الأجر مرتين»
(3)
.
(1)
الأم (1/ 97).
(2)
هو: سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري، مشهور بكنيته، استصغر بأحد، واستشهد أبوه بها وغزا هو ما بعدها، وهو مكثر من الحديث، وكان من أفقه أحداث الصحابة، مات بعد سنة ستين من الهجرة.
انظر: أسد الغابة (2/ 432، 433)، الإصابة (3/ 78، 79).
(3)
أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي في الوقت [سنن أبي داود (1/ 93) حديث (338)]، والنسائي في كتاب الغسل والتيمم، باب التيمم لمن لم يجد الماء بعد الصلاة [سنن النسائي (1/ 213) حديث (433)]، والدارمي في كتاب الطهارة، باب التيمم [سنن الدرامي (1/ 207) حديث (744)، ط: دار الكتاب العربي 1407 هـ]، والحاكم في المستدرك (1/ 286) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 231) برقم (1031)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 102)، وصحيح سنن النسائي (1/ 143)، ط: مكتبة المعارف 1419 هـ.
وجه الدلالة:
دل الحديث على أن من تيمم وصلى في أول الوقت فقد أدى فرضه كما أُمر
(1)
.
ثالثًا: من المعقول:
1 ـ أن دخول الوقت وهو على غير ماء لا يمنع من تحصيل مصلحة أول الوقت، فإذا فعل أجزأه
(2)
.
2 ـ أنه بدخول الوقت قد وجبت الصلاة فيمكن المكلف من فعل ما وجب عليه
(3)
.
3 ـ أنه أسقط فرض الصلاة فلم يعد إلى ذمته كما لو وجد الماء بعد الوقت
(4)
.
4 ـ أنه تيمم ليحوز فضيلة لا تتم إلا بطهارة فكان تيممه صحيحًا
(5)
، أشبه ما لو أداها بطهارة الماء
(6)
.
وبعد اتفاق الفقهاء على جواز التيمم والصلاة لعادم الماء في أي جزء من أجزاء الوقت بعد دخول وقت الصلاة وبعد الطلب، اختلفوا في الوقت المستحب للتيمم، هل المستحب تقديم الصلاة بالتيمم أول الوقت أم تأخيرها إلى آخر الوقت؟
(1)
المغني (1/ 320).
(2)
الذخيرة (1/ 361).
(3)
الذخيرة (1/ 360)، التاج والإكليل (1/ 525، 526).
(4)
المبسوط (1/ 111)، المغني (1/ 320).
(5)
المنتقى (1/ 113).
(6)
الكافي لابن قدامة (1/ 100).
اختلف الفقهاء في هذه المسألة، وسبب ذلك أن العادم للماء حال دخول وقت الصلاة لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يتيقن عدم وجود الماء في الوقت، فإنه في هذه الحالة يستحب له تقديم التيمم والصلاة في أول الوقت باتفاق الفقهاء، وذلك لأنه بانتظاره إلى آخر الوقت تضيع عليه الفضيلتان: فضيلة أول الوقت، وفضيلة الطهارة بالماء، فإذا تيمم وصلى أول الوقت فإنه يحصل له بذلك فضيلة أول الوقت
(1)
.
الحالة الثانية: أن يتيقن وجود الماء في آخر الوقت، أو يغلب على ظنه ذلك بحيث يمكنه الوضوء والصلاة قبل خروج الوقت، وقد وقع الخلاف في هذه الحالة على قولين:
القول الأول: أنه يستحب له تأخير التيمم والصلاة إلى آخر الوقت مقدار ما لو لم يجد الماء يمكنه أن يتيمم ويصلي في الوقت، فإن وجد الماء توضأ وصلى، وإن لم يجده أدى صلاته بالتيمم عند ذلك، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة
(2)
.
(1)
بدائع الصنائع (1/ 342)، البحر الرائق (1/ 270، 271)، المنتقى (1/ 113)، مواهب الجليل (1/ 521)، المجموع (2/ 209)، نهاية المحتاج (1/ 271)، الكافي لابن قدامة (1/ 100)، الإنصاف (1/ 285).
