الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
كيفية الجمع بين التيمم والغسل
لمن كان بعض بدنه جريحًا
اتفق الشافعية والحنابلة وهم القائلون بجواز الجمع بين التيمم والغسل على أن الجريح إذا كان جنبًا فهو مخير بين تقديم التيمم على الغسل أو تأخيره عنه
(1)
(2)
.
إلا أن الشافعية قالوا: ويستحب للجنب ونحوه تقديم التيمم على الغسل ليزيل الماء أثر التراب
(3)
.
واستدلوا على ذلك بأن الترتيب والموالاة غير واجبين في الطهارة من الحدث الأكبر، فكذا هاهنا
(4)
.
وبناءً على ذلك يبطل تيمم الجريح إذا دخل وقت الفريضة الثانية وعليه إعادة التيمم
(5)
، ولا يلزمه إعادة غسل الجزء الصحيح، لعدم وجوب الترتيب
(1)
المجموع (2/ 230)، مغني المحتاج (1/ 255)، المغني (1/ 337)، الإنصاف (1/ 261).
هناك وجه للشافعية أنه يجب تقديم الغسل على التيمم، ولكن قال عنه النووي: وهو شاذ ضعيف، وقال الشاشي: ليس بشيء. انظر: المجموع (2/ 230)، حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء للشاشي (1/ 203)، ط: مؤسسة الرسالة.
(2)
ليس للحنفية ولا للمالكية نص في هذه المسألة، لكونهم لا يرون الجمع بين الماء والتيمم، كما سبق بيانه في المطلب السابق.
(3)
تحفة المحتاج (1/ 567، 568)، نهاية المحتاج (1/ 285).
(4)
البيان (1/ 310)، كشاف القناع (1/ 396).
(5)
لأن طهارة التيمم عند الشافعية والحنابلة طهارة ضرورة. انظر: المجموع (2/ 233)، المغني (1/ 341).
والموالاة في طهارة الجريح للحدث الأكبر
(1)
، ولأن ما استعمله من الماء تطهير لجميع الصلوات
(2)
.
واختلفوا في طهارة الجريح إذا كان محدثًا حدثًا أصغر، فهل يجب عليه التيمم للجريح حين وصوله في الوضوء إلى ذلك العضو المجروح، فيرتب ويوالي، كالوضوء الكامل أم لا؟ على ثلاثة أقوال
(3)
.
القول الأول: أنه لا يجب الترتيب ولا الموالاة، وهو وجه عند الشافعية، والحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
.
وعلى هذا القول فإن الجريح يخير بين تقديم التيمم على غسل الصحيح أو تأخيرة عنه، ولا يجب عليه أن يتيمم عن كل عضو في موضع غسله
(5)
.
(1)
المغني (1/ 339).
(2)
الحاوي (2/ 1090).
(3)
العزيز (1/ 224)، المجموع (2/ 231)، الفروع (1/ 287)، تصحيح الفروع (1/ 287، 288).
(4)
هو: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله الحراني الدمشقي الحنبلي، شيخ الإسلام، ولد بحران عام 661 هـ، ثم انتقل إلى دمشق، تبَّحر في العلوم الشرعية، وكان آية في التفسير والفقه والأصول، من مؤلفاته: السياسة الشرعية، شرح العمدة، ومنهاج السنة وغيرها، توفي عام (728 هـ) بدمشق.
انظر: العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية لابن عبد الهادي، مكتبة المؤيد، الدرر الكامنة لابن حجر (1/ 168 ـ 186).
(5)
المجموع (2/ 231)، المغني (1/ 338).
وبناءً على هذا القول يبطل تيمم الجريح إذا دخل وقت الفريضة الثانية، ولا يلزمه أن يعيد استعمال الماء ما لم يحدث، كما سبق في الجنب.
القول الثاني: أنه يجب عليه الترتيب والموالاة، وهو الأصح عند الشافعية، ومذهب الحنابلة.
وعلى هذا القول فإنه يجعل التيمم في مكان الغسل الذي يتيمم بدلاً عنه، فإن كان الجرح في وجهه بحيث لا يمكنه غسل شيء منه، لزمه التيمم أولاً لقيامه مقام غسل الوجه ثم يتم الوضوء.
