الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن حجه صلى الله عليه وسلم كان قرانا.
أقول: قد روى الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم أربعة عشر رجلا من الصحابة.
وأما قول أبي ذر؛ فليس بحجة على أحد؛ لأنه رأي صحابي فيما للاجتهاد فيه مسرح.
والحاصل: أن هذا البحث يطول الكلام عليه جدا، فمن رام العثور على الصواب؛ فعليه ب " شرح المنتقى "، أو ب " الهدي النبوي " للحافظ ابن القيم رحمه الله.
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " أفتى صلى الله عليه وسلم بجواز فسخهم الحج إلى العمرة، ثم أفتاهم باستحبابه، ثم أفتاهم بفعله حتما، ولم ينسخه شيء بعده، وهو الذي ندين الله به؛ أن القول بوجوبه أقوى وأصح من القول بالمنع منه.
وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال: " من لم يكن أهدى؛ فليهل بعمرة، ومن أهدى؛ فليهل بحج ثم مع عمرة ".
وأما ما فعله هو: فإنه صح عنه أنه قرن بين الحج والعمرة من بضع وعشرين رواية عن ستة وعشرين نفسا من أصحابه، ففعل القران وأمر بفعله من ساق الهدي، وأمر بفسخه إلى التمتع من لم يسق الهدي، وهذا من فعله وقوله؛ كأنه رأي عين؛ وبالله التوفيق ".
(
[توضيح ما يتعلق بحج الرسول صلى الله عليه وسلم] :)
فإن قيل: كيف وقع اختلاف بين الصحابة - رضي الله تعالى
عنهم - في صفة حجته صلى الله عليه وسلم؛ وهي حجة واحدة، وكل واحد منهم يخبر عن مشاهدة في قصة واحدة؟
قلت: قال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث؛ فمن مجد منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصر مختصر.
قال: وأوسعهم في ذلك نفسا؛ أبو جعفر الطحاوي الحنفي، فإنه تكلم في ذلك في زيادة على ألف ورقة، وتكلم معه في ذلك أيضا أبو جعفر الطبري، ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة، ثم المهلب، والقاضي أبو عبد الله بن المرابط، والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي، والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم.
قال القاضي عياض: وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم، واخترناه من اختياراتهم، مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة؛ ليدل على جواز جميعها، ولو أمر بواحد لكان غيره يظن أنه لا يجزئ، فأضيف الجميع إليه، وأخبر كل واحد بما أمره به، وأباحه له، ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إما لأمره وإما لتأويله عليه. انتهى.
أقول: إنما ذكر المختلفون في أفضل الأنواع نوع حجته صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يقولون: إن النوع الذي اختاره صلى الله عليه وسلم لنفسه لا يكون إلا فاضلا، ولا سيما والتلبية كانت عن وحي من الله عز وجل؛ كما في حديث: أنه نزل جبريل فقال: " قل: لبيك بحجة وعمرة ".
وقد اختلف في نوع حجته صلى الله عليه وسلم، والحق أنه قران كما قرر الماتن ذلك في " شرح المنتقى "، ولكنه قال بعد ذلك:" لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة "، يعني: كما فعل أصحابه صلى الله عليه وسلم عن أمره، وهذا الحديث متفق على صحته كما تقدم، فدل على أن التمتع أفضل من القران بلا ريب.
ولا اعتبار بقول من قال: إنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك تطييبا لقلوب أصحابه؛ حيث حجوا تمتعا لعدم الهدي؛ لأن المقام مقام تشريع، لا مقام جبر خواطر، وتطييب قلوب، فالحق أن التمتع أفضل.
وأما أنه متعين لا يجوز غيره - كما رجحه ابن القيم رحمه الله، وأطال الكلام في تقريره -؛ فلا (1) .
