الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
التيمم بغير التراب
أجمع العلماء على جواز التيمم بالتراب الطاهر
(1)
، قال ابن المنذر:«أجمع أهل العلم أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز إلا من شذ منهم»
(2)
.
وقال ابن عبد البر: «أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب جائز»
(3)
.
ومستند الفقهاء على جواز التيمم بالتراب حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضلنا على الناس بثلاث: وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت ترتبها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء»
(4)
.
وإذا ثبت إجماع العلماء على جواز التيمم بالتراب فإنهم اختلفوا في حكم التيمم بغير التراب مما هو من جنس الأرض، وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض، وبما تصاعد على وجه الأرض من جميع أجزائها
(5)
، من تراب، أو رمل
(6)
، أو حجر، أو
(1)
بدائع الصنائع (1/ 335)، بداية المجتهد (1/ 139)، المجموع (2/ 170)، مغني ذوي الأفهام لابن عبد الهادي (ص 94)، ط: مكتبة دار طبرية 1416 هـ.
(2)
الإجماع (ص 36)، الأوسط (2/ 37).
(3)
التمهيد (19/ 290)، الاستذكار (3/ 159).
(4)
تقدم تخريجه (ص 39).
(5)
فائدة التقييد بقولهم: «من جميع أجزائها» لأنه قد يكون على وجه الأرض ما لا يجوز التيمم به كالنبات والرماد وغير ذلك مما ليس من أجزائها. انظر: شرح التلقين (1/ 287).
(6)
الرمل: نوع معروف من التراب، وهو فتات الصخر، وجمعه الرمال، وواحدتها رملة. لسان العرب (11/ 294)، مختار الصحاح (ص 234).
جص
(1)
، أو نورة
(2)
، أو زرنيخ
(3)
، أو غير ذلك، وبذلك قال الحنفية والمالكية، ورواية عند الحنابلة إذا لم يجد ترابًا، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
.
القول الثاني: أنه لا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد، وبذلك قال أبو يوسف من الحنفية، وابن شعبان من المالكية، وهو قول الشافعية والحنابلة
(5)
.
القول الثالث: أنه يجوز التيمم بالتراب والرمل دون غيرهما، وهو قول لأبي يوسف من الحنفية، ورواية عند الحنابلة
(6)
.
(1)
الجص ـ بفتح الجيم وكسرها ـ: هو ما يبنى به، وهو معرب؛ لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة عربية، يقال: جصصت الدار أي عملتها بالجص. مختار الصحاح (ص 104)، المصباح المنير (1/ 102).
(2)
النورة ـ بضم النون ـ: وهو نوع من الحجر الذي يحرق ويسوى منه الكلس، ثم غلبت على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره، وتستعمل لإزالة الشعر. لسان العرب (5/ 244)، المصباح المنير (2/ 630).
(3)
الزرنيخ: نوع معروف من الحجر، وهو فارسي معرب، منه أبيض ومنه أحمر. لسان العرب (3/ 21)، المصباح المنير (1/ 252).
(4)
الأصل (1/ 104)، بدائع الصنائع (1/ 335)، التلقين (1/ 69)، الذخيرة (1/ 346)، شرح الزركشي (1/ 342)، الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي (ص 20)، ط: مكتبة السنة المحمدية، الإنصاف (1/ 271).
(5)
المبسوط (1/ 108)، بدائع الصنائع (1/ 335)، الذخيرة (1/ 346)، الأم (1/ 105)، المجموع (2/ 170)، المغني (1/ 324)، الإنصاف (1/ 271).
(6)
مختصر القدوري (ص 51)، الإنصاف (1/ 271).
سبب الخلاف:
يرجع سبب الخلاف في هذه المسألة إلى أمرين
(1)
:
الأول: اختلاف الفقهاء في المراد من الصعيد
(2)
الطيب في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43، المائدة: 6]، فإن اسم الصعيد مشترك في لسان العرب، فإنه مرة يطلق على التراب الخالص، ومرة يطلق على جميع أجزاء الأرض الطاهرة، فمن قال باختصاصه بما على جميع أجزاء الأرض، ذهب إلى جواز التيمم بكل ما كان من أجزاء الأرض سواء كان ترابًا أو غيره.