هناك رواية عند الحنابلة أن التأخير أفضل. انظر: الفروع (1/ 310)، الإنصاف (1/ 285).
(2)
مختصر القدوري (ص 51)، الاختيار (1/ 30)، المقدمات (1/ 121)، مواهب الجليل (1/ 521)، الإنصاف (1/ 285)، كشاف القناع (1/ 420).
القول الثاني: أنه إذا كان واثقًا من الحصول على الماء بحيث لا يتخلف عنه عادة قبل خروج الوقت فالتأخير أفضل، وأما من لم يتيقن وجود الماء آخر الوقت ولكن توقعه بظن غالب فقولان: أصحهما: التقديم أفضل، والقول الآخر: التأخير أفضل، وهذا قول الشافعية
(1)
.
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأنه يستحب تأخير التيمم والصلاة إلى آخر الوقت لمن تيقن أو غلب على ظنه وجود الماء قبل خروج الوقت، بما يلي:
أولاً: من الآثار:
1 ـ ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه عرس
(2)
في بعض الطرق قريبًا من بعض المياه فاحتلم فاستيقظ، فقال: أترونا ندرك الماء قبل أن تطلع الشمس؟ قالوا: نعم، فأسرع السير حتى أدرك الماء فاغتسل وصلى
(3)
.
2 ـ ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «إذا أجنب الرجل في السفر
(1)
العزيز (1/ 202، 203)، نهاية المحتاج (1/ 271)، وهناك وجه شاذ للشافعية أن التقديم أفضل لمن تيقن وجود الماء في آخر الوقت. انظر: روضة الطالبين (1/ 208).
(2)
التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. النهاية (ص 603).
(3)
رواه مالك في الموطأ (1/ 56) رقم (137)، ط: مؤسسة الرسالة 1418 هـ، وعبد الرزاق في المصنف (1/ 244) برقم (935)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 62)، وقال ابن التركماني في الجوهر النقي مع السنن الكبرى للبيهقي (1/ 232، 233): «فيه عبد الرحمن بن حاطب ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وباقي السند على شرط الصحيح» .
تلوَّم
(1)
ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم وصلى»
(2)
.
قال الكاساني: «ولم يرو عن غيره من الصحابة خلافه فيكون إجماعًا»
(3)
.
المناقشة:
نوقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: أنه ضعيف
(4)
.
الوجه الثاني: أنه قد ثبت عن ابن عمر خلافه، فعن نافع أن ابن عمر تيمم وصلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلان، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة ولم يعد»
(5)
.
وبهذا يتبين أن ما قاله الكاساني فيه نظر.
ثانيًا: من المعقول:
1 ـ أن الطهارة بالماء فريضة، والصلاة في أول الوقت فضيلة، وانتظار الفريضة أولى
(6)
.
(1)
تَلوَّم: أي انتظر، والتلوم: المكث والانتظار. النهاية (ص 846)، لسان العرب (12/ 557).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 148) و (2/ 193)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 62)، والدارقطني في السنن (1/ 186)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 232، 233).
(3)
بدائع الصنائع (1/ 342).
(4)
لأن في إسناده الحارث الأعور، قال عنه البيهقي بعد ذكره للأثر: الحارث الأعور ضعيف لا يحتج بحديثه. انظر: مختصر خلافيات البيهقي (1/ 372)، ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي (2/ 170)، ط: دار الكتب العلمية 1995 م.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/ 229) رقم (884)، والدارقطني في السنن (1/ 186).
(6)
المهذب (1/ 131)، المبدع (1/ 183).
المناقشة:
نوقش بأن التيمم كذلك فريضة عند عدم الماء
(1)
.
2 ـ أن طهارة الماء أصل، والتيمم بدل
(2)
، والطهارة بالأصل أفضل من البدل، ولهذا يجوز أن يصلي بالوضوء صلوات ما لم يحدث اتفاقًا، بخلاف التيمم
(3)
.