وإن كان الجرح في بعض وجهه، خُيّر بين غسل صحيح وجهه ثم يتيمم للباقي، وبين أن يتيمم ثم يغسل صحيح وجهه؛ لأن العضو الواحد لا يعتبر فيه ترتيب، ثم يكمل وضوءه.
وإن كان الجرح في عضو آخر غير الوجه، لزمه غسل ما قبله مرتبًا، ثم كان الحكم في الجريح على ما ذكر في الوجه.
وإن كان الجرح في وجهه ويديه ورجليه، احتاج في كل عضو إلى تيمم في محل غسله ليحصل الترتيب، فيغسل صحيح الوجه ويتيمم عن جريحه، ثم اليدين كذلك، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل الرجلين ويتيمم لجريحهما، فلو غسل صحيح وجهه ثم تيمم لجرحه وجرح يديه تيممًا واحدًا لم يجزئه؛ لأنه يؤدي إلى سقوط الفرض عن جزء من الوجه واليدين في حال واحدة، فيفوت الترتيب.
وأما إذا عمت الجراحات الأعضاء الأربعة فيكفيه تيمم واحد؛ لأنه يسقط الترتيب، لكونه لا يجب غسل شيء من الأعضاء
(1)
.
وبناء على هذا القول اختلفوا هل يعيد مع التيمم الوضوء إذا دخل وقت الفريضة الثانية أم لا؟ على قولين
(2)
:
القول الأول: أنه يعيد التيمم والوضوء، وهو قول الحنابلة، ووجه للشافعية اختاره الرافعي
(3)
.
وعللوا ما ذهبوا إليه بأن طهارة العضو الذي ناب عنه التيمم بطلت، فلو لم يبطل فيما بعده لتقدمت طهارة ما بعده عليه، فيفوت الترتيب
(4)
.
إلا أن الشافعية قالوا: إن كانت الجراحة في الرجلين أجزأ التيمم ولا يعيد الوضوء
(5)
؛ لحصول الترتيب بين التيمم الجديد والوضوء السابق، وأما
(1)
البيان (1/ 311، 312)، المجموع (2/ 231، 232)، المغني (1/ 338)، كشاف القناع (1/ 396، 397).
(2)
العزيز (1/ 228)، المجموع (2/ 233)، الإنصاف (1/ 261)، كشاف القناع (1/ 397).
(3)
هو: عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، أبو القاسم القزويني الرافعي، من كبار فقهاء الشافعية، صاحب الشرح المشهور بـ (فتح العزيز شرح الوجيز)، وإليه مرجع الشافعية، كان زاهدًا ورعًا مجتهدًا في المذهب، ولد سنة (555 هـ)، من كتبه: شرح مسند الشافعي، والتذنيب وغيرهما، توفي سنة (623 هـ).
انظر: سير أعلام النبلاء (22/ 252 ـ 255)، طبقات الشافعية (2/ 75، 76).
(4)
المغني (1/ 339). وانظر: البيان (1/ 313)، العزيز (1/ 228).
(5)
التهذيب (1/ 416)، المجموع (2/ 233).
الحنابلة فقالوا: بوجوب إعادة التيمم والوضوء أيضًا؛ لفوات الموالاة بين التيمم الجديد والوضوء السابق
(1)
.
القول الثاني: أنه يعيد التيمم دون الوضوء، وهو الصحيح عند الشافعية.
واستدلوا على ذلك بأن الوضوء الكامل لا يجب إعادته لكل فريضة، فكذلك غسل الصحيح الذي هو بعضه
(2)
.
القول الثالث: أنه يجب تقديم غسل جميع الصحيح، وهو وجه للشافعية.
وبناء على هذا القول يبطل تيمم الجريح إذا دخل وقت الفريضة الثانية، ولا يعيد الوضوء، بل يعيد التيمم لأنه طهارة ضرورة.
وعللوا ما ذهبوا إليه بما يلي:
1 ـ أن التيمم طهارة مفردة، فلا يجب الترتيب بينها وبين الطهارة الأخرى، كما لو كان الجريح جنبًا
(3)
.