ومن قال بأن المراد من لفظ الصعيد في الآية هو التراب، ذهب إلى عدم جواز التيمم بما عدا التراب من أجزاء الأرض.
الثاني: أنه قد ورد حديث عام وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»
(3)
، وهناك من قال عن هذا الحديث بأنه مطلق، وجاءت رواية أخرى لهذا الحديث وقد ورد فيها:«وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت ترتبها لنا طهورًا»
(4)
، فجعل البعض هذه الرواية مخصصة للحديث
(1)
شرح التلقين (1/ 287)، بداية المجتهد (1/ 140).
(2)
قال الفيومي في المصباح المنير (1/ 339، 340)، «الصعيد: وجه الأرض ترابًا كان أو غيره، قال الزجاج: ولا أعلم اختلافًا بين أهل اللغة في ذلك، ويقال: الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي على وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق، وتجمع هذه على صُعُد بضمتين، وصُعُدات، مثل طريق وطرق وطرقات».
(3)
تقدم تخريجه (ص 38).
(4)
تقدم تخريجه (ص 39).
السابق، وجعلها الآخرون مقيدة له، وهؤلاء القائلون بالتخصيص أوالتقييد، هم الذين ذهبوا إلى عدم جواز التيمم بما عدا التراب من أجزاء الأرض.
وأما القائلون بجواز التيمم بكل ما كان من أجزاء الأرض أبقوا الحديث على عمومه، ولم يقبلوا دعوى التخصيص أو التقييد.
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بجواز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض، بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43، المائدة: 6].
ثانيًا: من السنة:
حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالصعيد، فإنه يكفيك»
(1)
.
وجه الدلالة من الآية والحديث:
في الآية والحديث دليل على جواز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض، وذلك لأن الصعيد هو كل ما يصعد على وجه الأرض ترابًا كان أو غيره، وهذا منقول أئمة اللغة
(2)
، فكل ما صعد على وجه الأرض فهو صعيد يجوز التيمم به، إلا ما خصه الدليل
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه (ص 25).
(2)
كالأصعمي، والخليل، وثعلب، وابن الأعرابي، والزجاج، وأبي عبيدة. انظر: البناية (1/ 534)، المنتقى (1/ 116)، الذخيرة (1/ 347).
(3)
رؤوس المسائل (ص 116)، الذخيرة (1/ 347).
المناقشة:
نوقش بعدم اختصاص الصعيد بما تصاعد على الأرض، بل هو لفظ مشترك يطلق على وجه الأرض وعلى التراب وعلى الطريق، وإذا كان كذلك لم يخص بأحد الأنواع إلا بدليل، وقد دل الدليل الشرعي على تخصيص التيمم بالتراب كما في حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا»
(1)
، فخص ترابها بحكم الطهارة، وذلك يقتضي نفي الحكم عما عداه
(2)
.
الجواب:
أجيب من وجهين:
الوجه الأول: أن الاسم المشترك إذا جمع المسميات بمعنى واحد جاز حينئذ استعماله في معانيه، كالأخ الذي يتناول الإخوة المختلفين لاجتماعهم في معنى واحد، وهو الانتساب إلى أحد الأبوين، كذلك الصعيد فيما تصاعد
(3)
.
الوجه الثاني: أن القول بأن حديث حذيفة رضي الله عنه قد خصص التيمم بالتراب لا يصح، وذلك لما يلي:
(1)
تقدم تخريجه (ص 39).
(2)
البيان (1/ 270)، المجموع (2/ 171)، شرح الزركشي (1/ 341).
(3)
التجريد (1/ 211).
5 ـ أنه قول يحتاج إلى دليل
(1)
.
