الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
التيمم لمن خاف فوات صلاة
العيدين
(1)
والجنازة
(2)
ونحوهما
اختلف الفقهاء في المكلف يجد الماء ويقدر على استعماله، ولكنه يخشى باستعماله فوات صلاة الجنازة أو صلاة العيد ونحوهما من النوافل، فهل يجوز له أن يتيمم ليدرك هذه الصلوات أم لا؟ وذلك على قولين:
القول الأول: أنه يتيمم ويصلي، وهو قول الحنفية، وقول للمالكية اختاره
(1)
للفقهاء في حكم صلاة العيدين ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها سنة مؤكدة، وهو قول لبعض الحنفية، وقول الشافعية، والمالكية، ورواية للحنابلة.
القول الثاني: أنها فرض كفاية، وهو وجه للشافعية، وقول الحنابلة.
القول الثالث: أنها واجبة، وهو الصحيح عند الحنفية.
انظر: بدائع الصنائع (2/ 236)، الذخيرة (2/ 417)، المجموع (5/ 5، 6)، المغني (3/ 253).
(2)
الجَنازة ـ بالفتح ـ: الميت، والجِنازة ـ بالكسر ـ: السرير الذي يحمل عليه الميت. لسان العرب (5/ 324)، وصلاة الجنازة فرض على الكفاية عند الجمهور، ويرى بعض المالكية أنها سنة.
انظر: بدائع الصنائع (2/ 336)، الذخيرة (2/ 456)، المجموع (5/ 121)، المحرر (1/ 193).
اللخمي
(1)
، ورواية للحنابلة، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
(3)
.
القول الثاني: أنه لا يتيمم للعيد والجنازة ونحوهما، وهو قول المالكية، والشافعية، ورواية للحنابلة هي المذهب
(4)
.
(1)
هو: أبو الحسن، علي بن محمد الربعي، المعروف باللخمي، كان فقيهًا، جيد النظر، حاز رئاسة إفريقية جملة، من مصنفاته: التعليقة على المدونة (التبصرة) اختار فيه وخرّج، فخرجت اختياراته عن المذهب، توفي سنة (478 هـ).
انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض (2/ 344)، ط: دار الكتب العلمية 1418 هـ، الديباج المذهب (1/ 203).
(2)
بدائع الصنائع (1/ 328، 329)، رد المحتار (1/ 362، 363)، مواهب الجليل (1/ 482)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 456)، الفروع (1/ 290)، الإنصاف (1/ 288، 289).
وهناك وجه للشافعية أنه يتيمم ويصلي لحرمة الوقت ثم يتوضأ ويعيد، ولكن قال عنه النووي: وهذا الوجه شاذ وليس بشيء. انظر: المجموع (1/ 194).
(3)
ذهب الحنفية إلى أن الصلاة ثلاثة أنواع:
1 ـ ما لا يخشى فواتها أصلاً لعدم توقتها كالنوافل، فهذه لا يتيمم لها عند وجود الماء.
2 ـ ما تفوت إلى بدل كصلاة الجمعة والصلوات الخمس، فإنه لا يتيمم لهذه الصلوات مع وجود الماء، يل يفوتها ويتوضأ ويصلي؛ لأن هذه الصلوات تعاد وتقضى.
3 ـ ما لا تفوت إلى بدل كصلاة العيد والجنازة، فإنه يتيمم لهما مع وجود الماء إذا خشي أن تفوته؛ لأنهما لا تعادان ولا تقضيان. انظر: الاختيار (1/ 30)، البحر الرائق (1/ 275).
(4)
المدونة (1/ 47)، عيون الأدلة (ص 947 ـ 950)، مواهب الجليل (1/ 482)، مختصر المزني (ص 16)، المجموع (2/ 194)، المبدع (1/ 186)، الإنصاف (1/ 288، 289).
سبب الخلاف:
أصل الخلاف في هذه المسألة هو اختلافهم في صلاتي العيد والجنازة ونحوهما هل تقضى أو لا تقضى؟
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأنه يتيمم ويصلي بما يلي:
أولاً: من السنة:
حديث أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة رضي الله عنه قال: «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه، ثم رد عليه السلام»
(1)
.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم لرد السلام على المسلم، وذلك خوفًا من فواته بالمواراة عن بصره، فيكون هذا أصلاً إلى أن كل ما يفوت لا إلى بدل، يجوز أداؤه بالتيمم مع وجود الماء
(2)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين
(3)
:
(1)
تقدم تخريجه (ص 26).
(2)
المبسوط (1/ 119).
(3)
الحاوي (2/ 1116)، المجموع (2/ 195).