3 ـ أن فضيلة الماء أعظم وأولى من فضيلة أول الوقت، ويؤيد هذا أن التيمم لا يجوز مع القدرة على الماء، ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت مع القدرة على أدائها في أوله، فيجوز ترك فضيلة أول الوقت بدون ضرورة، ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة
(4)
.
4 ـ أنه يستحب تأخير الصلاة إلى بعد العشاء
(5)
وقضاء الحاجة
(6)
كيلا يذهب خشوعها وحضور القلب فيها، ويستحب تأخيرها لإدراك الجماعة، فتأخيرها لإدراك الطهارة المشترطة أولى
(7)
.
(1)
المجموع (2/ 208).
(2)
بدائع الصنائع (1/ 342).
(3)
المجموع (2/ 208)، التيمم (ص 75).
(4)
المقدمات (1/ 121)، الحاوي (2/ 1128).
(5)
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدأو بالعَشاء» أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام [صحيح مسلم (1/ 392) حديث (557، 558)].
(6)
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان» أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة بحضرة الطعام [صحيح مسلم (1/ 393) حديث (560)].
(7)
المغني (1/ 319).
أدلة القول الثاني:
استدل الشافعية على استحباب تأخير التيمم والصلاة إلى آخر الوقت لمن تيقن أو غلب على ظنه وجود الماء قبل خروج الوقت بنفس أدلة أصحاب القول الأول.
وأما أدلتهم على أفضلية تقديم التيمم والصلاة في أول الوقت لمن غلب على ظنه وجود الماء قبل خروج الوقت، فهي كالآتي:
أولاً: من السنة:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة في أول وقتها»
(1)
.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين أن يكون بالوضوء أو بالتيمم
(2)
، فدل ذلك على فضل التعجيل بالصلاة في أول الوقت.
(1)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 169) رقم (327)، وابن حبان في صحيحه (4/ 343) رقم (1479)، والدارقطين (1/ 246)، والحاكم في المستدرك (1/ 300) وقال:«وهو صحيح على شرط الشيخين» ، ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك، وهو مطبوع مع المستدرك.
والحديث له شواهد من حديث ابن عمر وأم فروة وغيرهما. انظر: نصب الراية (1/ 241، 242)، تلخيص الحبير (1/ 145، 146).
(2)
العزيز (10/ 203).
المناقشة:
نوقش بأن الحديث يقتضي الفضيلة التي تعود إلى الوقت، وهو مُسَلَّم، والخلاف في معارضة الفضيلة الأخرى
(1)
.
ثانيًا: من الآثار:
1.
عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه أقبل من الجرف
(2)
حتى إذا كان بالمربد
(3)
تيمم، فمسح وجهه ويديه، وصلى العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة»
(4)
.
2.
وعنه أيضًا أنه تيمم وصلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلان، ثم
(1)
التجريد (1/ 265).
(2)
الجرف ـ بضم الميم وسكون الراء ـ: هو اسم موضع قريب من المدينة على ثلاثة أميال نحو الشام، كانوا يعسكرون به إذا أرادوا الغزو، وأصله ما تجرفه السيول من الأودية. الأم (1/ 97)، النهاية (ص 149)، معجم البلدان (2/ 128)، فتح الباري (1/ 526).
(3)
المربد ـ بفتح الميم وسكون الراء وفتح الباء ـ: هو الموضع الذي تحبس فيه الإبل والغنم، من رَبَد بالمكان: إذا أقام فيه، وهو من المدينة على ميل أو ميلين. النهاية (ص 340)، معجم البلدان (5/ 97، 98)، فتح الباري (1/ 526).
(4)
أخرجه الشافعي في الأم (1/ 97)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 61)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 114)، ط: دار الكتب العلمية 1399 هـ، والدارقطني (1/ 186)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 224)، والبخاري تعليقًا في صحيحه بصيغة الجزم، كتاب التيمم، باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء (1/ 128)، وقال النووي في المجموع (2/ 243):«هذا إسناد صحيح» .
