الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
حكم من وجد من الماء
بعض ما يكفيه
اتفق الفقهاء على جواز التيمم ومشروعيته عند عدم الماء حقيقة أو حكمًا
(1)
؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة: 6]، فلم يجعل الله تعالى للتيمم حكمًا مع وجود الماء.
واختلفوا في حكم من وجد من الماء بعض ما يكفيه للوضوء أو الغسل، فهل يستعمله ثم يتيمم للباقي، أم لا يلزمه استعماله ويجزئه التيمم؟ على قولين
(2)
:
القول الأول: أنه يلزمه استعمال الماء ثم يتيمم للباقي، وهو الأصح عند الشافعية (هو قول الإمام الشافعي في الجديد)، ومذهب الحنابلة.
القول الثاني: أنه يتيمم ولا يلزمه استعمال الماء، وهو قول الحنفية، والمالكية، وقول للشافعية (هو قول الإمام الشافعي في القديم) واختاره المزني
(3)
، ووجه للحنابلة في المحدث حدثًا أصغر.
(1)
بدائع الصنائع (1/ 315)، الشرح الكبير للدردير (1/ 242)، نهاية المحتاج (1/ 265)، الكافي لابن قدامة (1/ 97).
(2)
المبسوط (1/ 113)، بدائع الصنائع (1/ 327)، المدونة (1/ 47)، مواهب الجليل (1/ 486، 487)، مختصر المزني (ص 16)، المجموع (2/ 214)، نهاية المحتاج (1/ 272)، المسائل الفقهية (1/ 93)، المغني (1/ 314، 315)، كشاف القناع (1/ 397).
(3)
هو: إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو المزني المصري، تلميذ الشافعي، وناصر مذهبه، الإمام العلامة الزاهد، كان رأسًا في الفقه، ولد سنة (175 هـ)، من كتبه: المختصر، الجامع الكبير، المنثور، وغيرها، توفي سنة (264 هـ).
انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 492 ـ 497)، شذرات الذهب (2/ 148).
سبب الخلاف:
وسبب الخلاف بين العلماء في هذه المسألة هو أن الله تعالى أمر القائم إلى الصلاة بغسل الأعضاء المذكورة في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، ومعلوم أنها لا تغسل إلا بماء، ولكن الماء غير مذكور ولا منصوص عليه في صدر الآية، فلما قال تعالى عقب ذلك:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 2] وقع الإشكال، هل المراد ماء وإن لم يكف، فيجب استعمال ما لا يكفي في الطهارة منه، لأنه يسمى ماء، أو المراد الماء المتقدم التنبيه عليه وإن لم يذكر، فلا يجب استعمال ما لا يكفي منه
(1)
؟
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن من وجد من الماء بعض ما يكفيه، فإنه يلزمه استعماله ثم يتيمم للباقي بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة: 6].
(1)
شرح التلقين (1/ 272).
وجه الدلالة:
دلت الآية على أن من وجد من الماء بعض ما يكفيه فإنه يستعمله ويتيمم للباقي، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى اشترط للتيمم عدم الماء، ومن كان عنده شيء من الماء فإنه يعتبر واجدًا للماء
(1)
.
المناقشة:
نوقش بالمنع؛ لأن المراد بالآية وجود الماء الكافي للطهارة، وهذا غير واجد لماء يكفيه فوجب أن يتيمم
(2)
، ويترك الماء الذي لا يكفيه؛ لأنه إن استعمله وتيمم ترك حكم الآية
(3)
.
الوجه الثاني: أن كلمة {مَاءً} في الآية جاءت نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم لكل ما يطلق عليه اسم الماء، فاقتضى ذلك أنه إذا وجد ماءً قليلاً كان أو كثيرًا لم يجز له التيمم
(4)
.
المناقشة:
نوقش بأن الآية سيقت لبيان الطهارة الحكمية، فكأن التقدير فلم تجدوا ماء
(1)
المهذب (1/ 132)، المغني (1/ 315).