2 ـ أنه يتيمم عن الحدث الأصغر، فلم يجب أن يتيمم عن كل عضو في موضع غسله، كما لو تيمم عن جملة الوضوء
(4)
.
3 ـ أن إيجاب الترتيب والموالاة بين استعمال الماء والتيمم لا يخلو من
(1)
كشاف القناع (1/ 397)، شرح منتهى الإرادات (1/ 184).
(2)
العزيز (1/ 228).
(3)
المغني (1/ 338).
(4)
المصدر السابق.
الحرج والمشقة
(1)
، فيندفع بقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
أدلة القول الثاني:
استدلوا على وجوب الترتيب والموالاة بأن الترتيب واجب في الوضوء، والتيمم بدل عن العضو المجروح، فجعل التيمم مكانه بحيث يأخذ حكمه؛ لأنه بدل عنه، والبدل يأخذ حكم المبدل منه
(2)
.
المناقشة:
يمكن مناقشته من وجهين:
الوجه الأول: أن التيمم فرض مستقل بنفسه، فلا يجب الترتيب بينه وبين غيره؛ لأن الترتيب إنما يراعى في العبادة الواحدة
(3)
.
الوجه الثاني: أن الترتيب إنما وجب فيما أمر الله بغسله ومسحه ليبدأ بما بدأ الله به، وهذا الجرح ليس مأمورًا بغسله ولا مسحه فلا ترتيب له
(4)
.
الوجه الثالث: أن وجوب الترتيب للأصل لا يلزم منه الترتيب لبدله، لأن البدل في غير محل المبدل منه، فهو يخالفه قدرًا وموضعًا وصفة ومن غير جنسه
(5)
.
(1)
المغني (1/ 338)، شرح الزركشي (1/ 358، 359).
(2)
المجموع (2/ 231)، نهاية المحتاج (1/ 285)، شرح العمدة (1/ 439)، كشاف القناع (1/ 396).
(3)
العزيز (1/ 224).
(4)
شرح العمدة (1/ 439).
(5)
المصدر السابق.
أدلة القول الثالث:
يمكن أن يستدل لهم بأن الغسل أصل، والتيمم بدل، فيقدم الأصل، قياسًا على من وجد من الماء ما لا يكفيه، فإنه يستعمل الماء ثم يتيمم.
المناقشة:
يمكن مناقشته بأنه قياس مع الفارق؛ لأن علة جواز التيمم لمن وجد ماء لا يكفيه هي عدم الماء، ولا يكون عادمًا له حتى يستعمل الماء الذي معه، بخلاف التيمم للجرح فإن علة جوازه خوف الضرر، وذلك موجود قبل استعمال الماء وبعده
(1)
.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول القائل بعدم وجود الترتيب والموالاة لمن كان الجرح في بعض أعضاء وضوئه، وذلك لما يلي:
1 ـ لقوة أدلتهم، وإفادتها المراد، وسلامتها من الاعتراضات القادحة.
2 ـ ضعف أدلة القولين الآخرين بما حصل من مناقشة.
3 ـ أنه ينبني على القول بوجوب الترتيب والموالاة بين استعمال الماء والتيمم بعض المسائل التي لا دليل عليها، وإنما هي اجتهادات محضة غير مبنية على اتباع أو نص.
(1)
الفروق على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للسامري (1/ 164)، ط: دار الصميعي 1418 هـ، وانظر: الحاوي (2/ 1089)، المجموع (2/ 230)، المغني (1/ 337، 338).
ثم إنه لم ينقل عن الصحابة الفصل بين أبعاض الوضوء بالتيمم، مع أن الصحابة كانت تصيبهم الجراحات في الغزوات، والتي منها ما يكون في بعض أعضاء الوضوء، مما يدل على أن القول بالترتيب والموالاة قول ضعيف.
(1)
.
4 ـ أن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله
(2)
، وليس هناك دليل شرعي على وجوب الترتيب في هذه المسألة، فلا يجب الترتيب حينئذٍ لعدم النص على ذلك.
(1)
مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 426، 427)، وانظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (2/ 84، 85)، ط: مطبعة الحكومة 1399 هـ.
(2)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع: عبد الرحمن بن قاسم (4/ 173)، ط: دار القاسم 1414 هـ.