6 ـ أن حديث حذيفة رضي الله عنه ليس من باب التخصيص أو التقييد، وإنما من باب النص على بعض أشخاص العموم كما قال تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، وقوله تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، فخص النخل والرمان في الآية الأولى من بين الفاكهة وهذا لا يخرجهما عن كونهما من الفاكهة، وخص جبريل وميكائيل في الآية الثانية من بين الملائكة، وهذا لا يخرجهما عن كونهما من الملائكة، فكذلك حديث حذيفة رضي الله عنه، وذلك لأن شرط المخصص أن يكون منافيًا، والتراب ليس بمناف للصعيد؛ لأنه بعض منه، فالنص عليه في حديث علي
(2)
وحذيفة لبيان أفضليته على غيره لا لأنه لا يجزئ غيره
(3)
.
7 ـ أنه يمكن الجمع بين حديث حذيفة رضي الله عنه «وجعلت تربتها لنا طهورًا» وحديث: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» ، وذلك بأن نحمل
(1)
شرح العناية (1/ 128)، عيون الأدلة (ص 872)، المحلى (1/ 102)، نيل الأوطار (1/ 306).
(2)
سيأتي ذكره وتخريجه (ص 372).
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 228)، شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 167، 168)، ط: دار الكتب العلمية 1411 هـ، فتح الباري لابن رجب (2/ 19).
المقيد على تقييده فيدل على جواز التيمم بالتراب، ونحمل المطلق على إطلاقه فيدل على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض
(1)
، إذ ليس في قوله:«وتربتها لنا طهورًا» نفي لغيره
(2)
.
ثانيًا: من السنة:
9 ـ حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل»
(3)
.
وجه الدلالة:
أن الحديث يفيد العموم فأي بقعة من الأرض جازت الصلاة عليها فإنه يجوز التيمم منها، فلا يجوز تخصيص التيمم وتقييده بالتراب
(4)
.
المناقشة:
نوقش بأن حديث جابر رضي الله عنه عام مطلق، وقد ورد ما يخصص عمومه، ويقيد إطلاقه بالتراب، كما في حديث حذيفة رضي الله عنه وفيه: «
…
وجعلت تربتها لنا طهورًا»، فدل ذلك على أن المقصود بالأرض ترابها
(5)
.
(1)
التجريد (1/ 212)، وانظر: المحلى (1/ 102).
(2)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص (1/ 134)، رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى، تحقيق: عصمت الله محمد 1416 هـ.
(3)
تقدم تخريجه (ص 38).
(4)
المبسوط (1/ 108)، المنتقى (1/ 116)، نيل الأوطار (1/ 306).
(5)
المجموع (2/ 171)، المغني (1/ 325).
الجواب:
هذه المناقشة قد وردت على الاستدلال بالدليل الأول، وأجيب عنها في الوجه الثاني، ويجاب عنها هنا بما أجيب هناك
(1)
.
10 ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نكون في الرمل وفينا الحائض والجنب والنفساء، ولا نجد الماء أربعة أشهر أو خمسة أشهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«عليكم بالأرض»
(2)
.
وجه الدلالة:
دل الحديث على جواز التيمم بكل ما كان من الأرض
(3)
.
المناقشة:
نوقش بأن الحديث ضعيف
(4)
.
(1)
انظر (ص 364، 365).
(2)
أخرجه أبو يعلى في مسنده (1/ 269) برقم (5870)، ط: دار المأمون للتراث 1404 هـ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 216) وضعفه، وابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (1/ 232)، ط: دار الكتب العلمية 1415 هـ.
(3)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 30).
(4)
لأن أبو يعلى رواه من طريق ابن لهيعة، وهو ضعيف. انظر: نصب الراية (1/ 156)، وأما البيهقي فرواه من طرق ضعيفة. انظر: التحقيق (1/ 232)، المغني (1/ 325)، المجموع (2/ 172)، تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق لابن عبد الهادي (1/ 214)، ط: دار الكتب العلمية 1998 م، نصب الراية (1/ 156).
38 ـ حديث أبي جهيم الأنصاري رضي الله عنه قال: «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام»
(1)
.
وجه الدلالة:
دل الحديث على جواز التيمم بغير التراب لأنه عليه الصلاة والسلام تيمم بالجدار، ومعلوم أنه لم يعلق بيده منه تراب إذ لا تراب على الجدار
(2)
.
المناقشة:
نوقش بأنه محمول على جدار عليه تراب
(3)
، ولهذا جاء في رواية الشافعية لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حت الجدار بالعصا
(4)
.
