الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
حكم تيمم المريض الواجد للماء
ذكر الفقهاء تقسيمات كثيرة للمرض الذي يتيمم من أجله عند وجود الماء، ومنها تقسيم النووي، فقد قسم النووي المرض من حيث القول بجواز التيمم وعدمه عند وجود الماء إلى ثلاثة أنواع
(1)
:
النوع الأول: المرض الشديد، الذي يخاف معه من استعمال الماء الموت، أو يخاف تلف عضو، أو فوات منفعة عضو، كعمى وصمم وخرس ونحو ذلك، فهذا يتيمم باتفاق الفقهاء
(2)
.
وكانت أدلة هذا الاتفاق ما يلي:
أولا: من الكتاب:
16 ـ قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43، المائدة: 6].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى أباح التيمم للمريض الذي لا يقدر على استعمال الماء؛ لأن تقدير الآية: وإن كنتم مرضى فعجزتم أو خفتم من استعمال الماء أو
(1)
المجموع (2/ 228).
(2)
المبسوط (1/ 112)، بدائع الصنائع (1/ 318)، المدونة (1/ 45)، مواهب الجليل (1/ 489)، المهذب (1/ 134)، نهاية المحتاج (1/ 280)، المستوعب (1/ 283)، الكافي لابن قدامة (1/ 97).
كنتم على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا
(1)
، فإن المريض وإن كان واجدًا للماء صورة إلا أنه لما لم يتمكن من استعماله خشية الضرر صار الماء معدومًا حكمًا
(2)
، فجاز له التيمم.
17 ـ قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى قد نهى عن قتل النفس، والمريض الذي يخشى الهلاك من استعمال الماء يدخل في الخطاب؛ لأن المرض الشديد أو زيادة المرض يؤديان إلى قتل النفس.
18 ـ قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].
19 ـ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وجه الدلالة من الآيتين:
أن الله سبحانه وتعالى قد نفى الحرج عن هذه الأمة وهو الضيق، وفي الأمر باستعمال الماء الذي يخاف فيه الهلاك أعظم الضيق، ولهذا نجد أن الله عز وجل قد نفى الضيق في الآية الثانية نفيًا مطلقًا، فإن من أعظم العسر استعمال الماء الذي يؤدي بالإنسان إلى الضرر وتلف النفس أو العضو، أو زيادة المرض
(3)
.
(1)
بداية المجتهد (1/ 131)، المجموع (2/ 228).
(2)
أحكام القرآن لابن عربي (1/ 445).
(3)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 10).
ثانيًا: من السنة:
1.
حديث جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجرٌ فشجه
(1)
في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي
(2)
السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده»
(3)
.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على الصحابة حينما أمروا الرجل بالغسل فمات، وفي الابتداء لم يعلم هل كان يخاف التلف أو الزيادة في المرض؟
(4)
، مما يدل على جواز التيمم للمريض الذي يخاف التلف أو الزيادة في المرض مع وجود الماء.
(1)
شجه: أي جرحه في رأسه وشقه. النهاية في غريب الحديث والأثر (ص 467).
(2)
العي: الجهل. النهاية في غريب الحديث والأثر (ص 656).
(3)
أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم [سنن أبي داود (1/ 93) حديث (336)]، والدارقطني في سننه (1/ 189، 190) رقم (3) وقال: «لم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق وليس بالقوي» . وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 227، 228) حديث (1016) وضعفه، وقال ابن حجر:«رواه أبو داود بسند فيه ضعف، وفيه اختلاف على رواته» بلوغ المرام (ص 45)، ط: ابن حزم 1420 هـ، وضعفه أيضًا الألباني كما في إرواء الغليل (1/ 142، 143).
(4)
عيون الأدلة (ص 955).
2.
حديث عمرو بن العاص
(1)
رضي الله عنه قال: «احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟» قال: قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا»
(2)
.
(1)
هو: أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سهم القرشي السَّهمي، أسلم عام خيبر أول سنة سبع، ثم أمره الرسول صلى الله عليه وسلم على عمان، فلم يزل عليها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمَّره أبو بكر على الشام، ثم ولي لعمر مصر بعد أن فتحها، توفي بمصر أيام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سنة (43 هـ).
