الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالظاهر أنه نرلها. وهذا الذي قال به جمهور أهل العلم. وقد وصفت هذه المائدة بأوصاف لا دليل عليها من الكتاب والسنة الصّحيحة، وإنما هي أقوال الناس.
وأما كون قصة المائدة لم تذكر في الأناجيل الموجودة، فلا غرابة في ذكرها في القرآن؛ لأنه الإنجيل الذي أنزله اللَّه تعالى على عيسى عليه السلام ضيّعه النصارى في بداية عهدهم بعد تغلغل أفكار بولس في المجتمع النصراني.
وأما الأناجيل الموجودة فالصحيح أنها أشبه بالسيرة لنبي اللَّه عيسى عليه السلام، ويُعرف من خطبه ومواعظه أنه كان يُبشّر بالانجيل الذي ضئعه النصارى. انظر على سبيل المثال: انجيل مرقس (1: 15).
قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} عطف على قوله {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} وهو يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون اللَّه. وليس مما قاله في الدنيا عند الرفع كما قال به بعض المفسرين. ومن المعلوم أن عبادة عيسى عليه السلام حدثت بعد رفعه بزمان. فصلتُ القول في ذلك في كتابي: "اليهودية والمسيحية" فراجعه. وشُبهتهم في ذلك لفظ "إذ" فإنه يستعمل للماضي، وهذا صحيح لا شك فيه، ولكن في كتاب اللَّه تعالى ذكر كثير من أمور يوم القيامة بلفظ الماضي لتحقق وقوعها.
وقوله: أي يا رب ما قلت لهم إلّا ما أمرتني به من إفرادك بالتوحيد والعبادة. وكنت عليهم شاهدا ما يفعلونه، فكنت أعلمهم إن أخطأوا. فلما وفّيت أجلي في الدنيا، ورفعتني إليك حيا، كنت أنت المطلع على أعمالهم الظاهرة والباطنة؛ لأنه لاتخفى عليك خافية في الأرض، ولا في السماء. وقد جاء في الصحيح:
• عن ابن عباس قال: خطب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إنكم محشورون إلى اللَّه حفاة عراة غرلا" ثم قال: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] إلى آخر الآية 30 قال: "ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم. ألا! وإنه يجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ
وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم".
متفق عليه: رواه البخاريّ في التفسير (4625)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (56: 2860) كلاهما من طريق شعبة، أخبرنا المغيرة بن النعمان، قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: فذكره واللفظ للبخاري.
وفيه دلائل واضحة بأن ألوهية المسيح وقعتْ في النصرانية بعد رفع المسيح عليه السلام، وأنه لم يدّع لنفسه الألوهية قط.
وقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فيه تسليم للأمر كله إلى اللَّه عز وجل، وقوله: إنْ كان فيه طلب المغفرة لهم فذلك يعود إلى لين طبيعة عيسى عليه السلام إِلَّا أنه فوّض الأمر إلى اللَّه عز وجل، ولذا ختمت الآية بقوله:{فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وهذا مثل استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه تعالى للاستغفار لأمه شفقة عليها إِلَّا أنه لم يؤذن له لذلك.