الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالث: انفراد الأب بنفقة أولاده.
الرابع: أن الزوج والأب إذا لم يبذل النفقة الواجبة عليه؛ فللزوجة والأولاد أن يأخذوا قدر كفايتهم بالمعروف.
الخامس: أن المرأة إذا قدرت على أخذ كفايتها من مال زوجها؛ لم يكن لها إلى الفسخ سبيل.
السادس: أن ما لم يقدره الله - تعالى - ورسوله من الحقوق الواجبة؛ فالمرجع فيه إلى العرف.
السابع: أن من منع الواجب عليه، وكان سبب ثبوته ظاهرا؛ فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه؛ كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هندا ". انتهى حاصله.
(
[النفقة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص] )
أقول: هذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص، فنفقة زمن الخصب؛ المعروف فيها غير المعروف في زمن الجدب، ونفقة أهل البوادي؛ المعروف فيها ما هو الغالب عندهم، وهو غير المعروف من نفقة أهل المدن، وكذلك المعروف من نفقة الأغنياء على اختلاف طبقاتهم غير المعروف من نفقة الفقراء، والمعروف من نفقة أهل الرياسات والشرف غير المعروف من نفقة أهل الوضاعات.
فليس المعروف المشار إليه في الحديث هو شيء متحد؛ بل مختلف باختلاف الاعتبار، وقد أوضحت المقام في كتابي " دليل الطالب "، فليراجع.
وقال الماتن رحمه الله في " الفتح الرباني " في جواب سؤال في الفرض للزوجة ونحوها ما لفظه:
" قد اختلفت المذاهب في تقدير النفقة بمقدار معين وعدم التقدير:
فذهب جماعة من أهل العلم - وهم الجمهور - إلى أنه لا تقدير للنفقة إلا بالكفاية، وقد اختلفت الرواية عن الفقهاء؛ فقال الشافعي: على المسكين والمتكسب مد، وعلى الموسر مدان، وعلى المتوسط مد ونصف.
وقال أبو حنيفة: على الموسر سبعة دراهم إلى ثمانية في الشهر، وعلى المعسر أربعة دراهم إلى خمسة.
قال بعض أصحابه: هذا التقدير في وقت رخص الطعام، وأما في غيره فيعتبر بالكفاية ". انتهى.
والحق: ما ذهب إليه القائلون بعدم التقدير؛ لاختلاف الأزمنة والأمكنة، والأحوال والأشخاص؛ فإنه لا ريب أن بعض الأزمنة قد يكون أدعى للطعام من بعض، وكذلك الأمكنة؛ فإن بعضها قد يعتاد أهله أن يأكلوا في اليوم مرتين، وفي بعضها ثلاثا، وفي بعضها أربعا.
وكذلك الأحوال؛ فإن حالة الجدب تكون مستدعية لمقدار من الطعام أكثر من المقدار الذي تستدعيه حالة الخصب.
وكذلك الأشخاص؛ فإن بعضهم قد يأكل الصاع فما فوقه، وبعضهم قد يأكل نصف صاع، وبعضهم دون ذلك.
وهذا الاختلاف معلوم بالاستقراء التام، ومع العلم بالاختلاف؛ يكون التقدير على طريقة واحدة ظلما وحيفا.
ثم إنه لم يثبت في هذه الشريعة المطهرة التقدير بمقدار معين قط؛ بل كان صلى الله عليه وسلم يحيل على الكفاية مقيدا لذلك بالمعروف؛ كما في حديث عائشة عند البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وأحمد ابن حنبل، وغيرهم: أن هندا قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؛ إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ فقال:" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
فهذا الحديث الصحيح؛ فيه الإحالة على الكفاية مع التقييد بالمعروف، والمراد به الشيء الذي يعرف، وهو خلاف الشيء الذي ينكر، وليس هذا المعروف الذي أرشد إليه الحديث شيئا معينا، ولا المتعارف بين أهل جهة معينة؛ بل هو في كل جهة باعتبار ما هو الغالب على أهلها، المتعارف بينهم.