(2)
المنتقى (1/ 115).
(3)
عيون الأدلة (ص 967).
(4)
البيان (1/ 298)، نهاية المحتاج (1/ 272)، الانتصار (1/ 408).
محللاً للصلاة بدليل أن وجود الماء النجس لا يمنع من التيمم وإن تناولته النكرة المذكورة، والحل موقوف على ما يكفي الأعضاء كلها
(1)
.
ثانيًا: من السنة:
1 ـ حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير»
(2)
.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط للتيمم عدم الماء، ومن وجد شيء من الماء فإنه يجب عليه استعماله ثم التيمم للباقي، ولم يفرق بين ماء قليل يكفيه أو لا يكفيه.
المناقشة:
ويمكن أن يناقش الاستدلال بهذا الحديث بما نوقش به الاستدلال بالآية السابقة.
2 ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
…
وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»
(3)
.
(1)
شرح العناية (1/ 121)، البحر الرائق (1/ 242).
(2)
سبق تخريجه (ص 25).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم[صحيح البخاري (6/ 2658) حديث (6858)]، ومسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر [صحيح مسلم (2/ 975) حديث (1337)].
وجه الدلالة:
أن الحديث يدل على العفو عن كل ما خرج عن طاقة الإنسان، وعلى وجوب الإتيان بما دخل تحت الاستطاعة من المأمور به، وهذا مستطيع لأن يأتي ببعض وضوئه أو ببعض غسله، غير مستطيع على باقيه، ففرض عليه أن يأتي من الغسل بما يستطيع في الأول فالأول من أعضاء الوضوء، وأعضاء الغسل حيث بلغ، فإذا نفذ لزمه التيمم لباقي أعضائه ولابد؛ لأنه غير واجد للماء في تطهيرها، فالواجب عليه تعويض التراب كما أمره الله تعالى
(1)
.
المناقشة:
يمكن مناقشته بأن المراد في الحديث أن يأتي المكلف ما يستطيعه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم إن كان مفيدًا، ومن وجد من الماء ما يكفي بعض أعضاء الوضوء دون البعض فإنه لا يقدر على رفع حدثه بهذا القدر من الماء فهو في حكم العادم، ولا حكم لوجود ما يكفي لبعض الوضوء فإن فاعل ذلك لا يسمى متوضئًا ولا يصدق عليه أنه قد فعل ما أمر الله به من الوضوء، فالواجب عليه ترك غسل ذلك البعض الذي لم يجد من الماء إلا ما يكفيه ويعدل إلى التيمم
(2)
.
(1)
المحلى (1/ 87، 88)، نيل الاوطار (1/ 307).
(2)
السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار للشوكاني (1/ 329)، ط: دار ابن كثير 1421 هـ.
ثالثًا: من المعقول:
1 ـ أن المكلف إذا وجد من الماء ما يمكنه استعماله في بعض جسده لزمه ذلك، كما لو كان أكثر بدنه صحيحًا وباقيه جريحًا
(1)
.
المناقشة:
نوقش بأن هذا القياس غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق يتضح بما يلي:
الأول: أن من كان بعض أعضائه جريحًا، إنما وجب عليه الطهارة بالماء؛ لأنه واجد له وباستطاعته تطهير الأعضاء السليمة، وهذا هو الأصل، ووجب عليه التيمم عن الأعضاء الجريحة لعدم القدرة على تطهيرها بالماء وإن كان موجودًا فعدل إلى ما ينوب عنه وهو التيمم للضرورة، ولا ضرورة في الجمع بين طهارة لبعض أعضاء الصحيح بالماء، وطهارة بعضه الآخر بالتيمم
(2)
.