الوجه الأول: أنه يحتمل أنه تيمم لعدم الماء.
الوجه الثاني: أنه وإن سلمنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم مع وجود الماء لرد السلام خوفًا من الفوات، فالاستدلال بالحديث أيضًا ضعيف؛ لأن الطهارة للسلام ليست بشرط فخف أمرها بخلاف الصلاة.
ثانيًا: من الآثار:
1 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه أتي بجنازة وهو على غير وضوء فتيمم، ثم صلى عليها
(1)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أنه يحتمل أن فعله ذلك كان في السفر لعدم الماء
(2)
.
الوجه الثاني: أن الأثر ضعيف
(3)
.
2 ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الرجل تفجأه الجنازة وهو على غير وضوء قال: «يتيمم ويصلي عليها»
(4)
.
(1)
أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2/ 70)، والدارقطني في السنن (1/ 202)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (1/ 302، 303) برقم (350)، وفي السنن الكبرى (1/ 231).
(2)
السنن الكبرى للبيهقي (1/ 231).
(3)
قال البيهقي: «وفي إسناد حديث ابن عمر في التيمم ضعف» السنن الكبرى (1/ 231)، وضعفه أيضًا النووي في المجموع (2/ 195).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 497) برقم (11467)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 70)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 231).
المناقشة:
نوقش بأن الأثر ضعيف
(1)
.
ثالثًا: من المعقول:
1.
أن صلاة الجنازة أو العيد تفوت لا إلى بدل، فيجوز التيمم لهما، كالعادم للماء، بجامع عدم التمكن من استدراك كل منهما بالوضوء
(2)
.
المناقشة:
نوقش بأن القياس على عادم الماء قياس غير صحيح؛ لأنه لا يشبه عادم الماء، لا حقيقة ولا حكمًا، أما أنه لا يشبه العادم حقيقة، فلأنه واجد للماء، وأما لا يشبه العادم حكمًا، فلأنه قادر على استعمال الماء
(3)
.
2.
أن التيمم إنما شرع في الأصل لخوف فوات الأداء مع أنه يستدرك بالقضاء، فمن باب أولى يشرع لكل ما يخاف فوته ولا يمكن قضاؤه
(4)
، فالصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة
(5)
.
(1)
لأن في إسناده المغيرة بن زياد، قال عنه الإمام أحمد:«مغيرة بن زياد أحاديثه مناكير» ، وساق البيهقي بسنده عن يحيى بن معين أنه أنكر على المغيرة بن زياد حديث التيمم على الجنازة، وقال: إنما هو عن عطاء، فبلغ به ابن عباس، وذكر النووي أن الأثر عن ابن عباس ضعيف. انظر: العلل ومعرفة الرجال (3/ 35)، معرفة السنن والآثار (1/ 303، 304)، العلل المتناهية لابن الجوزي (1/ 379)، ط: دار الكتب العلمية 1403 هـ، المجموع (2/ 195).
(2)
المبسوط (1/ 119)، المغني (1/ 346).
(3)
التعليقة الكبرى (ص 963)، طهارة أصحاب الأعذار غير المرضية (ص 19).
(4)
رؤوس المسائل (ص 114)، بدائع الصنائع (1/ 329).
(5)
مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 439).
المناقشة:
يمكن مناقشته من وجهين:
الوجه الأول: أن ذلك منتقض بالجمعة بفوت فعلها، ولا يجوز أن يتيمم لها
(1)
.
اعتراض:
اعترض بأن هناك فرق بين صلاة الجنازة وصلاة الجمعة، فإن الجمعة تنتقل عند فواتها إلى الظهر، بخلاف الجنازة والعيد فإنه لا يمكن استدراكهما بالقضاء
(2)
.
الرد:
أن الظهر ليس بجمعة، بدليل قولكم ـ أي الحنفية ـ من خرج عنه وقت الجمعة وهو فيها بطلت ولا يتمها ظهرًا
(3)
، فالجمعة لا تقضى جمعة بحال.
ثم إن صلاة الجنازة تقضى لأنه يصليها على القبر فلا تسقط بحال
(4)
، وكذلك صلاة العيد فإنها تقضى وله أن يصليها إن شاء إلى وقت زوال الشمس
(5)
.
(1)
الحاوي (2/ 1117)، وسيأتي بيان حكم التيمم لخوف فوات الجمعة (ص 196، 197).
(2)
انظر: المبسوط (1/ 119)، بدائع الصنائع (1/ 329).
(3)
انظر لقول الحنفية هذا في: الهداية (1/ 82)، الفتاوى الهندية (1/ 146).
