الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
حكم صلاة فاقد الطهورين
إذا فقد المحدث الطهورين كأن يُحبس في موضع ليس فيه واحد منهما، أو حبس في موضع نجس وليس لديه ماء، أو كان لديه ماء يحتاج إليه لعطش، وكالمصلوب على خشبة ونحوها، وكمن كان في سفينة ولا يستطيع الوصول إلى الماء، وكمن كان على دابته ويخاف على نفسه إن نزل منها
(1)
، ونحو ذلك من الصور التي لا يستطيع الشخص استعمال الطهورين فيها، فهل يصلي بدون طهارة أم تسقط عنه الصلاة؟
للفقهاء في هذه المسألة أربعة أقوال:
القول الأول: أنه لا يصلي على حاله، بل يقضي إذا وجد أحد الطهورين، وهو قول أبي حنيفة، وأصبغ
(2)
من المالكية، وقول للشافعية (هو قول قديم للشافعي)
(3)
.
(1)
ومثله في زماننا من كان في سيارته وخاف على نفسه أو على من معه كأهله الضرر إن نزل منها، وكذلك من كان في الطائرة أو في القطار ويستحيل عليه النزول منهما.
(2)
هو: أبو عبد الله أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع المصري المالكي، الإمام الفقيه المحدث، وكان قد رحل إلى المدينة ليسمع من مالك، فدخلها يوم مات، كان من أعلم الناس برأي مالك، روى عنه البخاري وغيره، توفي سنة (225 هـ).
انظر: ترتيب المدارك (1/ 325 ـ 328)، الديباج المذهب (ص 97).
(3)
الأصل (1/ 125)، المبسوط (1/ 123)، الذخيرة (1/ 350)، العزيز (1/ 262)، المجموع (2/ 223).
القول الثاني: أنه يصلي على حسب حاله، ويجب عليه الإعادة إذا وجد أحد الطهورين، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية، وابن القاسم
(1)
من المالكية، والصحيح عند الشافعية (هو قول الإمام الشافعي في الجديد)، ورواية عند الحنابلة
(2)
.
القول الثالث: أنه يصلي في الحال، وليس عليه إعادة، وهو قول أشهب
(3)
من المالكية، وقول للشافعية (هو قول قديم للشافعي) واختاره المزني، وهو مذهب الحنابلة
(4)
.
(1)
هو: أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة، العتقي بالولاء، الإمام، الفقيه المالكي، جمع بين الزهد والعلم، وتفقه بالإمام مالك وصحبه عشرين سنة، وانتفع به أصحاب مالك بعد موت مالك، وهو صاحب المدونة، ولد سنة (132 هـ)، وقيل:(128 هـ)، وتوفي بمصر سنة (191 هـ).
انظر: وفيات الأعيان (3/ 129، 130)، الديباج المذهب (ص 146، 147).
(2)
الأصل (1/ 125)، المبسوط (1/ 123)، الاستذكار (3/ 150)، الأم (2/ 107)، المجموع (2/ 223)، المغني (1/ 327، 328)، الإنصاف (1/ 269، 270).
ملاحظة: اختلفت الروايات عن محمد بن الحسن، فروي عنه مثل قول أبي حنيفة، وروي عنه مثل قول أبي يوسف. انظر: بدائع الصنائع (1/ 326)، البحر الرائق (1/ 286).
(3)
هو: أبو عمر أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي العامري، الإمام، الفقيه المالكي، وأشهد لقب، واسمه مسكين، تفقه بمالك، كان نبيلاً، حسن النظر، ألف مدونة تسمى مدونة أشهب، توفي سنة (204 هـ).
انظر: ترتيب المدارك (1/ 259 ـ 262)، الديباج المذهب (ص 98، 99).
(4)
عقد الجواهر الثمينة (1/ 64)، العزيز (1/ 264)، المجموع (2/ 223، 225)، المحرر (1/ 23)، الإنصاف (1/ 269، 270).
القول الرابع: أنه لا يصلي على حاله ولا يقضي، وهو مذهب المالكية
(1)
.
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن فاقد الطهورين لا يصلي حتى يجد أحد الطهورين فيقضي، بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى نهى عن قربان الصلاة إلا بطهارة، فدل على أنه لا يجوز الدخول فيها بالحدث.
ثانيًا: من السنة:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقبل صلاة بغير طهور»
(2)
.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى القبول عن الصلاة التي تؤدى بغير طهارة، وما لا يقبل لا يشرع فعله
(3)
.
(1)
التاج والإكليل (1/ 528 ـ 530)، مواهب الجليل (1/ 529، 530)، شرح الزرقاني (1/ 230).
(2)
تقدم تخريجه (ص 186).