انظر: أسد الغاية (4/ 259 ـ 264)، الإصابة (4/ 650 ـ 653).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 203) برقم (17845)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ [سنن أبي داود (1/ 92) حديث (334)]، والدارقطني في سننه (1/ 178) حديث (12)، والحاكم في المستدرك (1/ 285) حديث (129)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 225) حديث (1011)، وقد رواه البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة التمريض (1/ 132)، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش يتيمم، قال ابن حجر في فتح الباري (1/ 541):«وإسناده قوي، لكنه علقه بصيغة التمريض لكونه اختصره» . وصححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 181).
وجه الدلالة:
في الحديث دليل على جواز التيمم لمن خاف على نفسه الهلاك من البرد ونحوه، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص على فعله، ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسل ولا إعادة
(1)
، فالمريض الذي يخشى على نفسه الهلاك أو زيادة المرض من باب أولى.
ثالثًا: من الآثار:
1 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} قال: «إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله، أو القروح
(2)
، فيجنب، فيخاف أن يموت إن اغتسل فليتيمم»
(3)
.
2 ـ عن سعيد بن جبير
(4)
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «رُخص للمريض التيمم بالصعيد»
(5)
.
(1)
بدائع الصنائع (1/ 320)، الجامع لأحكام القرآن (1/ 209)، الأوسط (2/ 21)، نيل الأوطار (1/ 303).
(2)
القروح: جمع قرح وهو الجرح، وقيل: ألم الجرح. لسان العرب (2/ 557).
(3)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 138) حديث (272)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 96) حديث (1070)، والدارقطني في سننه (1/ 177) برقم (9)، والحاكم في المستدرك (1/ 270) حديث (586)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 224) حديث (1006)، وفي معرفة السنن والآثار (1/ 300) حديث (342)، ط: دار الكتب العلمية.
(4)
هو: سعيد بن جبير بن هشام، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله الأسدي الوالبي مولاهم الكوفي، الإمام الحافظ المقرئ المفسر، قرأ القرآن على ابن عباس، وروى عنه وعن عائشة وابن عمر وغيرهم، قتله الحجاج سنة (95 هـ).
انظر: وفيات الأعيان (2/ 371 ـ 374)، سير أعلام النبلاء (4/ 321 ـ 343).
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/ 224) برقم (869)، ط: المكتب الإسلامي 1403 هـ، والدارقطني (1/ 178) برقم (10)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 224) حديث (1008).
رابعًا: من المعقول:
1 ـ أن التيمم يباح لمن خاف العطش على نفسه، أو خاف من سبع، أو من لص يأخذ ماله، فإباحة التيمم للمريض من باب أولى، فإن الخوف لا يختلف، وإنما اختلفت جهاته
(1)
.
2 ـ أن زيادة المرض قد أثر في إباحة الإفطار وترك القيام بلا خلاف، فههنا أولى؛ لأن القيام ركن في باب الصلاة، والوضوء شرط، فخوف زيادة المرض لما أثر في إسقاط الركن، فلأن يؤثر في إسقاط الشرط أولى
(2)
.
3 ـ أن الضرر في زيادة المرض فوق الضرر في زيادة ثمن الماء، وذلك يبيح التيمم فهذا أولى
(3)
؛ لأن ثمن الماء مال، والمال خلق وقاية للنفس فكان تبعًا، ولما كان الحرج مدفوعًا عن الوقاية التي هي تبع، فلأن يكون مدفوعًا عن المُوقَى الذي هو الأصل أولى
(4)
.
النوع الثاني: المرض اليسير الذي لا يخاف من استعمال الماء معه تلفًا، ولا مرضًا مخوفًا، ولا إبطاء برءٍ، ولا زيادة ألم، كصداع ووجع ضرس وحمى وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز له التيمم باتفاق الفقهاء
(5)
.
(1)
المغني (1/ 336)، المبدع (1/ 164، 165)، كشاف القناع (1/ 391).
(2)
بدائع الصنائع (1/ 319)، المجموع (2/ 229)، الإشراف على مسائل الخلاف (1/ 168)، المغني (1/ 336).
(3)
الهداية (1/ 27)، نهاية المحتاج (1/ 281)، الإنتصار (1/ 451).
(4)
شرح العناية (1/ 124).
