الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
حكم إمامة المتيمم للمتوضئ
اختلف الفقهاء في حكم إمامة المتيمم للمتطهرين بالماء، وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يجوز بدون كراهة، وهو قول الحنفية عدا محمد بن الحسن، وابن مسلمة
(1)
من المالكية، وهو قول الشافعية والحنابلة
(2)
.
إلا أن الشافعية أجازوا إمامة المتيمم للمتوضئ الذي لا إعادة عليه
(3)
.
القول الثاني: أنه يجوز مع الكراهة، وهو المشهور في مذهب المالكية، وصرح متأخرو الحنابلة بأن إمامة المتوضئ أولى
(4)
.
(1)
هو: محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل، أبو هشام، كان أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك، وكان أفقههم، وله كتب فقه أخذت عنه، وهو ثقة مأمون حجة، جمع بين العلم والورع، توفي سنة (206 هـ)، وقيل: سنة (216 هـ).
انظر: ترتيب المدارك (1/ 206)، الديباج المذهب (ص 227).
(2)
الأصل (1/ 105)، بدائع الصنائع (1/ 345)، المنتقى (1/ 111)، شرح التلقين (1/ 307)، المجموع (4/ 113)، نهاية المحتاج (2/ 173)، مسائل الإمام أحمد وإسحاق رواية الكوسج (1/ 99)، المغني (3/ 66).
(3)
قال النووي في المجموع (4/ 113): «قال أصحابنا: تجوز صلاة غاسل الرجل خلف ماسح الخف، وصلاة المتوضئ خلف متيمم لا يلزمه القضاء، بأن تيمم في سفر أو في الحضر لمرض وجراحه ونحوها، وهذا بالاتفاق. فإن صلى خلف متيمم يلزمه القضاء كمتيمم في الحضر، ومن لم يجد ماء ولا ترابًا
…
لزمه الإعادة؛ لأن صلاة إمامه غير مجزئة».
(4)
المدونة (1/ 48)، المنتقى (1/ 111)، الإنصاف (2/ 268)، كشاف القناع (3/ 194).
القول الثالث: أنه لا يجوز، وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية
(1)
.
سبب الخلاف:
أصل الخلاف مبني على الاختلاف في التيمم، هل هو رافع للحدث أو مبيح
(2)
؟
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بجواز إمامة المتيمم للمتطهر بالماء، بما يلي:
أولاً: من السنة:
حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟» قال: قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا»
(3)
.
(1)
الأصل (1/ 105، 126)، المبسوط (1/ 111).
(2)
بالرغم من أن مذهب الجمهور أن التيمم لا يرفع الحدث إلا أنهم أجازوا إمامة المتيمم للمتوضئ، وهذا يدل على صحة قول الحنفية ـ وهو الذي رجحناه ـ في أن التيمم كالوضوء يرفع الحدث، إذ كيف لا يرفع الحدث وتصح إمامته للمتوضئ؟! إلا أن يكون مثله وهو الصحيح.
(3)
تقدم تخريجه (ص 127).
وجه الدلالة:
أن عمرًا أمَّ أصحابه متيممًا وهم متوضئون فأقره النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه ذلك.
ثانيًا: من الآثار:
ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان في سفر معه أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عمار بن ياسر فصلى بهم وهو متيمم
(1)
.
وجه الدلالة:
أن التيمم يقوم مقام الوضوء، ولو كانت الطهارة به ضعيفة لما أم ابن عباس وهو متيمم من كان متوضئًا
(2)
.
ثالثًا: من المعقول:
1 ـ أن المتيمم متطهر بطهارة صحيحة، فأشبه المتوضئ
(3)
.
2 ـ أن كل من جاز له أن يصلي بالمتيممين جاز له أن يصلي بالمتوضئين، أصله المتطهر بالماء
(4)
.
(1)
ذكره البخاري معلقًا بصيغة الجزم في كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء [صحيح البخاري (1/ 130)]، وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 68)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 234).
قال ابن حجر في فتح الباري (1/ 532): «وصله ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما، وإسناده صحيح» .
(2)
فتح الباري (1/ 532).
(3)
المغني (3/ 66).
(4)
عيون الأدلة (ص 928)، المعونة (1/ 151).
3 ـ أن طهارة المتيمم طهارة من حدث، فجازت الإمامة بها على الإطلاق كالوضوء
(1)
.