قال في " التكميل ": " اختلفوا في نسك النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان مفردا للحج، أو قارنا، أو متمتعا سائق الهدي؟ ووجه التطبيق: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جمع الناس، وخرج من المدينة المنورة إلى مكة المعظمة؛ كان لا ينوي إلا الحج، فلما بات بذي الحليفة في العقيق؛ أُمر بالقران، فقال: " لبيك بحجة وعمرة "، فلما دخل مكة، وتذكر جهالة العرب أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وعرف أنه في آخر عمره ولا يعيش إلى قابل؛ أراد رد هذا الوهم بأبلغ وجه، فأمر الناس بفسخ إحرام الحج وجعله عمرة، وقال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سقت الهدي، وأحللت مع الناس كما حلوا "، فكان مفردا بحسب ابتداء النية والشهرة، وقارنا بحسب تلبيته من
(1) • التمتع أفضل فقط؛ ولا يتعين. (ن)
قلت: ويُنظر كتاب " حجة النبي صلى الله عليه وسلم "(ص 10 - 20) لشيخنا؛ لتحرير المسألة
العقيق؛ حيث أُمر: " صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة "، وكان متمتعا سائق الهدي بحسب الهم والرغبة، ولم ينقل تجديد الإحرام للحج يوم التروية، نعم؛ عُرف تجديد التلبية عند إنشاء السفر إلى عرفة من منى، فكان قارنا حقيقة، مفردا في أول الأمر، متمتعا في آخره ". انتهى.
قال في " المسوى ": " والتحقيق في هذه المسألة: أن الصحابة لم يختلفوا في حكاية ما شاهدوه من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من أنه أحرم من ذي الحليفة، وطاف أول ما قدم، وسعى بين الصفا المروة، ثم خرج يوم التروية إلى منى، ثم وقف بعرفات، ثم بات بمزدلفة، ووقف بالمشعر الحرام، ثم رجع إلى منى، ورمى، ونحر، وحلق، ثم طاف طواف الزيارة، ثم رمى الجمار في الأيام الثلاثة؛ وإنما اختلفوا في التعبير عما فعل باجتهادهم وآرائهم.
فقال بعضهم: كان ذلك حجا مفردا، وكان الطواف الأول للقدوم، والسعي لأجل الحج، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنه قصد الحج.
وقال بعضهم: كان ذلك تمتعا بسوق الهدي، وكان الطواف الأول للعمرة، كأنهم سموا طواف القدوم والسعي بعده عمرة، وإن كان للحج، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنه كان متمتعا بسوق الهدي.
وقال بعضهم: كان ذلك قرانا، والقران لا يحتاج إلى طوافين وسعيين.
وهذا الاختلاف سبيله سبيل الاختلاف في الاجتهاديات.
أما أنه سعى تارة أخرى بعد طواف الزيارة - سواء قيل بالتمتع أو القران -؛ فإنه لم يثبت في الروايات المشهورة، بل ثبت عن جابر أنه لم يسع بعده ". انتهى.
قال النووي في " شرح صحيح مسلم ": " وأما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه؛ فأخذ بالأفضل، فأحرم مفردا للحج، وبه تظاهرت الروايات الصحيحة، وأما الروايات بأنه كان متمتعا؛ فمعناها: أمر به، وأما الروايات بأنه كان قارنا؛ فإخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء إحرامه، بل إخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلل من حجهم، وقلبه إلى عمرة لمخالفة الجاهلية؛ إلا من كان معه هدي، وكان هو صلى الله عليه وسلم ومن معه هدي في آخر إحرامهم قارنين؛ يعني: أنهم أدخلوا العمرة على الحج؛ وفعل ذلك مواساة لأصحابه، وتأنيسا لهم في فعلها في أشهر الحج، لكونها كانت منكرة عندهم في أشهر الحج؛ ولم يمكنه التحلل معهم بسبب الهدي، واعتذر إليهم بذلك في ترك مواساتهم، فصار النبي صلى الله عليه وسلم قارنا في آخر أمره، وقد اتفق جمهور العلماء على جواز إدخال الحج على العمرة، وشذ بعض الناس فمنعه ". انتهى.
(ويكون الإحرام) ؛ وهو في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة، فيه تصوير الإخلاص والتعظيم، وضبط عزيمة الحج بفعل ظاهر، وفيه جعل النفس متذللة خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة، وأنواع التجمل، وفيه تحقيق معاناة التعب والتشعث والتغير لله.
أقول: وليس في إيجاب الإحرام - على غير من دخل لأحد النسكين - دليل.
أما الآية - أعني: قوله - تعالى -: {وإذا حللتم فاصطادوا} -؛ فإنها بيان لما حرمه عليهم من الصيد حال الإحرام، في قوله تعالى -: {إلا ما يتلى