الجواب:
يمكن أن يجاب بأن الجدار إذا كان من حجر فإنه لا يحتمل التراب؛ لأنه لا يثبت عليه، خصوصًا وحيطان المدينة من حجارة سوداء
(5)
. وأما رواية الحت، فهي ضعيفة
(6)
.
(1)
تقدم تخريجه (ص 26).
(2)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 476).
(3)
شرح صحيح مسلم (4/ 287)، فتح الباري (1/ 528).
(4)
أخرج الشافعي هذه الرواية في الأم (2/ 108).
(5)
البناية (1/ 535، 536)، البحر الرائق (1/ 260).
(6)
لأنها من رواية إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث ـ وهما ضعيفان لا يحتج بهما ـ عن الأعرج عن أبي الصمة وهو ـ يعني الأعرج ـ لم يسمع منه، ولأن زيادة حك الجدار لم يأت بها أحد غير إبراهيم، والزيادة إنما تقبل من الثقة. انظر: عمدة القاري (4/ 24، 25)، السيل الجرار (1/ 320).
39 ـ حديث عمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما على وجهك وكفيك»
(1)
.
وجه الدلالة:
دل الحديث على أن التيمم لا يختص بتراب ذي غبار يعلق بالعضو، وأن المقصود هو وضع اليد على ما كان من الأرض، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ في يديه ليتناثر ما عليها من تراب
(2)
.
المناقشة:
نوقش بأن هذه قضية في عين، وحكاية حال، فيحتمل أنه قصد أن يبين مقدار ما يمسح من أعضائه لأنه أخبره أنه تمعك في التراب، ولم يكن قصده الطهارة والصلاة، ويحتمل أنه صعد على يديه تراب كثير فخففه بالنفخ وذلك جائز فلم يكن فيه حجة
(3)
.
الجواب:
أجيب بأن هذا خرج مخرج التعليم فلا يجوز أن يغفل بيانه، ولو كان
(1)
تقدم تخريجه (ص 266).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 31)، عمدة القاري (4/ 30)، بداية المجتهد (1/ 139).
(3)
الانتصار (1/ 386)، وانظر: المجموع (2/ 171).
الحكم فيه يختلف لبين لعمار الحكم فيه، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«ثم تنفخ» ولم يفصل له صفة النفخ، وقد ثبت أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نفض يديه
(1)
، فدل ذلك على أنه ليس المقصود حصول التراب في وجهه ويديه
(2)
.
ثالثًا: من المعقول:
أن ما سوى التراب من الأرض أسوة بالتراب في كونه مكان الصلاة فكذلك في كونه طهورًا
(3)
.
أن هذه الأجزاء طاهرة من الأرض لم تتغير عن جنس الأصل فجاز التيمم بها قياسًا على التراب
(4)
.
المناقشة:
نوقش بأن القياس على التراب منتقض بالفضة والذهب، فإنه لا يصح التيمم عليهما
(5)
.
الجواب:
أجيب بالمنع؛ وذلك لأنه ينبغي التفريق بين ما هو من جنس الأرض وما
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب التيمم [صحيح مسلم (1/ 280)].
(2)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 31)، عيون الأدلة (ص 872).
(3)
التجريد (1/ 212)، المبسوط (1/ 108).
(4)
التجريد (1/ 212)، الإشراف (1/ 160)، المنتقى (1/ 116).
(5)
الحاوي (2/ 965).
كان من غير جنسها، فكل ما لا يلين ولا ينطبع
(1)
بالنار كالجص والنورة والزرنيخ فهو من جنس الأرض، وكل ما يلين وينطبع كالحديد والنحاس والذهب والفضة ونحوها فليس من جنس الأرض؛ لأن من طبع الأرض أن لا تلين بالنار
(2)
.
ويؤيد هذا أن الذهب والفضة لا يوجد فيها التفتت والغبار كالجص ونحوه، فدل ذلك على أنها من غير جنس الأرض، وإنما هما من الجواهر المودوعة في الأرض
(3)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأنه لا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد، بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6].
