الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
ما يباح له بتيممه إذا نوى به الفريضة
وفيه فرعان:
الفرع الأول
إذا نوى بتيممه فريضة، فهل يصلي به أكثر من فريضة
؟
إذا نوى المكلف بتيممه فريضة، ثم بعد أن صلى الفريضة أراد بهذا التيمم صلاة فريضة أخرى، فهل يجوز له الصلاة بالتيمم السابق، أم لا يجوز له الصلاة بهذا التيمم أكثر من فريضة؟
للفقهاء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أنه يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد الماء أو يحدث، وهو قول الحنفية، والمزني من الشافعية، ورواية عند الحنابلة، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
.
القول الثاني: أنه لا يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد أكثر من فريضة، وهو قول المالكية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة
(2)
.
(1)
بدائع الصنائع (1/ 344)، شرح فتح القدير (1/ 137)، المجموع (2/ 235)، المحرر (1/ 22)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 352).
(2)
المدونة (1/ 48)، التفريع (1/ 203)، الأم (2/ 99، 100)، المجموع (2/ 235)، المحرر (1/ 22)، الإنصاف (1/ 277).
القول الثالث: أنه يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يخرج وقت الصلاة، وهو قول الحنابلة
(1)
.
سبب الخلاف:
يرجع سبب الخلاف في هذه المسألة إلى الأمور التالية:
1 ـ اختلافهم في التيمم هل هو رافع للحدث أو مبيح للصلاة؟ فمن رأى بأن التيمم رافع للحدث أجاز أن يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفروض والنوافل، ومن رأى بأن التيمم مبيح للصلاة قال بعدم الجواز أن يصلي بالتيمم الواحد أكثر من فريضة، أو قال بجواز ذلك ما لم يخرج وقت الصلاة.
2 ـ اختلافهم في وجوب تكرار طلب الماء لكل صلاة، فمن أوجب ذلك قال بعدم جواز أن يصلي بالتيمم الواحد أكثر من فريضة، أو قال بجواز ذلك ما لم يخرج وقت الصلاة، ومن لم يوجب الطلب لكل صلاة قال بجواز أن يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض ما لم يجد الماء أو يحدث
(2)
.
3 ـ اختلافهم في اشتراط دخول وقت الصلاة لصحة التيمم، فمن اشترط ذلك قال بعدم جواز أن يصلي بالتيمم الواحد أكثر من فريضة، أو قال بجواز ذلك ما لم يخرج وقت الصلاة، ومن لم يشترط دخول الوقت لصحة التيمم قال بجواز أن يصلي بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد الماء أو يحدث
(3)
.
(1)
الكافي لابن قدامة (1/ 99)، الإنصاف (1/ 277، 278).
(2)
انظر: شرح التلقين (1/ 293)، الأم (1/ 100).
(3)
انظر: الذخيرة (1/ 359).
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بجواز أن يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفروض والنوافل بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة: 6].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى اشترط للتيمم عدم وجود الماء فقط، فدل هذا على جواز الصلاة بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض ما لم يحدث أو يجد الماء
(1)
.
ثانيًا: من السنة:
1 ـ حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين»
(2)
.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم طهارة ممتدة إلى وجود الماء، فكان في حالة العدم كالوضوء، من غير أن يوقت ذلك بفعل الصلاة، فيكون التراب في ذلك حكم الماء
(3)
.
(1)
مجمع الأنهر (1/ 41).
(2)
تقدم تخريجه (ص 25).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 21)، رؤوس المسائل (ص 117).
المناقشة:
نوقش بأن ظاهره غير مراد، وأنه يجب أن يحمل على ابتداء التيمم دون استدامته
(1)
، فيستبيح الإنسان بالتيمم صلاة بعد صلاة بتيممات، وإن استمر ذلك عشر سنين إلى أن يجد الماء
(2)
.
الجواب:
يمكن أن يجاب بأن المعنى المبيح للصلاة ابتداء هو عدم الماء، وهو لا زال قائمًا بعد فعل الصلاة، فينبغي أن يبقى تيممه، إذ إنه لا فرق بين الابتداء والبقاء إذا كان المعنى فيهما واحدًا وهو عدم الماء
(3)
.
2 ـ حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»
(4)
.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التراب طهورًا للمسلم، والطهور هو المطهر لغيره، فتبقى طهارته إلى وجود الماء أو ناقض آخر
(5)
.
(1)
الحاوي (2/ 1036).
(2)
المجموع (2/ 235).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 21، 22).
(4)
تقدم تخريجه (ص 38).
(5)
بدائع الصنائع (1/ 344)، تبيين الحقائق (1/ 130).