(3)
رد المحتار (1/ 374)، الذخيرة (1/ 350).
المناقشة:
نوقش استدلالهم بالآية والحديث بأنهما محمولان على من قدر على الطهارة بالماء أو التراب، لا على من لا يقدر على الطهارة
(1)
.
ثالثًا: من المعقول:
أن عدم الطهارة أصلاً وبدلاً يمنع من انعقاد الصلاة، كالحائض
(2)
.
المناقشة:
نوقش بأن الحائض مكلفة بترك الصلاة، لا طريق لها إلى فعلها ولو وجدت الطهور، وهذا بخلافها
(3)
.
أن الصلاة عبادة لا يسقط قضاؤها، فلم تكن واجبة عند العجز عن الطهارة، كصيام الحائض
(4)
.
المناقشة:
نوقش بأنه قياس لا يصح؛ لأن الصوم يدخله التأخير بخلاف الصلاة، بدليل أن المسافر يؤخر الصوم دون الصلاة
(5)
.
(1)
المجموع (2/ 226)، المحلى (1/ 89).
(2)
المنتقى (1/ 116)، الحاوي (2/ 1067).
(3)
المجموع (2/ 226)، فتح الباري لابن رجب (2/ 30).
(4)
بدائع الصنائع (1/ 327).
(5)
المغني (1/ 329).
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن فاقد الطهورين يصلي ويعيد، بمايلي:
أولاً: من السنة:
حديث عائشة رضي الله عنها: «أنها استعارت من أسماء
(1)
قلادة فهلكت
(2)
، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً
(3)
فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم»
(4)
.
وجه الدلالة:
دل الحديث على وجوب الصلاة لفاقد الطهورين، وذلك لأنهم صلوا معتقدين وجوب ذلك، ولو كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا شرعًا عامًا حتى يرد الدليل الرافع له
(5)
.
(1)
هي: أسماء بنت أبي بكر الصديق، أسلمت قديمًا بمكة، وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله ابن الزبير فوضعته بقباء، كانت تسمى بذات النطاقين، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، توفيت بمكة سنة (73 هـ).
انظر: الاستيعاب (4/ 1783)، الإصابة (7/ 486).
(2)
هلكت: أي سقطت وضاعت. لسان العرب (10/ 506)، فتح الباري (1/ 519).
(3)
هذا الرجل هو: أُسيد بن حُضير، وقد صرح بذلك أبو داود في رواية له عن عائشة رضي الله عنها. سنن أبي داود (1/ 86).
(4)
أخرجه البخاري ـ واللفظ له ـ في كتاب التيمم، باب إذا لم يجد ماء ولا ترابًا [صحيح البخاري (1/ 128) حديث (329)]، ومسلم في كتاب الحيض، باب التيمم [صحيح مسلم (1/ 279) حديث (367)].
(5)
إكمال المعلم (2/ 219)، معالم السنن (1/ 83، 84)، فتح الباري (1/ 524).
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»
(1)
.
وجه الدلالة:
أن العجز عن الطهارة لا يبيح ترك الصلاة؛ لأنه مأمور بالصلاة بشروطها، فمتى عجز عن بعضها أتى بما قدر عليه منها
(2)
.
واستدلوا على وجوب الإعادة بما يلي:
أولاً: من السنة:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقبل صلاة بغير طهور»
(3)
.
وجه الدلالة:
دل الحديث على أن الصلاة بغير طهارة غير مقبولة، وإذا كانت غير مقبولة فلابد من إعادتها.
المناقشة:
نوقش هذا الدليل بما نوقش به دليل الكتاب والسنة من أدلة القول الأول.
(1)
تقدم تخريجه (ص 97).
(2)
المهذب (1/ 133)، الحاوي (2/ 1068).
(3)
تقدم تخريجه (ص 186).
ثانيًا: من المعقول:
أن العجز عن الطهارة عذر نادر غير متصل، فلم تسقط الإعادة، كمن صلى محدثًا ناسيًا، فإنه يلزمه الإعادة
(1)
.
المناقشة من وجهين:
الوجه الأول: أنكم إذا أوجبتم عليه الإعادة إذا قدر على الماء أو التيمم، لم يكن أمركم إياه بالصلاة معنى
(2)
.
الوجه الثاني: أن القياس على إعادة صلاة من صلى محدثًا لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن من صلى محدثًا ناسيًا حدثه لم يكن مأمورًا بتلك الصلاة، وإنما أمره الله أن يصلي بالطهارة، فإذا صلى بغير طهارة كان عليه الإعادة، بخلاف العاجز عن الطهارة فإنه فعل كما أمر وبما قدر عليه، فلم تلزمه الإعادة
(3)
.
أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بأن فاقد الطهورين يصلي ولا يعيد، بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
(1)
المجموع (2/ 225)، المبدع (1/ 174).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (2/ 19)، التمهيد (19/ 278).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 448).
ثانيًا: من السنة:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق وفيه: «
…
وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»
(1)
.
وجه الدلالة:
هذه النصوص تدل على أنه لا يكلف المرء في العبادة إلا ما استطاعه، وأن ما لم يستطعه لا يكلف به
(2)
، وفاقد الطهورين لا يستطيع الصلاة إلا بتلك الحال، فوجب عليه ذلك.
حديث عائشة رضي الله عنها السابق وفيه: «
…
فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية التيمم»
(3)
.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بإعادة ما صلوه مع الحدث، بل ولا أنكر صنيعهم، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
(4)
.
المناقشة:
نوقش بأن الإعادة لا تجب على الفور، فلم يتأخر البيان عن وقت الحاجة
(5)
.
(1)
تقدم تخريجه (ص 97).
(2)
المحلى (1/ 88).
(3)
تقدم تخريجه (ص 520).
(4)
الذخيرة (1/ 351)، المبدع (1/ 174)، فتح الباري (1/ 524).
(5)
المجموع (2/ 226)، فتح الباري (1/ 524، 525).
الجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا التعقيب ليس بجيد، والصواب وجوب الإعادة على الفور عند وجود مقتضيها، فلما لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة دل على عدم وجوبها
(1)
.
الوجه الثاني: أنه على التسليم بصحة ما قالوه، فإنه لابد من دليل آخر يدل على وجوب الإعادة، فالإعادة إنما تجب بأمر جديد، ولم يثبت الأمر، والأصل عدمه، فلا تجب الإعادة
(2)
.
ثالثًا: من المعقول:
أن الطهارة شرط للصلاة فلا تؤخر لفقدان هذا الشرط، كالسترة واستقبال القبلة
(3)
.
أن المكلف قد فعل ما أمر به باستطاعته، فلا إعادة عليه
(4)
.
أن إيجاب الإعادة يؤدي إلى إيجاب ظهرين عن يوم واحد، وذلك ممنوع
(5)
.
أدلة القول الرابع:
استدل القائلون بأن الفاقد للطهورين لا يصلي ولا يقضي، بما يلي:
(1)
هذا تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على فتح الباري (1/ 524).
(2)
شرح صحيح مسلم (4/ 283)، فتح الباري (1/ 525).
(3)
مواهب الجليل (1/ 529)، الانتصار (1/ 417).
(4)
نهاية المحتاج (1/ 318)، المغني (1/ 328).
(5)
الإشراف (1/ 171)، المجموع (2/ 225)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 448).
أولاً: من السنة:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقبل صلاة بغير طهور»
(1)
.
وجه الدلالة:
دل الحديث على عدم قبول الصلاة التي بغير طهور، وما لا يقبل لا يشرع فعله.
المناقشة:
نوقش هذا الدليل بما نوقش به دليل السنة من أدلة القول الأول.
ثانيًا: من المعقول:
أن هذا محدث لا يقدر على رفع حدثه ولا استباحة الصلاة، فلم تجب عليه صلاة ولا قضاء كالحائض
(2)
.
المناقشة:
نوقش بأنه قياس لا يصح، وذلك للأمور التالية
(3)
:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ، وهذا يستطيع الصلاة.
(1)
تقدم تخريجه (ص 186).
(2)
الإشراف (1/ 170، 171)، الشرح الصغير (1/ 201).
(3)
المغني (1/ 329).
قياس الطهارة على سائر شرائط الصلاة أولى من قياسها على الحائض؛ لأن الحيض أمر معتاد يتكرر عادة، والعجز هاهنا عذر غير معتاد فلا يصح قياسه على الحيض.
أن هذا عذر نادر فلم يُسقط الفرض، كنسيان الصلاة، وفقد سائر الشروط.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الثالث القائل بأن فاقد الطهورين يصلي في الحال، وليس عليه إعادة، وذلك لما يلي:
لقوة أدلتهم، وسلامتها من المعارضة، في مقابل ضعف أدلة المخالفين بما حصل من مناقشة.
أن الصحابة رضي الله عنهم قد صلوا بلا وضوء عند فقدهم الماء، والوضوء هو الأصل، فإذا جاز أن يصلي المكلف على حاله بلا وضوء عند فقدان الماء وهو الأصل، فلأن يجوز أن يصلي المكلف عند فقدان الماء والتراب الذي هو بدل عن الأصل من باب أولى.
أن هذا القول هو الموافق لسماحة الشريعة الإسلامية ويسرها، وحرصها على رفع الحرج عن المكلف.