وجه الدلالة:
في الآية دليل على أنه لا يجوز التيمم إلا بتراب له غبار يعلق باليد، وذلك من وجهين:
(1)
الطبع: هو الختم والضرب، يقال: طبعت الدراهم أي ضربتها، وطبعتُ السيف ونحوه أي عملته. مختار الصحاح (ص 343)، المصباح المنير (2/ 368).
(2)
بدائع الصنائع (1/ 339)، الاختيار (1/ 28)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 366).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 31)، التجريد (1/ 214)، عيون الأدلة (ص 875).
الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالتيمم الصعيد وهو التراب كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما بذلك حيث قال: «أطيب الصعيد الحرث، وأرض الحرث»
(1)
.
المناقشة:
نوقش بأن الصعيد هو الصاعد على وجه الأرض، وهذا يعم كل صاعد، بدليل قوله تعالى:{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]، أي تصبح أرضًا ملساء لا شيء فيها، ولا يقال تراب زلق
(2)
.
وأما تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للصعيد بأنه تراب الحرث فهو تفسير بالأغلب
(3)
، ثم إنه ليس في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على تخصيص الصعيد بالتراب؛ لأن قوله:«أطيب الصعيد الحرث، وأرض الحرث» ، يفيد أن غير أرض الحرث يسمى صعيدًا، لكن أرض الحرث أطيب منها
(4)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/ 211) رقم (814)، وابن أبي شيبة (1/ 148) رقم (1702)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 214)، وقال ابن حجر في المطالب العالية (2/ 439):(موقوف حسن).
(2)
جامع البيان (15/ 249)، وانظر: التجريد (1/ 210)، مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 365).
(3)
شرح فتح القدير (1/ 128).
(4)
الاستذكار (3/ 161)، فتح الباري لابن رجب (2/ 69).
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر المتيمم أن يمسح بشيء من التراب؛ لأن قوله: {مِنْهُ} أي ببعضه، ولا يحصل المسح بشيء منه إلا أن يكون ذا غبار يعلق باليد
(1)
.
المناقشة:
نوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن كلمة {مِنْهُ} في الآية ليست دالة على التبعيض، وإنما هي لابتداء الغاية، فيكون ابتداء الفعل بالأرض، وانتهاء المسح بالوجه، فيمسح من وقت الضرب لا قبله
(2)
.
الجواب:
أجيب بالمنع؛ وذلك لأن (من) في حقيقة الوضع للتبعيض، فإنه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسح برأسه من الدهن، إلا معنى التبعيض، وأما القول بأن ابتداء الفعل بالأرض فلا يصح؛ لأن ابتداء المسح بإمرار اليد على الوجه لا بالأخذ من الأرض
(3)
.
(1)
المجموع (2/ 171)، المغني (1/ 325).
(2)
شرح فتح القدير (1/ 129)، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي (1/ 140)، ط: دار القلم 1414 هـ، شرح الزركشي (1/ 341).
(3)
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للزمخشري (1/ 547)، ط: دار إحياء التراث العربي، الانتصار (1/ 385)، شرح الزركشي (1/ 341، 342).
اعتراض:
اعترض بأنه على فرض التسليم بأن كلمة {مِنْهُ} في الآية دالة على التبعيض فإن المراد بـ {مِنْهُ} الموضع الطاهر من الأرض أو مما تصاعد من الأرض، فإن الهاء كناية عن الصعيد، فلا يخص بعض ما تصاعد منها من بعض، وقد يتصاعد منها الرمل والجص وغير ذلك
(1)
.
الوجه الثاني: أن آية التيمم في سورة النساء ليس فيها كلمة {مِنْهُ} كما قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ، فدل ذلك على عدم اشتراط أن يعلق التراب باليد
(2)
.
ثانيًا: من السنة:
حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعطيت ما لم يعط نبي من أنبياء الله، نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الغيب، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم»
(3)
.
حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا»
(4)
.
(1)
انظر: عيون الأدلة (ص 866 ـ 868).
(2)
انظر: المصدر السابق، أحكام القرآن للكيا الهراسي (3/ 114).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند ـ واللفظ له ـ برقم (763)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 213)، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 260، 261)، وكذا ابن حجر في فتح الباري (1/ 522).
