الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
طهارة من كان بعض بدنه جريحًا
وبعضه صحيحًا
من كان بعض بدنه جريحًا وأراد الطهارة للصلاة، فإنه لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يمكنه غسل الجريح بالماء، فإنه في هذه الحالة يجب عليه الغسل باتفاق الفقهاء
(1)
.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى أمر باستعمال الماء في الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، ولا يعدل عنه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة هنا.
ثانيًا: من السنة:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته
…
»
(2)
.
(1)
الأصل (1/ 124)، مواهب الجليل (1/ 531)، المجموع (2/ 230)، كشاف القناع (1/ 395، 396).
(2)
تقدم تخريجه (ص 25).
وجه الدلالة:
دل الحديث على أن الأصل في طهارة الإنسان استعمال الماء، والجريح قادر على استعمال الماء فلا يجوز له أن يعدل عنه إلى غيره.
الحالة الثانية: أن يمكنه مسح الجريح بالماء، فقد وقع الخلاف بين الفقهاء في هذه الحالة على قولين:
القول الأول: أنه يجب عليه مسح الجريح بالماء ويكفيه عن التيمم، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة
(1)
.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
أولاً: من السنة:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»
(2)
.
ثانيًا: من المعقول:
أن الغسل مأمور به، والمسح بعضه، فوجب كمن عجز عن الركوع والسجود وقدر على الإيماء
(3)
.
القول الثاني: أنه لا يجب مسح مواضع الجراحة بالماء وإن كان لا يخاف
(1)
الأصل (1/ 124)، الفتاوى الهندية (1/ 28)، مواهب الجليل (1/ 531)، شرح منتهى الإرادات (1/ 182).
(2)
تقدم تخريجه (ص 97).
(3)
المبدع (1/ 168)، كشاف القناع (1/ 396).
منه ضررًا، وإنما يجب التيمم بدلاً منه، سواء كان الجرح في غير محل التيمم أو في محله، إلا أنه إذا كان في محل التيمم فيجب إمرار التراب عليه إن أمكن، وهو قول الشافعية
(1)
.
واستدلوا على ذلك بأن الواجب الغسل، فإذا تعذر فلا فائدة من المسح بالماء
(2)
.
المناقشة:
يمكن مناقشته من وجهين
(3)
:
الوجه الأول: أن طهارة المسح بالماء أولى من طهارة التيمم؛ فالمسح طهارة مائية والتيمم طهارة ترابية.
الوجه الثاني: أنه إذا جاز المسح على حائل العضو فالمسح على العضو أولى.
الراجح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول القائل بوجوب المسح، وذلك لقوة أدلتهم، وسلامتها من المعارضة، في مقابل ضعف دليل القول الثاني بما حصل من مناقشة، ولأن المسح بالماء يكون على العضو نفسه بخلاف التيمم فإنه يكون في عضوين فقط، فالمسح أولى.
(1)
العزيز (1/ 225، 226)، المجموع (2/ 230، 231).
(2)
المصدران السابقان.
(3)
شرح العمدة (1/ 437)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 216). وانظر: بدائع الفوائد لابن القيم (4/ 868)، ط: نزار الباز 1416 هـ.
الحالة الثالثة: أن يتضرر بغسل الجرح أو مسحه بالماء: فهل تكون طهارته بالجمع بين غسل الصحيح من بدنه والتيمم عن الجريح، أو يقتصر على أحد الطهورين؟ اختلف الفقهاء في هذه الحالة على قولين:
القول الأول: أنه لا يجمع بين الغسل والتيمم، بل إذا كان أكثر بدنه صحيحًا غسل الصحيح ومسح على مواضع الجراحة إن لم يضره، وإلا وجب عليه أن يضع على جرحه عصابة
(1)
أو يشد على كسره جبيرة
(2)
ثم يمسح عليها، ولا يتيمم، وإن كان أكثر بدنه جريحًا تيمم ولا غسل عليه، وهو قول الحنفية، والمالكية
(3)
.
القول الثاني: أنه يجمع بين الغسل والتيمم، فيلزمه غسل ما أمكنه ويتيمم عن الباقي، وهو قول الشافعية، والحنابلة
(4)
.
(1)
العصابة: اسم ما يشد به من عصب رأسه عصبه تعصيبًا، أي: شده، والعصابة أيضًا العمامة. لسان العرب (1/ 603).
(2)
الجبيرة: العيدان التي تشد على العظم لتجبره على استواء. لسان العرب (4/ 115).
(3)
المبسوط (1/ 122)، بدائع الصنائع (1/ 328)، الفتاوى الهندية (1/ 28)، المدونة (1/ 45)، التفريع (1/ 202)، عقد الجواهر الثمينة (1/ 60).
ملاحظة: اختلف قول الحنفية في من كان نصف بدنه صحيحًا ونصفه جريحًا، وذلك على قولين:
القول الأول: يجب التيمم فقط؛ لأنه طهارة كاملة، واختاره الموصلي وقال: إنه أحسن.
القول الثاني: يجب غسل الصحيح ومسح الجريح إذا لم يضره المسح؛ لأن الغسل طهارة حقيقية وحكمية، فكان أولى. انظر: الاختيار (1/ 31)، البحر الرائق (1/ 285).