الثاني: أن العجز ببعض البدن يخالف العجز ببعض الواجب بدليل أن من بعضه حر إذا ملك الرقبة لزمه إعتاقها في كفارته، ولو ملك الحر بعض الرقبة لم يلزمه إعتاقها
(3)
.
قلت: ويناقش أيضًا بأنه احتجاج بمذهب على مذهب، فلا يصح القياس.
(1)
مغني المحتاج (1/ 249)، نهاية المحتاج (1/ 272)، المغني (1/ 315)، الممتع (1/ 244).
(2)
طهارة أصحاب الأعذار غير المرضية، د. محمد أبو يحيى (ص 33).
(3)
المغني (1/ 315).
2 ـ لأن كل من كان قادرًا على بعض الشرط فإنه يلزمه، كستر العورة وإزالة النجاسة والقراءة، فإنه يستر من عورته ويزيل من النجاسة ما قدر، ويقرأ ما أحسن
(1)
.
المناقشة:
نوقش بأنه قياس فاسد؛ لأن السترة وإزالة النجاسة والقراءة تتجزأ فيفيد إلزامه باستعمال القليل للتقليل بخلاف ما نحن فيه، حيث لا فائدة ترجى من استعمال الماء القليل؛ لأن الحدث لا يتجزأ فهو قائم ما بقي أدنى لمعة، فاستعمال الماء والحالة هذه يعتبر مجرد إضاعة المال في موضع عزته، وهو منهي عنه
(2)
.
3 ـ أن العجز عن إيصال الماء إلى بعض أعضائه لا يقتضي سقوط الفرض عن إيصاله إلى ما لم يعجز عنه من أعضائه قياسًا على العادم لبعض أعضائه
(3)
.
المناقشة:
نوقش بأن هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأنه لا أحد يقول بسقوط الفرض، وإنما يكون السقوط في أن لا يجتمع الغسل والتيمم في حال واحدة؛ لأن
(1)
الحاوي (2/ 1123)، المغني (1/ 315)، رؤوس المسائل الخلافية للعكبري (1/ 82).
(2)
بدائع الصنائع (1/ 327، 328)، شرح فتح القدير (1/ 135)، البحر الرائق (1/ 242).
(3)
الحاوي (2/ 1122)، التعليقة الكبرى (ص 968).
استعمال الماء القليل في بعض الأعضاء لا يرفع الحدث، ولابد معه من التيمم فلم يستفد باستعمال الماء شيئًا؛ لأن التيمم الذي هو بدل عن جميع الأعضاء لابد منه؛ لأن حدثه غير مرتفع
(1)
كما لو لم يجد الماء أصلاً.
4 ـ قياسًا على المضطر إذا وجد بعض ما يسد به رمقه من الطعام، فإنه يلزمه أكل ذلك البعض قبل أكل الميتة
(2)
.
المناقشة:
نوقش بأنه قياس غير صحيح، وذلك من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن أكل الطعام ليس بعبادة حتى يقال لها بدل
(3)
.
الوجه الثاني: أن أكل الميتة للضرورة، ولا ضرورة في استعمال الماء القليل لأنه لا يرفع الحدث.
الوجه الثالث: أن هذا الدليل ينقلب عليكم في الوضوء والتيمم جميعًا؛ لأنه مع استعمال الماء الذي يكفي لغسل وجهه لا يتمه بالتيمم الذي هو بدل عند الضرورة، وإنما يأتي بالتيمم الكامل على صفته كما لو لم يجد الماء أصلاً
(4)
.
(1)
التجريد (1/ 250)، عيون الأدلة (ص 971).
(2)
الحاوي (2/ 1123).
(3)
التجريد (1/ 247).
(4)
عيون الأدلة (ص 977).
5 ـ أنه واجد لماء طهور لا يخاف من استعماله ضررًا فوجب عليه استعماله كما لو كان يكفيه
(1)
.