دخل المدينة والشمس مرتفعة ولم يعد
(1)
.
المناقشة:
نوقش بأنه يحتمل أنه تيمم لأنه كان في آخر الوقت، ولو كان في سعة من الوقت ما تيمم وهو بطرف المدينة ينظر إلى الماء، ولكنه خاف خروج الوقت فتيمم
(2)
، ويحتمل أنه لم يرد أن يدخل المدينة إلا بعد الوقت ثم بدا له فدخلها، ويحتمل أيضًا أن ابن عمر تيمم لا عن حدث بل لأنه كان يتوضأ لكل صلاة استحبابًا، فلعله كان على وضوء فأراد الصلاة ولم يجد الماء فاقتصر على التيمم بدل الوضوء
(3)
.
ثالثًا: من المعقول:
أن فضيلة أول الوقت ناجزة وهي تفوت بالتأخير يقينًا، وفضيلة الوضوء غير معلومة الحصول، فصيانة الناجز عن يقين الفوات أولى من المحافظة على أمر مظنون
(4)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين
(5)
:
(1)
تقدم تخريجه (ص 237).
(2)
الاستذكار (3/ 177).
(3)
فتح الباري (1/ 526).
(4)
العزيز (1/ 203).
(5)
التجريد (1/ 265).
الوجه الأول: أن ما عاد إلى وجود الماء فالظن واليقين فيه سواء، أصله: إذا كان مع رفيقه ماء فتيقن أنه يعطيه أو غلب على ظنه، لم يجز له التيمم.
الوجه الثاني: أن الوضوء فضيلة جعلت شرطًا في الصلاة، والتقديم فضيلة ليست بشرط، فكان اعتبار ما هو شرط أولى.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول القائل باستحباب تأخير التيمم والصلاة إلى آخر الوقت لتحصيل طهارة الماء إذا غلب على ظنه وجوده، حتى ولو فاتت فضيلة أول الوقت، وذلك لما يلي:
1 ـ لقوة أدلتهم، وإفادتها المراد، وسلامة أكثرها من الاعتراضات القادحة.
2 ـ مناقشة أدلة القول الثاني.
3 ـ قياسًا على من تيقن وجود الماء في آخر الوقت فإن التأخير له مستحب، فكذا إذا غلب على ظنه ذلك، فإن غلبة الظن قائمة مقام العلم في العبادات
(1)
.
الحالة الثالثة: أن يشك في وجود الماء وعدمه في الوقت بأن يستوي عنده الاحتمالان فلا يترجح أحدهما على الآخر. وقد وقع الخلاف في هذه الحالة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يستحب تقديم التيمم والصلاة في أول الوقت، وهو قول الحنفية،
(1)
انظر: شرح العناية (1/ 136).
وقول للشافعية، صححه الشيرازي
(1)
،
وجزم به الرافعي، وهو وجه للحنابلة
(2)
.
القول الثاني: أنه يستحب تأخير التيمم والصلاة إلى آخر الوقت، وهو قول للشافعية، ووجه للحنابلة، وهو المذهب
(3)
.
القول الثالث: أنه يستحب له التيمم والصلاة وسط الوقت، وهو قول المالكية
(4)
.
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأنه يستحب تقديم الصلاة بالتيمم أول الوقت لمن شك في وجود الماء وعدمه في الوقت، بما يلي:
أن فضيلة أول الوقت متيقنة، والقدرة على كمال الطهارة في آخر الوقت فضيلة مجوزة، والعمل بما تيقنه من الفضيلتين أولى من الاتكال على ما شك في وجوده
(5)
.
(1)
هو: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، الإمام المحقق المتقن المدقق، شيخ الإسلام علمًا وعملاً وورعًا وزهدًا، ولد سنة (393 هـ)، له مصنفات عظيمة القدر منها: المهذب، والتنبيه، واللمع وغيرها، توفي سنة (476 هـ).