ثالثًا: من المعقول:
1 ـ أن التيمم طهارة صحيحة، فلا تنتقض إلا بوجود الماء أو الحدث كالوضوء
(1)
.
المناقشة:
نوقش بأن الوضوء طهارة رفاهية يرفع الحدث، والتيمم طهارة ضرورة فقصرت على الضرورة
(2)
.
الجواب:
يمكن أن يجاب بأن الشارع أمر بالتيمم عند عدم الماء أو عند عدم القدرة على استعماله فجعله طهورًا ولم يقيده، والضرورة قائمة ما لم يجد الماء.
2 ـ أنه يجوز فعل أكثر من فريضة بتيمم واحد قياسًا على مسح الخفين؛ لأن كل واحد منهما بدل
(3)
.
المناقشة:
نوقش بأن المسح على الخفين طهارة قوية ترفع الحدث، بخلاف التيمم، كما أن المسح على الخفين تخفيف؛ إذ يجوز المسح مع القدرة على غسل الرجلين، بخلاف التيمم فإنه طهارة ضرورة، فقصر على الضرورة
(4)
.
(1)
رؤوس المسائل (ص 117)، البناية (1/ 556).
(2)
الحاوي (2/ 1037)، المجموع (2/ 235).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 22)، التجريد (1/ 225).
(4)
المجموع (2/ 235).
الجواب:
يمكن أن يجاب بأن التيمم كذلك طهارة قوية وتخفيف، بل التيمم أقوى؛ لأن المسح مؤقت بمدة قليلة، والشارع جوز التيمم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء، وأما القول بأنه ضرورة، فالضرورة عدم الماء، وقد حصل
(1)
.
34 ـ أنه بالفراغ من المكتوبة لم تنتقض طهارته؛ حيث جاز له أداء النافلة، وإذا جاز له أن يؤدي النافلة فإنه يجوز له أن يؤدي الفرض؛ لأن الشرط أن يقوم إليه طاهرًا، وقد وجد
(2)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين
(3)
.
الوجه الأول: أن النوافل تكثر وتلحق المشقة الشديدة بالإنسان في إعادة التيمم لها، فخفف أمرها لذلك، بخلاف الفرائض.
الجواب:
أجيب بأنهما وإن افترقا في هذا الوجه المذكور، فإنهما لا يختلفان في اشتراط الطهارة لكل واحد منهما، فإذا جاز له النفل بالتيمم الذي أدى به الفرض، وجب أن يحوز فعل فرض آخر به، إذ إنه لا فرق في حكم الطهارة بين النفل والفرض في الأصول
(4)
.
(1)
انظر: التجريد (1/ 228)، البحر الرائق (1/ 273).
(2)
المبسوط (1/ 113).
(3)
الحاوي (2/ 1037)، المجموع (2/ 235).
(4)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 22).
الوجه الثاني: أن النوافل تبع للفرائض، ومعلوم أنه يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع.
الجواب:
أجيب بأن صلاة الجنازة وسجدة التلاوة ليسا بتبع للفرض ويجوز عندكم، فدل ذلك على أنه لا خلاف بين الفرض والنفل في باب الطهارة
(1)
.
35 ـ أن الحدث الواحد لا يجب له طهران
(2)
.
المناقشة:
نوقش بأن الطهارة هنا ليست للحدث بل لإباحة الصلاة، فالتيمم الأول أباح الصلاة الأولى، والثاني أباح الثانية
(3)
.
الجواب:
يمكن أن يجاب عليه بأن ذلك هو عين النزاع، ولا يصلح الاستدلال بمحل النزاع.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بعدم جواز الصلاة بالتيمم الواحد أكثر من فرض، بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6].
(1)
التجريد (1/ 226).
(2)
الحاوي (2/ 1035)، المجموع (2/ 235).
(3)
المجموع (2/ 235).
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى أوجب الطهارة عند القيام لكل صلاة، وقد خرج الوضوء بالدليل، فبقي التيمم على مقتضاه، لذا فإنه لا يجوز أن يصلي بالتيمم الواحد أكثر من فريضة
(1)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ} لا يقتضي التكرار في اللغة، فإذا لم يقتض ذلك في الوضوء، فلا يقتضيه كذلك في التيمم
(2)
.
الوجه الثاني: أن الآية لا توجب شيئًا مما ذُكر، ولو أوجبت ذلك لأوجبت غسل الجنابة على كل قائم إلى الصلاة أبدًا، وإنما حكم الآية في إيجاب الله تعالى الوضوء والتيمم، والغسل إنما هو على المجنبين والمحدثين فقط، يدل على هذا قرينة متصلة بالآية وهي {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، ولا يختلف اثنان في أن هاهنا حذف دل عليه
(1)
البيان والتحصيل (1/ 203)، المجموع (2/ 235)، وانظر: تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (ص 79)، ط: مكتبة العبيكان 1420 هـ.