المناقشة:
نوقش بأن من وجد ماء يكفيه لجميع أعضائه فإن حدثه يرتفع، وإذا استعمل الماء القليل وتيمم لم يرتفع حدثه، فلم يجز رده إليه، وكان رده إلى من لا يجد الماء أصلاً أولى؛ لأن التيمم لا يرفع حدثه
(2)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن من وجد من الماء بعض ما يكفيه فإنه لا يلزمه استعماله بل يتيمم فقط بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
…
} ثم قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى أراد بالماء في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} هو الماء الكافي للأعضاء الذي أمر بغسلها في أول الآية
(3)
، وذلك لأن مطلق
(1)
التعليقة الكبرى (ص 968).
(2)
عيون الأدلة (ص 970).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (5/ 222).
الماء ينصرف إلى المتعارف، والمتعارف من الماء في باب الوضوء والغسل هو الماء الذي يكفي للوضوء والغسل فينصرف المطلق إليه، ومن لم يجد ماء كافيًا لطهارته، كان كمن لم يجد الماء أصلاً، فيكون حكمه الشرعي الانتقال إلى التيمم
(1)
.
المناقشة:
نوقش بأنه لم يأت في أول الآية للماء ذكر حتى نحمل آخر الآية عليه، ثم لو كان ذلك صحيحًا لعرفه بالألف واللام، فقال: فلم تجدوا الماء؛ لأن إعادة المذكور يكون معرفًا كما هو عادة العرب
(2)
.
الجواب:
أجيب عنه بجوابين:
1 ـ أن الماء في مضمون الغسل ليس بملفوظ به، فلم يصح تعريف ما لم يتقدم له لفظ، ولم يجز الكناية عما لم يذكره في الابتداء
(3)
.
2 ـ أن الله تعالى لو ذكر في أول الآية ماء منكرًا، ثم قال: فلم تجدوا ماء لم يجب عليه أن يُعرّف بالألف واللام؛ لأنه لو عرفه لصار الأمر مقصورًا على ماء بعينه من بين سائر المياه، فأعاده بلفظ منكر؛ ليعلمنا أننا إذا عدمنا ماء من المياه يكفينا
(1)
بدائع الصنائع (1/ 328).
(2)
الانتصار (1/ 409).
(3)
التجريد (1/ 249).
لجميع الأعضاء وجب التيمم، ومثل هذا قوله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]، فأراد باليسر الثاني غير ما أراد باليسر الأول
(1)
.
ثانيًا: من السنة:
حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته
…
»
(2)
.
وجه الدلالة:
دل الحديث على أن من وجد من الماء بعض ما يكفيه فإنه لا يستعمله ويتيمم، وذلك من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرّف الماء بالألف واللام وذلك لأحد وجهين إما أن تكون لاستغراق الجنس، أو المعهود، فإن كان أراد به استغراق الجنس صار في التقدير كأنه قال: إن الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد مياه الدنيا، وإن كان أراد به المعهود، فالمراد به ما يقع به كمال الطهارة، فلذا وجب على من وجد من الماء بعض ما يكفيه أن يتيمم بظاهر الخبر
(3)
.
الوجه الثاني: أن المراد بالماء في الحديث ما يكفي لرفع الحدث بنية استباحة الصلاة ونحوها، أما ما دونه فوجوده وعدمه سيان؛ إذ لا يثبت به استباحة الصلاة فكان كالمعدوم
(4)
.
(1)
عيون الأدلة (ص 966).
(2)
سبق تخريجه (ص 25).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 13).
(4)
شرح العناية (1/ 121).
الوجه الثالث: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «فليمسه بشرته» يدل على أنه إذا وجد ماء يكفيه لإمساس بشرته كلها استعمله وإلا فلا؛ لأنه لم يقل: فليمسه بعض بشرته، فدل ذلك على أن من وجد ماء يكفي بعض بشرته لم يستعمله ويتيمم
(1)
.