(4)
تقدم تخريجه (ص 39).
وجه الدلالة من الحديثين:
أن النبي صلى الله عليه وسلم عم الأرض بحكم المسجد، وخص ترابها بحكم الطهارة، وذلك يقتضي نفي الحكم عما عداه، إذ لو كان غير التراب طهورًا لذكره فيما منَّ الله به عليه
(1)
.
المناقشة:
نوقش هذا الاستدلال بما أجيب به في الوجه الثاني على مناقشته الاستدلال بدليل الكتاب من أدلة أصحاب القول الأول
(2)
.
ثالثًا: من المعقول:
أن الطهارة تتعلق بجامد ومائع، ثم ثبت أنها في المائع تختص بأعم المائعات وجودًا وهو الماء، فكذلك في الجامد يجب أن تختص بأعم الجامدات وجودًا وهو التراب
(3)
.
المناقشة:
نوقش من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن الطهارة بالمائع تعلقت بجنس يجوز منه ما يعم وجوده وما لا يعم وجوده، كماء الشجر، وماء زمزم، وكذلك بالجامد، فتعلق بما يعم وبما لا يعم
(4)
.
(1)
الحاوي (2/ 962)، المغني (1/ 325)، المبدع (1/ 174).
(2)
انظر (ص 364، 365).
(3)
الحاوي (2/ 964)، وانظر: المهذب (1/ 126).
(4)
التجريد (1/ 213).
الوجه الثاني: أن التيمم قد تعلق بما يعم وجوده وما لا يعم وجوده، فكان أوسع من الأصل الذي يتعلق بنوع واحد، وما شرع التيمم إلا عند الضرورة، فيجوز أن يتسع لأجل الضرورة
(1)
.
الوجه الثالث: أن قياس التراب على الماء لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق، فإنه في طهارة الماء يجب أن يلاقي كل جزء من الأعضاء جزء من الماء، وهذا غير موجود في التيمم؛ لأن المتيمم إذا ضرب بيده على التراب ثم أمرها على وجهه فهو إلى أن يبلغ حد الذقن لا يبقى في يده من التراب شيء
(2)
.
أو نقول: إن هذه العبادة غير معقولة المعنى فلا قياس فيها.
أن غير التراب جوهر مستودع في الأرض فلم يجز التيمم به كالفضة والذهب
(3)
.
المناقشة:
نوقش بما أجيب به على مناقشة دليل المعقول من أدلة القول الأول.
أن الله سبحانه وتعالى إنما نقلنا عن الماء عند عدمه وتعذره إلى ما هو أيسر وجودًا وأهون فقدًا، والكحل والزرنيخ أعز في أكثر الأحوال وجودًا من الماء، فلم يجز أن ننتقل عن الأهون إلى الأعز
(4)
.
(1)
المصدر السابق.
(2)
انظر: عيون الأدلة (ص 875، 876)، الإشراف (1/ 161).
(3)
الحاوي (2/ 964).
(4)
المصدر السابق.
المناقشة:
يمكن مناقشته بالمنع؛ وذلك لأنه ليس المقصود استعمال الكحل أو الزرنيخ بخصوصه، بل المقصود جواز التيمم بكل ما صعد على وجه الأرض، وفي ذلك نفي للحرج عن الناس؛ لأن تكليف الناس استعمال التراب بخصوصه في الأرض الرملية والجبلية مشقة وحرج كبير.
أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بجواز التيمم بالتراب والرمل دون غيرهما، بما يلي:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نكون في الرمل وفينا الحائض والجنب والنفساء، ولا نجد الماء أربعة أشهر، أو خمسة أشهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«عليكم بالأرض»
(1)
.
وجه الدلالة:
دل الحديث على جواز التيمم بالرمل.
المناقشة:
نوقش بأن الحديث ضعيف
(2)
.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول القائل بجواز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض، وذلك لما يلي:
(1)
تقدم تخريجه (ص 366).
(2)
سبق بيان وجه ضعفه (ص 366)، الهامش رقم (5).
لقوة أدلتهم، وإفادتها المراد، وسلامة أكثرها من الاعتراضات القادحة.