(2)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 22).
العطف فيكون معنى الآية: وإن كنتم مرضى أو على سفر فأحدثتم، أو جاء أحد منكم من الغائط فبطل ما قالوا به
(1)
.
ثانيًا: من الآثار:
1 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى» .
وجه الدلالة:
أن هذا الأثر له حكم الرفع؛ لأن السنة في كلام الصحابي تنصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دليل على عدم جواز الصلاة بالتيمم الواحد أكثر من فريضة
(2)
.
2 ـ عن علي رضي الله عنه قال: «يتيمم لكل صلاة» .
3 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث» .
4 ـ عن عمرو بن العاص أنه كان يحدث لكل صلاة تيممًا»
(3)
.
المناقشة:
تقدم مناقشة هذه الآثار
(4)
، فلا داعي للتكرار.
(1)
المحلى (1/ 84).
(2)
العزيز (1/ 251)، نهاية المحتاج (1/ 311)، شرح العمدة (1/ 443).
(3)
تقدم تخريج هذه الآثار (ص 214، 215).
(4)
انظر (ص 214، 215).
ثالثًا: من المعقول:
1 ـ أن طهارة التيمم طهارة ضرورة فبطلت بخروج الوقت، كطهارة المستحاضة
(1)
.
المناقشة:
تقدم مناقشة هذا الدليل
(2)
، فلا داعي للتكرار.
2 ـ أن طهارة التيمم طهارة ضرورة فلا يباح بها إلا قدر الضرورة
(3)
.
المناقشة:
نوقش بأن الضرورة عدم الماء، وقد حصل
(4)
.
أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بجواز الصلاة بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض ما لم يخرج وقت الصلاة، بما يلي:
1 ـ أن طهارة التيمم طهارة صحيحة، أباحت فرضًا، فأباحت فرضين، كطهارة الماء
(5)
.
المناقشة:
تقدم مناقشة هذا الدليل والجواب على هذه المناقشة
(6)
.
(1)
الإشراف (1/ 166)، المجموع (2/ 235)، المغني (1/ 341).
(2)
انظر (ص 216).
(3)
المجموع (2/ 235).
(4)
التجريد (1/ 228).
(5)
المغني (1/ 342)، المبدع (1/ 179).
(6)
انظر (ص 315).
2 ـ أن الطهارة في الأصول تتقيد بالوقت دون الفعل كطهارة الماسح على الخفين
(1)
.
المناقشة:
يمكن مناقشته بأن القياس على الماسح على الخفين قياس مع الفارق؛ لأن طهارة الماسح على الخفين مقدره بالوقت شرعًا، بخلاف التيمم فلم يرد في الشرع ما يدل على أنه مقدر بوقت.
3 ـ أن كل تيمم أباح صلاة، أباح ما هو من نوعها بدليل صلوات النوافل
(2)
.
المناقشة:
تقدم مناقشة هذا الدليل والجواب على هذه المناقشة
(3)
.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول القائل بجواز أن يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد لماء أو يحدث، وذلك لما يلي:
1 ـ لقوة أدلتهم، وإفادتها المراد، وسلامتها من الاعتراضات القادحة.
2 ـ ضعف أدلة القول المخالف بما حصل من مناقشة.
(1)
المغني (1/ 342).
(2)
المصدر السابق.
(3)
انظر (ص 316، 317).
3 ـ صراحة دلالة السنة الصحيحة الثابتة على أن الصعيد الطاهر وضوء المسلم عند فقد الماء، فيأخذ التيمم حكم الماء.
4 ـ أنه لم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يتيمم لكل صلاة، ولا في الأمر به، وإنما دلت الأحاديث على أن التيمم يقوم مقام الوضوء، وهذا يقتضي عدم الفرق بينهما في الحكم، اللهم إلا فيما اقتضى الدليل خلافه
(1)
.
5 ـ أن الطهارة إذا كملت وجاز أن يصلي المرء ما شاء من النوافل، فكذلك له أن يصلي بها ما شاء من المكتوبة، إذ ليس بين طهارته للمكتوبة وطهارته للنافلة فرق في شيء من أبواب الصلاة
(2)
.
6 ـ أن الحكمة من مشروعية التيمم هي التخفيف والتيسير على المكلف، وفي الأمر بالتيمم لكل صلاة ما يخالف هذه الحكمة.
(1)
زاد المعاد (1/ 220، 221).
(2)
الأوسط (2/ 58، 59).