(4)
اختلف الفقهاء في حكم الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة، وذلك على قولين:
القول الأول: أنه تجوز الصلاة على القبر، وهو رواية للإمام مالك، وقول الشافعية والحنابلة.
القول الثاني: أنه لا تجوز الصلاة على القبر، وهو قول الحنفية والمالكية، واستثنى الحنفية الولي إذا كان غائبًا فصلى غيره عليه، فإن للولي أن يصلي على القبر. انظر: المبسوط (2/ 67)، الذخيرة (2/ 472، 473)، المجموع (5/ 150)، المغني (3/ 444).
(5)
الحاوي (2/ 1117)، التعليقة الكبرى (ص 962)، الانتصار (1/ 456 ـ 458).
الوجه الثاني: أنه لو جاز أن يتيمم إذا خشي فواتها إذا توضأ، لجاز أن يصليها بغير تيمم إذا خشي فواتها أن يتيمم، ولما لم يجز ترك التيمم من خشي الفوات، فكذلك في الوضوء
(1)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأنه لا يتيمم بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
1 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى اشترط الطهارة بالماء عند وجوده، وهذا عام في كل صلاة، فلا يجوز أداؤها بالتيمم مع وجود الماء.
المناقشة:
نوقش بأن إطلاق الصلاة يقتضي المعهود، وذلك لا يتناول صلاة الجنازة
(2)
.
الجواب:
أجيب بعدم التسليم؛ لأن صلاة الجنازة يتناولها اسم الإطلاق، ونقيدها
(1)
التعليقة الكبرى (ص 963)، الانتصار (1/ 456).
(2)
التجريد (1/ 244).
بالجنازة للتنويع كما يقال صلاة الظهر والعصر والجمعة، ودخول الألف واللام لا للعهد، وإنما هو لاستغراق الجنس، وصلاة الجنازة نوع منه
(1)
.
2 ـ قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية [النساء: 43، المائدة: 6].
ثانيًا: من السنة:
حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير»
(2)
.
وجه الدلالة من الآية والحديث:
أن شرط جواز التيمم هو عدم وجود الماء، وهذا واجد للماء وقادر على استعماله، فلا يجوز له أن يصلي بالتيمم.
المناقشة:
نوقش بأن المراد بالوجود: القدرة على استعماله لأداء الصلاة من غير مشقة، وهذا لا يوجد إذا خاف فوتها، فيصير غير واجد حكمًا، كمن يخاف العطش
(3)
.
الجواب:
يمكن أن يجاب بعدم التسليم؛ لأنه واجد للماء حكمًا؛ لكونه قادر على
(1)
الانتصار (1/ 455).
(2)
تقدم تخريجه (ص 25).
(3)
التجريد (1/ 244).
استعماله، وأما القياس على من خاف العطش فضعيف؛ لأن من خاف العطش أبيح له التيمم لخوف الضرر، ولا ضرر هنا، فافترقا.
ثالثًا: من المعقول:
1 ـ أن طهارة التيمم طهارة ضرورة ولا ضرورة مع فرض كفاية أو سنة؛ لجواز تركها والاكتفاء بالمتوضئين
(1)
.
2 ـ قياسًا على الصلوات المكتوبة إذا خشي فواتها وهو قادر على استعمال الماء
(2)
.
3 ـ قياسًا على الجمعة، فإن الجمعة آكد من الجنازة؛ لأنها من فروض الأعيان، والجنازة من فروض الكفايات، ثم خوف فواتها لا يسوغ التيمم لها، فالجنازة أولى
(3)
.
4 ـ قياسًا على من هو عار وفي بيته ثوب لو ذهب إليه لفاتته الصلاة
(4)
، فإنه لا يجوز له أن يصلي عاريًا ولو فاتته الصلاة، فكذلك لا يجوز له أن يتيمم مع القدرة على استعمال الماء ولو فاتته الصلاة بجامع أن الطهارة وستر العورة شرطان من شروط الصلاة فلا تصح الصلاة بدونهما مع القدرة عليهما.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الثاني القائل بعدم التيمم لمن يجد الماء
(1)
انظر: عيون الأدلة (ص 950).
(2)
الإشراف (1/ 171)، المجموع (2/ 194)، رؤوس المسائل الخلافية (1/ 82).
(3)
الإشراف (1/ 171، 172)، الحاوي (2/ 1116)، رؤوس المسائل في الخلاف (1/ 78).
(4)
المجموع (2/ 195).
ويخاف باستعماله فوات النوافل كالعيد والجنازة ونحوهما، وذلك لقوة أدلتهم وإفادتها المراد، في مقابل ضعف أدلة القول الأول بما حصل من مناقشتها.