الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا تعظيم شعائر الله وإظهارها، وعلم الناس بأن هذه قرابين الله عز وجل تساق إلى بيته، تذبح له، ويتقرب بها إليه عند بيته، كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته، عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلون لها، فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم لله وحده، وأن يظهروا شعائر توحيده غاية الإظهار، ليعلو دينه على كل دين: فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بالإشعار على وفقها؛ ولله الحمد ".
(
[بيان حكم من بعث بهديه] :)
(ومن بعث بهدي لم يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم) : لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدي من المدينة، ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم.
أقول: هذا آخر كلام الماتن على أحكام الحج.
(
[بيان حكم الحج عن الميت] :)
وأما الحج عن الميت والاستئجار له؛ فاعلم أن الحج من الواجبات المتعلقة ببدن المكلف، والظاهر في الواجبات البدنية أنها لا تلزم بعد رفع قلم التكليف، وانتقال المكلف من هذه الدار التي هي دار التكاليف إلى دار الآخرة؛ لأنه لم يبق من طلب منه الفعل، فمن قال: إنه يلزم الميت الإيصاء بشيء من الواجبات البدنية بأن يفعل عنه غيره بعد موته؛ لم يقبل إلا بدليل.
أو قال: من تبرع عن ميت بفعل واجب بدني أجزأه؛ لم يقبل ذلك منه إلا بدليل.
وقد ورد الدليل في أمور، منها الصوم؛ لحديث:" من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه "، ولكن ليس في هذا الحديث وجوب على الميت، بل الإيجاب على الولي (1)، وغاية ما يستفاد من قوله:" صام عنه "؛ أنه يجزىء ذلك الصوم عن الميت.
وأما الحج؛ فلم يرد ما يدل على وجوب الوصية على الميت به، بل ورد ما يدل على وقوع الحج من القريب عن قريبه الميت؛ كما في حديث من نذرت أخته أن تحج، فماتت قبل أن تحج (2) ، وكذلك ورد ما يدل على وقوع الحج من الولد لأبيه، إذا كان في الحياة عاجزا عن الإتيان بالفريضة؛ كما في خبر الخثعمية.
(1) وليس فيه أيضا إيجاب على الولي كما قدمنا. (ش)
• ولكن الحديث الذي أفاده ذلك ضعيف؛ كما قدمناه أيضا (ص 23) . (ن)
(2)
• روى البخاري (11 / 495) ، والبيهقي (5 / 179) من حديث ابن جبير، عن ابن عباس، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لو كان عليها دين؛ أكنت قاضيه؟ "، قال: نعم، قال:" فاقض لله؛ فهو أحق بالقضاء ".
لكن ذكر الأخت في الحديث شاذ؛ ففي رواية أخرى للبخاري (4 / 52) وغيره من هذا الوجه: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت
…
الحديث.
قال الحافظ تحت هذه الرواية: " كذا رواه أبو بشر، عن سعيد بن جبير، من رواية أبي عوانة عنه، وسيأتي في (النذور) من طريق شعبة، عن أبي بشر، بلفظ: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أختي نذرت
…
، فإن كان محفوظا؛ احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته، والبنت سألت عن أمها
…
".
ثم إن في الحديث اختلافا آخر؛ وهو: هل السائل والمسؤول عنه رجل أو امرأة؟ وقد ساق الحافظ طرق الحديث وألفاظه، وبين ما فيها من الاختلاف، ثم قال:
" والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق: أن السائل رجل، وكانت ابنته معه، فسألت أيضا، والمسؤول عنه؛ أبو الرجل وأمه معا ". (ن)
وأما إيجاب الوصية بالحج، أو أنه يجزىء من كل أحد عن كل ميت: فلا دليل على ذلك فيما أعلم.
نعم؛ إذا أوصى بالحج بنصيب من ماله؛ فقد جعل الله له ثلث ماله في آخر عمره يتصرف به كيف يشاء؛ ما لم يكن ضرارا؛ فالموصي بالحج كأنه أوصى بنصيب من ماله المأذون له بالتصرف في ثلثه، فيجب امتثال وصيته.