مثلا؛ أهل صنعاء؛ المتعارف بينهم الآن أنهم ينفقون على أنفسهم وأقاربهم الحنطة والشعير والذرة، ويعتادون الإدام سمنا ولحما، فلا يحل أن يجعل طعام من تجب نفقته من طعام غير الثلاثة الأجناس المتقدمة: كالعدس، والفول، ولا من الشعير، والذرة فقط، ولا بدون إدام، ولا بإدام غير المعتاد كالزيت، والتلبينة، ونحو ذلك؛ فإن ذلك جميعه؛ وإن كان يصدق عليه لفظ الكفاية؛ لكنه لا يصدق عليه معنى المعروف، والعمل بالمطلق وإهمال قيده لا يحل.
وأما أهل البوادي المتصلة بصنعاء - والقريبة منها بمقدار بريد ودونه
وفوقه -؛ فالمعروف عندهم هو الكفاية من أي طعام كان؛ من غير سمن، ولا لحم؛ إلا في أندر الأحوال؛ بل يكتفون تارة بالتلبينة، وتارة بما يقوم مقامها.
فالمتوجه شرعا على من وجبت عليه النفقة؛ أن يدفع إلى من كان في مثل صنعاء ما هو المعروف لديهم مما قدمنا، وإلى من كان في البوادي ما قدمنا مما هو المعروف لديهم، ويعتبر في كل محل بعرف أهله، ولا يحل العدول عنه إلا مع التراضي.
وكذلك الحاكم يجب عليه مراعاة المعروف بحسب الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والأشخاص؛ مع ملاحظة حال الزوج في اليسار والإعسار؛ لأن الله - تعالى - يقول:{على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} .
وإذا تقرر لك أن الحق عدم جواز تقدير الطعام بمقدار معين؛ فكذلك لا يجوز تقدير الإدام بمقدار معين، بل المعتبر الكفاية بالمعروف.
وقد حكى صاحب " البحر " أنه قد قدر في اليوم أوقيتان دهنا من الموسر، ومن المعسر أوقية، ومن المتوسط أوقية ونصف.
وفي " شرح الإرشاد ": أنه يعتبر في الإدام تقدير القاضي باجتهاده عند التنازع، فيقدر في المد من الإدام ما يكفيه، ويقدر على الموسر ضعف ذلك، وعلى المتوسط بينهما، ويعتبر في اللحم عادة البلد للموسرين والمتوسطين كغيرهم.
قال الرافعي: وقد تغلب الفاكهة في أوقاتها فتجب.
ثم قال: وإنما يجب ما ذكر لزوجته إن لم تواكله حال كونها رشيدة، فإن
واكلته وهي رشيدة سقطت نفقتها؛ ثم ذكر كلاما طويلا.
وأقول: المرجع ما هو معروف عند أهل البلد في الإدام جنسا، ونوعا، وقدرا، وكذلك في الفاكهة، لا يحل الإخلال بشيء مما يتعارفون به؛ إن قدر من تجب عليه النفقة على ذلك، وكذلك ما يعتاد من التوسعة في الأعياد ونحوها، ويدخل في ذلك مثل القهوة والسليط (1) .
وبالجملة؛ فقد أرشد الشارع إلى ما هو معروف من الكفاية، وليس بعد هذا الكلام الجامع المفيد شيء من البيان.
وأما ما أجاب به عن الحديث بعض من لم يتمرن بعلم الأدلة، ولم يتدرب بمسالك الاجتهاد؛ من أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم على طريقة الحكم؛ بل على طريقة الإفتاء؛ فهذه غفلة كبيرة، وبعد عن الحقيقة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفتي إلا بما هو حق وشرع.