4 ـ أن البدل عند العجز عن الأصل حكمه حكم الأصل، والمتيمم صاحب بدل صحيح فهو كالماسح على الخفين يؤم الغاسلين
(2)
.
أدلة القول الثاني:
استدل من قال بكراهة إمامة المتيمم للمتوضئ وأن إمامة المتوضئ أولى، بما يلي:
1 ـ أنه ينبغي للإمام أن يكون حاله مساويًا لحال من خلفه أو أعلى منه، والمتيمم غير لاحق بفضيلة المتوضئ فلا يؤمه ولا يتقدم عليه
(3)
.
المناقشة:
يمكن مناقشته بأن المتوضئ ليس بأطهر من المتيمم، ولا بأتم صلاة منه
(4)
، بل هما في الشرع سواء.
2 ـ أن التيمم لا يرفع الحدث فيكره إمامته للمتوضئ
(5)
.
(1)
المنتقى (1/ 111)، الإشراف (1/ 166).
(2)
المبسوط (1/ 111)، المهذب مع المجموع (4/ 113)، فتح الباري لابن رجب (2/ 68)، المحلى (1/ 91).
(3)
المنتقى (1/ 111)، المعونة (1/ 151).
(4)
انظر: الموطأ (1/ 61)، المحلى (1/ 91).
(5)
مواهب الجليل (1/ 510)، كشاف القناع (3/ 194).
المناقشة:
تقدم مناقشة القول القائل بأن التيمم لا يرفع الحدث في مبحث نوع بدلية التيمم
(1)
، وقد ذكرنا أن الراجح أنه يرفع الحدث كالوضوء.
أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بعدم جواز إمامة المتيمم للمتوضئ، بما يلي:
أولاً: من السنة:
حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤم المتيمم المتوضئين»
(2)
.
المناقشة:
نوقش بأنه ضعيف
(3)
.
ثانيًا: من الآثار:
عن علي رضي الله عنه أنه كره أن يصلي المتيمم بالمتوضئ
(4)
.
(1)
انظر (ص 211).
(2)
أخرجه الدارقطني في السنن (1/ 185)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 234) برقم (1048) وضعفه.
(3)
لأن في إسناده صالح بن بيان، قال عنه الدارقطني: متروك. انظر: لسان الميزان لابن حجر (3/ 166)، ط: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات 1406 هـ.
(4)
أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 68)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 234) برقم (1046) وقال:«وهذا إسناد لا تقوم به حجة» .
المناقشة:
نوقش هذا الأثر من وجهين:
الوجه الأول: أنه ضعيف
(1)
.
الوجه الثاني: أنه على فرض التسليم بصحته فإنه قد ثبت عن ابن عباس خلافه، والمسألة إذا كانت مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم لا يكون قول البعض حجة على البعض
(2)
.
ثالثًا: من المعقول:
أن طهارة المتيمم طهارة ضرورة فلا يؤم من لا ضرورة له، كصاحب الجرح السائل لا يؤم الأصحاء
(3)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن طهارة المتيمم طهارة مطلقة، ولهذا لا تتقدر بقدر الحاجة فكان المتيمم كالمتوضئ
(4)
.
(1)
لأن في إسناده الحارث الأعور، قال عنه الشعبي وابن المديني: كذاب، وقال أبو حاتم والنسائي: ليس بالقوي. انظر: ميزان الاعتدال (2/ 170، 171)، تهذيب التهذيب (2/ 126).
(2)
بدائع الصنائع (1/ 347).
(3)
المبسوط (1/ 111)، شرح فتح القدير (1/ 367).
(4)
شرح العناية على الهداية (1/ 367).
الوجه الثاني: أن القياس على صاحب الجرح السائل لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن التيمم بدل صحيح عند عدم الماء، بخلاف صاحب الجرح السائل فإنه ليس بصاحب بدل صحيح
(1)
.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول القائل بجواز إمامة المتيمم للمتطهر بالماء بدون كراهة، وذلك لقوة أدلتهم وإفادتها المراد، في مقابل ضعف أدلة القول الثاني والثالث بما حصل من مناقشتها.
(2)
.
ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أحق الناس بالإمامة في قوله: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنًا»
(3)
.
(1)
المبسوط (1/ 111).
(2)
الموطأ (1/ 61).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة [صحيح مسلم (1/ 465) حديث (673)].
فالحديث دل بعمومه على أحق الناس بالإمامة، وهذا عام للمتوضئ والمتيمم، إذ ليس في الحديث تخصيص ذلك للمتوضئ.