وأما كون ذلك يسقط الواجب على الميت؛ فمحل تردد عندي، ولا سيما إذا كان الذي حج عنه ليس من قرابته (1) ؛ فإن القرابة لها تأثير في القيام ببعض الواجبات البدنية من الحي عن الميت؛ كما في حديث:" صام عنه وليه "، وكما في حديث الذي نذرت أخته أن تحج.
وأما حديث: " حج عن نفسك، ثم عن شبرمة "(2) : فهو - وإن كان في بعض " السنن " -؛ لكن لم يصرح فيه بأن الملبي عن شبرمة كان أجنبيا عنه، بل ورد في رواية: وهو أخ له أو صديق؛ ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال.
وفي لفظ؛ أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " من شبرمة؟ "، قال: أخ لي أو قريب لي؛ وقد أخرج هذه الرواية البيهقي.
والظاهر: أن اعتناءه به، وتلبيته عنه، وطيبة نفسه بأن يكون حجه له؛
(1) • قلت: ولا سيما إذا كان المحجوج عنه مقصرا في حياته؛ أعني أنه استطاع أن يحج، ولم يحج. (ن)
(2)
• قلت: هذا الحديث قد اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه، والحق؛ أنه صحيح لطرقه وشواهده؛ وقد جمعتها في رسالة. (ن)
للقرابة بينهما؛ إذ من البعيد أن يفعل ذلك لغير من بينه وبينه قرابة؛ ثم ليس في الحديث أن شبرمة هذا قد كان مات إذ ذاك.
وأما ما رواه الثعلبي في " تفسيره " بلفظ: " من أوصى بحجة؛ كانت أربع حجج، وحجة للذي كتبها "؛ فمع كونه غير مرفوع؛ لا يدرى كيف إسناده؟ والثعلبي ليس من أهل الرواية، فقد روى في " تفسيره " الموضوعات.
وقد أخرج البيهقي مثل ما ذكره عن جابر مرفوعا، كما ذكره صاحب التخريج؛ فينظر في سنده؛ فما أظنه يصح (1) .
والحاصل: أن هذا البحث طويل الذيول، متشعب الحجج والنقول، فمن رام العثور على الصواب؛ فعليه ب " الفتح الرباني فتاوى الشوكاني "، و " دليل الطالب على أرجح المطالب "؛ لهذا العبد الضعيف.
وليس مقصودنا هنا إلا التنبيه على الحق الحقيق بالقبول؛ وإن أباه أكثر العقول.
وحديث: " فدين الله أحق أن يقضى "؛ ليس المراد به دفع الأجرة لمن
(1) • قلت: قد أصاب رحمه الله؛ فإنه عند البيهقي (5 / 180) من طريق أبي معشر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر؛ بلفظ آخر؛ وقال:" أبو معشر - هذا -؛ نجيح السندي: مدني ضعيف ".
وفيه علة أخرى؛ من أجلها أورده ابن الجوزي في " الموضوعات "، ولكنها في الحقيقة ليست بعلة؛ انظر كلامنا على الحديث:" إن الله يدخل بالحجة الواحدة. . " في كتابي " معجم الحديث ".
وقد رواه البيهقي من حديث أنس أيضا، ولفظه أقرب إلى لفظ الثعلبي، وصرح بضعف إسناده؛ وقد أوردته في الكتاب المشار إليه، فأغنى عن إعادته. (ن)
يحج، بل المراد أن الحج عن الوالد يصح من الولد؛ كما يصح منه قضاء الدين.
ولا يرد على هذا أن اللفظ عام والاعتبار به؛ لأنا نقول: العموم ليس هو إلا باعتبار فعل فريضة الحج، لا باعتبار دفع المال لمن يحج؛ فهذا لم يرد به دليل، فعرفت بهذا أن ما يوصي به الميت من أجرة من يحج عنه؛ يكون خارجا من ثلثه المأذون به له.
وأما من قال بوجوب الوصية على من لم يحج؛ فكان قياس قوله؛ أن تكون الأجرة الموصى بها من رأس المال؛ لأن وجوب الوصية فرع وجوب الأجرة في مال الموصي، ولا فرق بين وجوب مثل الأجرة من ماله، وبين وجوب مثل الزكاة.
وأما ما يذكرونه من الفرق بين ما يتعلق بالمال ابتداء وانتهاء، وبين ما يتعلق بالبدن ابتداء وبالمال انتهاء: فشيء لا مستند له، ولا معول عليه.