انظر: تهذيب الأسماء واللغات (2/ 465 ـ 467)، طبقات الشافعية الكبرى (4/ 215 ـ 256).
(2)
البحر الرائق (1/ 270، 271)، رد المحتار (1/ 370، 371)، المهذب (1/ 131)، العزيز (1/ 204)، شرح الزركشي (1/ 334)، الإنصاف (1/ 285).
(3)
المهذب (1/ 131)، المجموع (2/ 209)، الإنصاف (1/ 285)، كشاف القناع (1/ 420).
(4)
المنتقى (1/ 113)، مواهب الجليل (1/ 521).
(5)
الحاوي (2/ 1132)، شرح الزركشي (1/ 334).
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأنه يستحب تأخير التيمم والصلاة إلى آخر الوقت لمن كان شاكًا في وجود الماء، بما يلي:
1 ـ ما روي عن علي أنه قال: «إذا أجنب الرجل في السفر تلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم وصلى»
(1)
.
المناقشة:
نوقش بأنه ضعيف لا يحتج به
(2)
.
2 ـ أن الطهارة بالماء فريضة، والصلاة في أول الوقت فضيلة، وانتظار الفريضة أولى
(3)
.
المناقشة من وجهين:
الوجه الأول: أن التيمم إذا عدم الماء صار فريضة
(4)
؛ لأن البدل يأخذ حكم المبدل.
الوجه الثاني: أنه لا يستحب ترك فضيلة أول الوقت وهي متحققة لأمر مظنون.
أدلة القول الثالث:
استدل القائلون باستحباب التيمم وسط الوقت لمن كان شاكًا في وجود الماء، بما يلي:
(1)
تقدم تخريجه (ص 236).
(2)
تقدم بيان وجه ضعفه (ص 236)، هامش رقم (6).
(3)
المهذب (1/ 131)، كشاف القناع (1/ 420).
(4)
المجموع (2/ 208).
أن الشاك لم تبلغ فيه قوة الرجاء أن يؤخره، ولا ضعفه أن يقدمه، فاستحب له الوسط
(1)
.
المناقشة:
يمكن مناقشته من وجهين:
الوجه الأول: أنه رأى محض لا دليل عليه.
الوجه الثاني: أنه لا يستحب ترك فضيلة أول الوقت وهي متحققة لأمر مظنون.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول القائل باستحباب تقديم التيمم والصلاة في أول الوقت لمن كان شاكًا في وجود الماء أو عدمه في الوقت، وذلك لما يلي:
1 ـ لقوة دليلهم، في مقابل ضعف أدلة القوة الثاني والثالث بما حصل من مناقشتها.
2 ـ أن المسارعة إلى أداء الفرائض مطلوبة؛ لإبراء الذمة والحوز على أعظم الأجر، قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
قال ابن كثير: «ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات»
(2)
.
(1)
المقدمات (1/ 121)، المعونة (1/ 148).
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 634).
3 ـ أنه لا معنى للتأخير مع اليأس والشك، فالأفضل تقديم التيمم والصلاة في أول الوقت؛ قياسًا على المتوضئ.
قال الخطابي: «ففي هذا الحديث ـ أي حديث أبي سعيد الخدري السابق
(1)
ـ من الفقه أن السنة تعجيل الصلاة للمتيمم في أول وقتها كهو للمتطهر بالماء»
(2)
.
ويمكن تلخيص هذه المسألة بأن يقال:
1 ـ يترجح تأخير الصلاة في حالتين:
الحالة الأولى: إذا علم وجود الماء.
الحالة الثانية: إذا ترجح عنده وجود الماء.
2 ـ ويترجح تقديم الصلاة أول الوقت في ثلاث حالات:
الأولى: إذا علم عدم وجود الماء.
الثانية: إذا ترجح عنده عدم وجوده.
الثالثة: إذا لم يترجح عنده شيء
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه (ص 233).
(2)
معالم السنن شرح سنن أبي داود للخطابي (1/ 90)، ط: دار الكتب العلمية 1414 هـ.
(3)
الشرح الممتع (1/ 408).