(5)
بدائع الصنائع (1/ 318)، البحر الرائق (1/ 245)، عيون الأدلة (ص 958)، الذخيرة (1/ 340)، مواهب الجليل (1/ 489)، الحاوي (2/ 1072)، روضة الطالبين (1/ 217)، المغني (1/ 336)، كشاف القناع (1/ 391). وانظر: أحكام المريض في الفقه الإسلامي لأبي بكر إسماعيل (ص 37)، ط: 1401 هـ.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة: 6].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى أباح التيمم للمريض الذي يضره استعمال الماء، إذ أن إباحة التيمم للمريض في الآية غير مضمنة بعدم الماء، بل هي مضمنة بخوف ضرر الماء
(1)
، ولا ضرر عليه هاهنا
(2)
.
ثانيًا: من السنة:
حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء»
(3)
.
(1)
أحكام القرآن للجصاص (4/ 2)، بدائع الصنائع (1/ 318).
(2)
المغني (1/ 336).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة [صحيح البخاري (3/ 1190) حديث (3090)]، ومسلم في كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي [صحيح مسلم (4/ 1732) حديث (2210)].
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى استعمال الماء للحمى فلا تكون سببًا لتركه والانتقال إلى التيمم
(1)
.
ثالثًا: من المعقول:
1 ـ أن التيمم رخصة أبيحت للضرورة، فلا يباح بلا ضرورة، ولا ضرورة هنا
(2)
.
2 ـ أنه واجد للماء لا يخاف ضررًا فلا يباح له التيمم، كما لو خاف ألم البرد دون تعقب ضرر
(3)
.
النوع الثالث: المرض اليسير الذي يخاف من استعمال الماء معه زيادة مرض، أو تأخر برء
(4)
، أو كثرة الألم وإن لم تطل مدته، أو خاف من حدوث تشوّه في أعضائه الظاهرة كالوجه واليدين ونحوهما.
وهذا النوع اختلف الفقهاء في حكم التيمم له، وذلك على قولين:
القول الأول: أنه يجوز له التيمم، وهو قول الحنفية والمالكية، والصحيح عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة هي الصحيح من المذهب
(5)
.
(1)
المجموع (2/ 228).
(2)
الحاوي (2/ 1073)، المجموع (2/ 228).
(3)
المصدران السابقان، والمغني (1/ 336).
(4)
تأخر برء: أي تأخر العافية، وإن لم يزد مقدار المرض والألم. التنقيح للنووي (1/ 370).
(5)
بدائع الصنائع (1/ 318)، الاختيار (1/ 28)، قوانين الأحكام الشرعية (ص 52)، مواهب الجليل (1/ 489)، المهذب (1/ 134)، المجموع (2/ 228، 229)، مغني المحتاج (1/ 254)، المسائل الفقهية (1/ 92)، الفروع (1/ 275)، الإنصاف (1/ 254).
القول الثاني: أنه لا يجوز له التيمم إلا عند الخوف من التلف، وهو قول للشافعية، ورواية عند الحنابلة
(1)
.
سبب الخلاف:
يرجع سبب الخلاف في هذه المسألة إلى أمرين:
الأمر الأول: اختلاف الفقهاء في الخوف المبيح للتيمم، هل هو خوف التلف، أم خوف الضرر؟ فمن رأى أن الخوف المبيح للتيمم هو خوف التلف قال: بعدم جواز التيمم لمن يخاف من استعمال الماء زيادة مرض أو تأخر برء، ومن رأى أن الخوف المبيح للتيمم هو خوف الضرر قال: بجواز التيمم لمن خاف زيادة المرض أو تأخر البرء.
الأمر الثاني: اختلافهم في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ
…
} الآية، هل في الآية محذوف مقدر أم لا؟
فمن رأى أن في الآية محذوف مقدر، وأن تقدير الكلام: وإن كنتم مرضى لا تقدرون على استعمال الماء، وأن مرجع الضمير في قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} إنما يعود على المسافر فقط، أجاز التيمم للمريض الذي يخاف من استعمال الماء.
(1)
المصادر السابقة للشافعية والحنابلة.
ملاحظة: ذكر المرداوي في الإنصاف أن القول بأن التيمم لا يجوز للمريض إلا عند الخوف من التلف من مفردات المذهب، وهو ـ كما اتَّضح ـ ليس كذلك، حيث إنه أيضًا أحد قولي الشافعية، وروي ذلك أيضًا عن مالك ولكنها رواية شاذة. انظر: شرح التلقين (1/ 278)، مواهب الجليل (1/ 489).