ثالثًا: من المعقول:
1 ـ أن التيمم شرع بدلاً عن الوضوء، والجمع بين البدل والمبدل عنه لا يجب، كما لو وجد بعض الرقبة لم يلزمه إعتاقها والصوم
(2)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن التيمم بدل عما لم يصل إليه الماء وليس عن المغسول من الأعضاء، فلم يكن جمعًا بين بدل ومبدل
(3)
.
الجواب:
يمكن أن يجاب بأن التيمم بدل من غسل جميع الأعضاء، وغير جائز وقوعه على بعض الأعضاء دون بعض، ولهذا نجد أنه ينوب عن الغسل تارة وعن الوضوء أخرى، على أنه قام مقام جميع الأعضاء التي أوجب الحدث غسلها، فلو أوجبنا عليه غسل ما يمكنه غسله مع التيمم لم يخل التيمم من أن يقوم مقام غسل
(1)
عيون الأدلة (ص 969).
(2)
المعونة (1/ 151)، الذخيرة (1/ 339).
(3)
الحاوي (2/ 1123).
بعض أعضائه أو جمعيه، فإن قام مقام ما لم يغسل منه فقد صار التيمم إنما يقع طهارة عن بعض الأعضاء وذلك مستحيل؛ لأنه لا يتبعض، فلما بطل ذلك لم يبق إلا أنه يقوم مقام جميعها فيصير حينئذٍ متوضئًا متيممًا في الأعضاء المغسولة وذلك محال؛ لأن الحدث زائل عن العضو المغسول فلا ينوب عنه التيمم، فثبت أنه لا يجوز اجتماعهما في الوجوب
(1)
.
الوجه الثاني: أن القياس على من وجد بعض الرقبة غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق يتضح بما يلي:
الأول: أن صيام الشهرين ـ اللذين هما بدل عن الرقبة في الكفارة ـ لما لم يجز أن يكونا بدلاً عن بعض الرقبة لم يلزمه أن يأتي ببعض الرقبة وبالصوم، ولما جاز التيمم ـ الذي هو بدل عن جميع البدن ـ أن يكون بدلاً عن بعض البدن، جاز أن يقع عن بعض أعضائه
(2)
.
الجواب:
أجيب بالمنع؛ لأنه لم يجز أن يجتمع في الكفارة عتق هو مبدل، وصيام هو بدل، بل يسقط حكم بعض الرقبة أصلاً، وعدل إلى البدل الذي هو الصيام، كذلك يجب أن يسقط حكم الماء القليل في الطهارة ويعدل إلى التيمم الذي هو بدل، ولا يجتمع في الوجه غسل هو مبدل مع مسح هو بدل
(3)
.
(1)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 12).
(2)
الحاوي (2/ 1124)، التعليقة الكبرى (ص 970).
(3)
عيون الأدلة (ص 973).
الثاني: أنه ليس في عتق بعض الرقبة فائدة؛ لأن بعض الرقبة لو أعتقه ثم وجد بعض رقبة أخرى فتمم الرقبة الأخرى لم يجزئه، وليس كذلك في الماء؛ لأنه لو غسل بهذا الماء بعض بدنه ثم وجد ما يغسل به باقيه فتمم به أجزأه وارتفع حدثه
(1)
.
الجواب:
أجيب بأن عتق بعض الرقبة ـ إذا كان المعتق موسرًا ـ فيه فائدة؛ لجواز أن يقدر على شراء بقيتها عندكم، ففيه فائدة على الأصلين، وهو التصرف بالعين
(2)
، وأما استعمال الماء فلا فائدة فيه لأن الماء القليل المستعمل في بعض الأعضاء لا يرفع الحدث فوجوده وعدمه سواء، ثم إن مسألة تجزئة الوضوء
(3)
، أو الغسل
(4)
محل خلاف فلا يصح الاستدلال بها.
(1)
المجموع (2/ 214)، الانتصار (1/ 411).
(2)
التجريد (1/ 248).
