الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
الحكمة من مشروعية التيمم
تمتاز الشريعة الإسلامية باليسر والسهولة والسماحة؛ حيث راعت أحوال الناس، ولم تغفل أي جانب من جوانب حياتهم، فخففت عنهم في أحكام شتى من أحكام شريعتهم، ومن مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية التيمم، فقد شرعه الله تيسيرًا على المكلف ودفعًا للحرج عنه.
وقد بين الله تعالى في كتابه الكريم الحكمة من مشروعية التيمم في قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
فهذه الآية بينت الحكمة من مشروعية التيمم غاية البيان والإيضاح، وهي كالآتي:
1 ـ رفع الحرج؛ لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} وهو الضيق والمشقة.
قال ابن كثير
(1)
: «أي فلهذا سهَّل عليكم ويسَّر ولم يعسِّر، بل أباح التيمم
(1)
هو: إسماعيل بن كثير بن ضوء، عماد الدين أبو الفداء القرشي الدمشقي الشافعي، تفقه على الشيخ برهان الدين الفزاري وغيره، ثم صاهر أبا الحجاج المزي وأخذ عنه، وأخذ الكثير عن ابن تيمية، برع في علم الحديث والفقه والتفسير والنحو وغيرها. من كتبه: تفسيره المشهور، والبداية والنهاية في التاريخ، والهدي والسنن في أحاديث المسانيد والسنن وغيرها، توفي سنة (774 هـ).
انظر: ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني (1/ 57)، ط: دار الكتب العلمية، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (3/ 85).
عند المرض، وعند فقد الماء توسعة عليكم، ورحمة بكم، وجعله في حق من شرع له يقوم مقام الماء»
(1)
.
2 ـ إرادة التطهير؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} .
قال ابن جرير الطبري
(2)
(3)
.
3 ـ إتمام النعمة؛ لقوله تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
(4)
.
(1)
تفسير القرآن العظيم (2/ 50).
(2)
هو: محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، أبو جعفر، صاحب التفسير الكبير، والتاريخ الشهير، كان إمامًا في فنون كثيرة منها: التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك، ولد عام (224 هـ) بآمل طبرستان، وتوفي ببغداد سنة (310 هـ).
انظر: وفيات الأعيان (4/ 191، 192)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 95، 96)، ط: دار الفكر 1996 م.
(3)
جامع البيان (6/ 138).
(4)
جامع البيان (6/ 139).
فمن رحمة الله بعباده أن شرع لهم التيمم منَّة منه وفضلاً، ودفعًا للحرج والمشقة، ولو شاء الله لضيَّق علينا ولكن الله بالناس لرؤوف رحيم.
ومن أهم الحكم التي تتجلى في مشروعية التيمم ـ غير ما سبق ـ ما يلي
(1)
:
1 ـ أن الله سبحانه وتعالى لما علم من النفس الكسل، والميل إلى ترك الطاعة، شرع لها التيمم عند عدم الماء؛ لئلا تعتاد ترك العبادة فيصعب عليها معاودتها عند وجود الماء.
2 ـ ليستشعر الإنسان بعدم الماء موته، وبالتراب إقباره فيزول عنه الكسل، ويسهل عليه ما صعب من العمل.
3 ـ تحقيق معنى الطاعة والخضوع لأمر الله تعالى، والإذعان لشرعه، بتحقيق وامتثال ما أمر الله به.
4 ـ أن من الحكمة في كون التيمم بالتراب لتوفره، فلا يكاد يخلو منه مكان، ومع أن التراب موجود في كل مكان إلا أن الشارع لم يأمر إلا بالمسح دون التمرغ
(2)
وتعفير
(3)
أعضاء الوضوء في التراب؛ لأن فيه حرجًا ومشقة على العباد.
(1)
انظر: القبس في شرح موطأ مالك لابن العربي (1/ 177)، ط: دار الغرب الإسلامي 1992 م، مواهب الجليل للحطاب (1/ 477)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن (2/ 112)، ط: دار العاصمة 1417 هـ، محاسن الإسلام وشرائع الإسلام، لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري (ص 10)، ط: دار الكتب العلمية، حجة الله البالغة للدهلوي (1/ 405، 406)، ط: دار المعرفة.
(2)
التمرغ: التقلب في التراب. النهاية لابن الأثير (ص 866)، لسان العرب (8/ 450).
(3)
التعفير: هو التمريغ في التراب، يقال: عفره في التراب تعفيرًا أي مرغه. مختار الصحاح للرازي (ص 388)، ط: مؤسسة الرسالة 1426 هـ، حاشية السندي على سنن النسائي (1/ 54)، ط: مكتب المطبوعات الإسلامية 1406 هـ.
5 ـ أن في التيمم بالتراب شعورًا بالذل لله، والتواضع له، والإفتقار إليه.
6 ـ أن الغرض من التيمم التخفيف والتيسير، ولهذا نجد أن الشارع الحكيم جعل المسح في التيمم قاصرًا على بعض الأعضاء دون بعض؛ دفعًا للحرج والمشقة في تعميمه لسائر الأعضاء.
قال الإمام ابن القيم
(1)
رحمه الله: «وأما كونه في عضوين ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة، فإن وضع التراب على الرؤوس مكروه في العادات، وإنما يفعل عند المصائب والنوائب، والرِّجْلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله، والذل له، والإنكسار لله ما هو من أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد، ولذلك يستحب للساجد أن يُتَرِّب وجهه لله، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال: «تَرِّب وجهك» وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين.
(1)
هو: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية، ولد في دمشق عام (691 هـ)، كان إمامًا حافظًا قدوة، لازم ابن تيمية ونشر كتبه، له مؤلفات كثيرة منها: زاد المعاد، ومدارج السالكين، وبدائع الفوائد وغيرها، توفي سنة (751 هـ).
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (4/ 447 ـ 452)، ط: دار المعرفة، شذرات الذهب (6/ 168 ـ 170).
وأيضًا فموافقة القياس من وجه آخر، وهو أن التيمم جُعل في العضوين المغسولين وسقط عن العضوين الممسوحين، فإن الرجلين تُمسحان في الخف، والرأس في العمامة، فلما خفف عن المغسولين بالمسح، خفف عن الممسوحين بالعفو؛ إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب، فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدل الأمور وأكملها، وهو الميزان الصحيح»
(1)
.
ومما سبق يتضح جلياً رحمة الله بعباده حين شرع لهم التيمم حتى لا ينقطع الإنسان من عبادة ربه بل يعبده ويتقرب إليه في كل مكان وعلى كل حال، وهذه سنة الله في خلقه، كلما ازداد أمر عبده ضيقًا وحرجًا زاد له فرجًا ومخرجًا.
(1)
إعلام الموقعين (2/ 18)، ط: دار الجيل 1973 م، وانظر: عدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق للونشريسي (ص 92، 93)، ط: دار الغرب الإسلامي 1410 هـ.