اتفاق أهل اللغة على أن الصعيد ليس خاصًا بالتراب، بل يشمل كل ما كان على وجه الأرض، من تراب، أو رمل، أو حجارة، أو غير ذلك.
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر هو وأصحابه رضي الله عنهم في غزوة تبوك
(1)
قطعوا الرمال في طريقهم، ولم يحملوا معهم ترابًا بلا شك، وماؤهم في غاية القلة، وهي مفاوز
(2)
معطشة، حتى شكى الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطعًا كانوا يتيممون بالأرض التي هم فيها نازلون، فدل ذلك على جواز التيمم بغير التراب
(3)
.
مسألة: نقل التراب للتيمم:
هذه المسألة تعتبر ثمرة للقول القائل باشتراط أن يكون المتيمم به ترابًا، كما هو قول الشافعية والحنابلة، خلافًا للحنفية والمالكية الذين أجازوا التيمم بكل ما هو من جنس الأرض.
(1)
تبوك ـ بفتح التاء، وضم الباء ـ: موضع يقع في طرف الشام من جهة القبلة، بينها وبين مدينة النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر مرحلة. تهذيب الأسماء واللغات (3/ 40)، وهي مدينة معروفة، تقع في الشمال الغربي من المملكة العربية السعودية، انظر: معجم الأمكنة الوارد ذكرها في صحيح البخاري لسعد جنيدل (ص 103)، ط: دارة الملك عبد العزيز 1419 هـ.
(2)
المفاوز: جمع مفازة، وهي الموضع المهلك، وسميت بذلك تفاؤلاً بالسلامة والفوز. مختار الصحاح (ص 448)، المصباح المنبير (2/ 483).
(3)
زاد المعاد (1/ 200) و (3/ 561).
فإذا أراد المرء السفر في أرض ليس فيها تراب لكونها جبلية أو رملية، فهل يستحب له أن ينقل معه ترابًا ليتيمم به أم لا؟
للفقهاء في هذه المسألة على قولان
(1)
:
القول الأول: أنه يستحب نقل التراب للتيمم به، وهو رواية عند أحمد، وهي المذهب
(2)
، لأن نقل التراب معه للتيمم أحوط للعبادة، فقد تدركه الصلاة ولا يجد ماء ولا ترابًا، فيصلي صلاةً بدون ماء ولا تراب، والصلاة ـ والحالة هذه ـ يرى كثير من الأئمة لزوم إعادتها
(3)
.
القول الثاني: أنه يكره نقل التراب للتيمم به، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم، وابن مفلح
(4)
، والمرداوي
(5)
.
(1)
لم أجد للشافعية نصًا في هذه المسألة فيما وقفت عليه من كتبهم.
(2)
فتح الباري لابن رجب (2/ 31)، وذكر أيضًا أنه قول الثوري، الإنصاف (1/ 272)، كشاف القناع (1/ 409).
(3)
مطالب أولي النهى (1/ 203)، كشاف القناع (1/ 409).
(4)
هو: محمد بن مفلح بن محمد، أبو عبد الله شمس الدين الراميني، فقيه نحوي أصولي حنبلي، تفقه بشيخ الإسلام ابن تيمية، وبرع وأفتى ودرس وصنف، كان غاية في معرفة مذهب أحمد، من كتبه: الفروع في الفقه، جمع فيه غالب المذهب، ويقال له: مكنسة المذهب، توفي سنة (763 هـ).
انظر: الدرر الكامنة (6/ 14)، شذرات الذهب (6/ 199، 200).
(5)
الاختيارات الفقهية (ص 21)، زاد المعاد (1/ 200)، الفروع (1/ 297)، الإنصاف (1/ 272).
واستدلوا على ذلك بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه أنهم كانوا ينقلون معهم التراب ليتيمموا به مع كثرة أسفارهم في مفاوز الرمال فيها أكثر من التراب
(1)
.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الثاني القائل بكراهة نقل التراب ليتيمم به، وذلك لوجاهة ما استدلوا به.
(1)
زاد المعاد (1/ 200)، الإنصاف (1/ 272)، شرح منتهى الإرادات (1/ 192).