ومن رأى أن الضمير في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يعود على المريض والمسافر معًا، وأنه ليس في الآية حذف لم يجز للمريض إذا وجد الماء التيمم
(1)
.
أدلة القول الأول:
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ .. } الآية [النساء: 43، المائدة: 6].
(1)
بداية المجتهد (1/ 131).
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه وتعالى أباح التيمم للمريض مطلقًا من غير فصل بين مرض ومرض، إلا أن المرض الذي لا يضر منه استعمال الماء ليس بمراد، فبقي المرض الذي يضر معه استعمال الماء مرادًا بالنص
(1)
.
واستدلوا أيضًا بأدلة من قال بجواز التيمم في المرض الشديد الذي يخاف معه من استعمال الماء الموت أو التلف، وقد تقدمت
(2)
.
أدلة القول الثاني:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ .. } الآية [النساء: 43، المائدة: 6].
وجه الدلالة:
أن الضمير في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يعود على المريض والمسافر معًا، فالآية قيدت إباحة التيمم للمريض بعدم وجود الماء، وهذا واجد للماء، فلا يجوز له التيمم
(3)
.
المناقشة:
نوقش بأنه استدلال لا يصح؛ لأن من لم يجد الماء فالتيمم له جائز لعدمه الماء لا لأجل المرض، وإنما خص المريض بالذكر ليُخص بالحكم، فيكون بمرضه في جواز التيمم مخالفًا للصحيح، سواء وجد الماء أو عدمه، وإلا فهو داخل في جملة المحدثين إذا عدموا الماء مسافرين وغيرهم
(4)
.
وعلى فرض التسليم بأن الضمير في الآية يعود على المريض والمسافر معًا، فإن معنى عدم الوجود في الآية هو عدم الماء حسًا أو حكمًا، والمريض وإن كان واجدًا للماء صورة إلا أنه لما لم يتمكن من استعماله خشية الضرر صار الماء معدومًا حكمًا، فجاز له التيمم.
ثانيًا: من المعقول:
أن المريض الذي لا يخاف التلف من استعمال الماء لا يجوز له أن يتيمم كالذي به صداع أو حمى
(5)
.
(1)
بدائع الصنائع (1/ 318، 319).
(2)
انظر: (ص 124 ـ 129).
(3)
المهذب (1/ 134)، بداية المجتهد (1/ 131).
(4)
عيون الأدلة (ص 957).
(5)
الحاوي (2/ 1076).
المناقشة:
نوقش من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن التلف ليس شرطًا للتيمم، وإنما شرطه انعدام الماء حقيقة أو حكمًا
(1)
.
الوجه الثاني: أن ترك القيام في الصلاة، وتأخير الصيام، لا ينحصر في خوف التلف، فكذا هاهنا
(2)
.
الوجه الثالث: أن القياس غير صحيح؛ لأن المحموم أو من به صداع إذا خاف أحدهما من استعمال الماء زيادة المرض فهو مسألة الخلاف، وأما إذا لم يخف أحدهما من استعمال الماء فهو كالصحيح، فلا معنى للقياس عليه
(3)
.
الترجيح:
الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول القائل بجواز التيمم لمن كان مرضه يسيرًا، ولكن يخاف معه حدوث علة أو زيادتها بكثرة الألم أو بطء برء عند استعماله للماء، وذلك لما يلي:
1 ـ لقوة أدلة هذا القول، وإفادتها المراد، وسلامتها من الاعتراضات القادحة فيها.
(1)
طهارة أصحاب الأعذار المرضية للصلاة في الشريعة د. محمد أبو يحيى (ص 304)، ط: مجلة دراسات، الجامعة الأردنية، المجلد العشرون 1414 هـ.
(2)
المغني (1/ 336).
(3)
التجريد (1/ 256)، الانتصار (1/ 453).
2 ـ مناقشة أدلة القول الثاني.
3 ـ أن هذا القول يتفق مع مقاصد الإسلام العظيمة في التيسير على المكلفين، ورفع الحرج والمشقة عنهم، فإن المريض إذا خشي من استعمال الماء زيادة في مرضه أو طول مدته، جاز له التيمم لما في ذلك من الضيق والحرج، والله عز وجل يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].