وقد تقرر أن السنة: أقواله، وأفعاله، وتقريراته؛ لا مجرد أحكامه فقط التي تكون بعد الخصومة وحضور المتخاصمين، ولو كانت السنة ليست إلا الأحكام الكائنة على تلك الصفة؛ لم يبق منها حجة على العباد إلا أقل من عشر معشارها؛ لأن صدور الحكم منه صلى الله عليه وسلم على تلك الصفة؛ إنما وقع في قضايا محصورة؛ كقضية الحضرمي، والزبير، وعبد بن زمعة، والمتلاعنين.
فإن قلت: ما وجه ما يفعله كثير من القضاة في هذه الأزمنة؛ من تقدير
(1) • الزيت الجيد.
وفي " النهاية "(2 / 389) لابن الأثير: " دهن الزيت؛ وهو عند أهل اليمن دهن السمسم ". (ن)
النفقة بقدح من الطعام متنوعا؟
قلت: هو من تقدير الكفاية بالمعروف؛ لأن القدح يكفي غالب الأشخاص شهرا؛ لا سيما في مثل صنعاء، فيكون للشخص في كل يوم نصف صاع، يأتي المجموع في ثلاثين يوما خمسة عشر صاعا، وهي قدح ينقص صاعا.
فهذا فيه ملاحظة للمعروف باعتبار الغالب، ولكن إذا انكشف أنه لا يكفي؛ بأن يكون الشخص أكولا؛ فلا يحل العمل بذلك الغالب؛ لأن فيه إهمالا لما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من الكفاية، وهذا ليس فيه كفاية.
فالحاصل: أنه لا بد من ملاحظة أمرين:
أحدهما: الكفاية.
والثاني: كونها بالمعروف.
فإذا عُلم مقدار الكفاية؛ كان المرجع في صفاتها إلى المعروف، وهو الغالب في البلد، وإذا لم يُعلم حال الشخص في مقدار ما يكفيه، أو وقع الاختلاف بينه وبين من يجب عليه إنفاقه؛ كان القول قول من يدعي ما هو المتعارف به.
مثلا؛ إذا قال من له النفقة: لا يكفيه إلا قدحان، وقال من عليه النفقة: قدح؛ كان القول قول من عليه النفقة؛ بكونه مدعيا لما هو الغالب في العادة، وإذا تبين حال من له النفقة، وجب الرجوع إلى ذلك؛ لما عرفناك من أنه لا
يحل الوقوف على مقدار معين على طريق القطع والبت.
ثم الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "؛ أن ذلك غير مختص بمجرد الطعام والشراب؛ بل يعم جميع ما يُحتاج إليه، فيدخل تحته الفضلات التي قد صارت بالاستمرار عليها مألوفة؛ بحيث يحصل التضرر بمفارقتها، أو التضجر، أو التكدر، ويختلف ذلك بالأشخاص، والأزمنة، والأمكنة، والأحوال، ويدخل فيه الأدوية ونحوها، وإليه يشير قوله - تعالى -:{وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ؛ فإن هذا نص في نوع من أنواع النفقات؛ أن الواجب على من عليه النفقة رزق من عليه إنفاقه، والرزق يشمل ما ذكرناه.
قال في " الانتصار ": ومذهب الشافعي: لا تجب أجرة الحمام وثمن الأدوية وأجرة الطبيب؛ لأن ذلك يراد لحفظ البدن؛ كما لا يجب على المستأجر أجرة إصلاح ما انهدم من الدار.
وقال في " الغيث ": " الحجة أن الدواء لحفظ الروح؛ فأشبه النفقة ". انتهى.
قلت: هو الحق؛ لدخوله تحت عموم قوله: " ما يكفيك "، وتحت قوله:{رزقهن} ؛ فإن الصيغة الأولى عامة باعتبار لفظ ما، والثانية عامة لأنها مصدر مضاف، وهي من صيغ العموم، واختصاصه ببعض المستحقين للنفقة لا يمنع من الإلحاق.
وبمجموع ما ذكرناه؛ يتقرر لك أن الواجب على من عليه النفقة لمن له النفقة؛ هو ما يكفيه بالمعروف، وليس المراد تفويض أمر ذلك إلى من له