(4)
الأم (2/ 90)، المجموع (2/ 230)، الكافي (1/ 101)، الفروع (1/ 286).
أدلة القول الأول:
عللوا ما ذهبوا إليه بما يلي:
1 ـ أن التيمم بدل عن الماء، ولا يجب الجمع بين البدل والمبدل، كالصوم والرقبة في الكفارة
(1)
.
المناقشة:
نوقش بأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق يتضح بما يلي:
الأول: أنه يبطل بالماسح على الخفين، فإنه يجمع بين البدل والمبدل ومع هذا فإنه جائز
(2)
.
الثاني: أنه يبطل بالمسح على الجبائر مع الغسل، فإنه جمع بين البدل والمبدل وهو جائز
(3)
.
الثالث: أن الجمع بين البدل والمبدل في الكفارة لا يجب؛ لأنهما عن شيء واحد وهو الحنث في اليمين، بخلاف هذا فإن التيمم بدل عما لم يصبه الماء دون ما أصابه
(4)
.
2 ـ أن الأقل تابع للأكثر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الجريح في حديث جابر:
(1)
المبسوط (1/ 122)، الذخيرة (1/ 343)، الحاوي (2/ 1085).
(2)
التعليقة الكبرى (ص 934)، المغني (1/ 337).
(3)
التعليقة الكبرى (ص 934).
(4)
الحاوي (2/ 1087)، المغني (1/ 337).
«إنما كان يكفيه أن يتيمم» ولا أحد يقول: أنه يغسل ما بين كل جدريين، فدل على أن العبرة للأكثر، وإذا كان الأكثر مجروحًا لم يكن له بدٌ من التيمم فسقط فرض الغسل
(1)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن القول بأن الأقل تابع للأكثر لا يعتبر في الطهارات، ولهذا من غسل أكثر جسده من جنابة، أو أكثر أعضاء وضوئه من حدثه لم يجزه تغليبًا للأكثر، فكذا هنا
(2)
.
الوجه الثاني: أن الاستدلال بأنه لا أحد يقول: يجب عليه غسل ما بين الجدريين، فدل على أن العبرة للأكثر لا يصح؛ لأنه إن كان لا يلحقه الضرر في ذلك وجب عليه غسل ما بين الجدريين، وإن كان يلحقه الضرر لم يجب، وهاهنا لا يلحقه ضرر في غسل هذا الموضع فافترقا
(3)
.
ثم لو فرضنا أنه لا أحد يقول بهذا، فقوله مبني على أساس تعذر غسل ما بين كل جدريين أو التحرج من ذلك والحرج منفي شرعًا.
(1)
المبسوط (1/ 122).
(2)
الحاوي (2/ 1087).
(3)
التعليقة الكبرى (ص 934، 935).
أدلة القول الثاني:
استدلوا على ذلك بما يلي:
أولاً: من السنة:
حديث جابر رضي الله عنه وفيه: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه، ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده»
(1)
.
وجه الدلالة:
أن الحديث نص صريح في الجمع بين الغسل والتيمم
(2)
.
المناقشة:
يمكن مناقشته بأن الحديث ضعيف
(3)
.
ثانيًا: من المعقول:
1 ـ أن العجز عن إيصال الماء إلى بعض أعضائه لا يقتضي سقوط الفرض عن إيصاله إلى ما لم يعجز عنه، قياسًا على ما إذا كان عادمًا لبعض أعضائه
(4)
.
2 ـ أن كل جزء من الجسد يجب تطهيرة بشيء إذا استوى الجسم كله في المرض أو الصحة، فيجب الغسل بالماء إذا كان صحيحًا، ويجب التيمم إذا
(1)
سبق تخريجه (ص 126).
(2)
الحاوي (1/ 1086)، مختصر خلافيات البيهقي لأحمد اللّخمي (1/ 363)، ط: مكتبة الرشد 1417 هـ، المبدع (1/ 168).
(3)
تقدم بيان وجه ضعفه (ص 126)، الهامش رقم (2).
(4)
الحاوي (2/ 1086)، المبدع (1/ 168).
كان مريضًا، وإن خالفه غيره كما لو كان من جملة الأكثر، فإن حكمه لا يسقط بمعنى في غيره
(1)
.
3 ـ أن تطهير بعض أعضائه بالماء لا يسقط فرض التطهر عما لم يصل إليه قياسًا على من كان صحيح الأعضاء
(2)
.
4 ـ أنها طهارة ضرورة فلم يعف فيها إلا عن قدر ما دعت إليه الضرورة كطهارة المستحاضة
(3)
.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الثاني القائل بأنه يجمع بين الغسل والتيمم، وذلك لقوة أدلتهم وسلامتها ـ في الجملة ـ من الاعتراضات القادحة فيها، في مقابل ضعف أدلة القول الأول بما حصل من مناقشتها.
(1)
المغني (1/ 337).
(2)
الحاوي (2/ 1086)، رؤوس المسائل الخلافية (1/ 79).
(3)
الحاوي (2/ 1086).