(3)
للفقهاء في حكم الموالاة بين أفعال الوضوء ثلاثة أقوال:
القول الأول: الموالاة سنة، وهو مذهب الحنفية، والصحيح عند الشافعية (هو قول الإمام الشافعي في الجديد).
القول الثاني: تجب الموالاة مع الذكر، وتسقط مع النسيان والعذر، وهو مذهب المالكية.
القول الثالث: تجب الموالاة مطلقًا، وهو قول للشافعية (هو قول الإمام الشافعي في القديم)، ومذهب الحنابلة.
انظر: بدائع الصنائع (1/ 211)، المدونة (1/ 15)، المجموع (1/ 252، 253)، المغني (1/ 191).
(4)
للفقهاء في حكم الموالاة في الغسل قولان:
القول الأول: الموالاة سنة، وهو قول الجمهور.
القول الثاني: تجب الموالاة في الغسل، وهو قول المالكية، وقول للحنابلة.
انظر: المبسوط (1/ 56)، المدونة (1/ 28)، المجموع (2/ 148)، الإنصاف (1/ 246).
2 ـ أن عدم بعض الأصل بمنزلة عدم الجميع في جواز الاقتصار على البدل
(1)
، قياسًا على من وجد بعض الرقبة في الكفارة فإنه يعدل إلى الصوم
(2)
.
المناقشة:
نوقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن بعض الرقبة لا يسمى رقبة فلهذا لم يجب عليه إعتاقه، وأما بعض الماء فيسمى ماء فيجب استعماله
(3)
.
الجواب:
أجيب عن ذلك بما ورد في الاستدلال بالدليل الأول من أدلة القول الثاني.
وبأن التفرقة بالأسماء لا معنى له، وإنما الكلام في الحكم، ولهذا نجد أن الله تعالى قال في الكفارة:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] فأضاف اسم جنس الصيام إلى الأصل المذكور، فلو قال قائل: أنا إذا صمت يومًا أو شهرًا فإنه يقع عليه اسم صوم، كما يقع على صوم شهرين اسم صوم، وأفرق بينه وبين الرقبة؛ لأن بعضها لا يتناوله اسم رقبة، وصوم يوم من شهرين
(1)
رؤوس المسائل (ص 115).
(2)
المهذب (1/ 132).
(3)
مغني المحتاج (1/ 249)، الانتصار (1/ 409).
يتناوله اسم صوم لكان قوله ساقطًا؛ لأن اسم الجنس إذا أضيف إلى شيء فالمقصود الاسم على الصفة التي وصف عليها، فكذلك قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} أي ما يكفي الوضوء فتيمموا
(1)
.
3 ـ أن الله تعالى جعل فرض المحدث أحد شيئين: إما استعمال الماء أو التراب، فمتى كان الماء لا يغني عن التيمم كان غير موجود شرعًا؛ لأن المطلوب وجود الكفاية منه
(2)
.
4 ـ أنه لما لم يجز الجمع بين غسل إحدى الرجلين والمسح على الخف في الرجل الأخرى لكون المسح بدلاً من الغسل، وجب أن لا يلزمه الجمع بين التيمم وغسل الأعضاء لهذه العلة
(3)
.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الثاني القائل بأن من وجد من الماء بعض ما يكفيه فإنه يتيمم ولا يستعمل الماء، وذلك لما يلي:
1 -
لقوة أدلته، وسلامتها من الاعتراضات القادحة.
2 -
مناقشة أدلة القول الأول.
(1)
عيون الأدلة (ص 975).
(2)
مواهب الجليل (1/ 487).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 11).
3 -
أنه إذا استعمل الماء القليل قبل التيمم لم يرتفع حدثه فكان استعماله هدرًا.
4 -
أن الاقتصار على التيمم فيه يسر ورفع للحرج عن المكلف وبخاصة أن التيمم يقوم مقام الطهارة المائية.