الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - نظرية الظروف الطارئة:
لقد نشأت هذه النظرية في نطاق القضاء الإداري، ثم تسللت إلى ميدان الحقوق الخاصة. وهي في أصلها تقوم على فكرة إسعاف المتعاقد المنكوب الذي اختل توازن عقده اقتصادياً مما قد يجره إلى الهلاك، فهي تهدف إلى تحقيق العدالة في العقود ورفع الغبن منها (1). والمصدر الأساسي لهذه النظرية هو مبدأ العدالة الذي يقضي بإزالة الإرهاق عن المدين، بسبب ظرف طارئ، لم يكن يتوقعه عند إبرام العقد (2).
وأخذ بهذه النظرية القانون المدني السوري، فنص في المادة (1/ 148) على ما يلي:«العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون» .
وأردفتها الفقرة الثانية من هذه المادة، فقررت «ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك» .
النص الثاني يدل على أنه، وإن كان الأصل العام في القواعد المدنية التقليدية شريعةالمتعاقدين (أو أن المتعاقد عبد عقده)، وأنه ليس للقاضي أن يعدل في العقد، فإن وجود الظرف الطارئ يجيز للقاضي إجراء هذا التعديل.
وبهذا النص قيد القانون من سلطان الإرادة عند تنفيذ العقد، فجعل نظرية
(1) راجع كتابنا نظرية الضرورة الشرعية: ص 310 ومابعدها.
(2)
نظرية الظروف الطارئة للدكتور الترمانيني: ص 106.
الحوادث الطارئة وقت هذا التنفيذ تقابل نظريتي الاستغلال والإذعان وقت تكوين العقد.
أخذ القانون المدني بهذه النظرية استناداً إلى نظرية الضرورة في الشريعة الإسلامية، وهي ـ كما قال الدكتور السنهوري (1) ـ نظرية فسيحة المدى، خصبة النتائج، تتسع لنظرية الظروف الطارئة؛ لأن الضرورة توجب إزالة الضرر، ولها تطبيقات كثيرة منها نظرية العذر في فسخ الإيجار، وإنقاص الثمن بسبب الجوائح في بيع الثمار.
أما فسخ الإجارة بالأعذار، فقد أجازه فقهاء الحنفية كما تقدم، فقالوا: تفسخ الإجارة بالأعذار؛ لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر؛ لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد. والعذر: هو كل ما يكون أمراً عارضاً، يتضرر به العاقد في نفسه أو ماله مع بقاء العقد، ولا يندفع بدون الفسخ. والأعذار ثلاثة أنواع (2):
أـ عذر من جانب المستأجر: كإفلاسه أو انتقاله من حرفة إلى أخرى؛ لأن المفلس أو المنتقل من عمل لا ينتفع به إلا بضرر، فلا يجبر على البقاء في الحرفة الأولى مثلاً.
ب ـ عذر من جانب المؤجر: كأن يلحقه دين فادح لا يجد طريقاً لوفائه إلا ببيع الشيء المأجور وأدائه من ثمنه، بشرط أن يثبت الدين بالبينة أو الإقرار.
(1) الوسيط: ص 47، 81، نظرية العقد: 969/ 1، مصادر الحق: 96/ 6، مجلة القانون والاقتصاد عام 1936، السنة السادسة، للسنهوري.
(2)
المبسوط للسرخسي:16/ 2، مختصر الطحاوي: ص 130، البدائع: 197/ 4، الفتاوى الهندية: 198/ 4، 458، 463، تبيين الحقائق: 145/ 5، رد المحتار: 55/ 5.
ج ـ عذر راجع للعين المؤجرة أو الشيء المأجور: كأن يستأجر شخص حماماً في قرية ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية، فلا يجب عليه الأجر للمؤجر. ومثل استئجار مرضع لإرضاع طفل، ثم يأبى الصبي لبنها، أو إمساك الثدي، أو تمرض هي، أو يريد أهل الصبي السفر، فامتنعت، كان هذا عذراً في فسخ الإجارة.
وأما إنقاص الثمن بسبب الجوائح (1) في بيع الثمار: فقد قرره فقهاء المالكية والحنابلة (2)؛ لأن «النبي صلى الله عليه وسلم وضع الجوائح» أو «أمر بوضع الجوائح» وفي رواية: «إن بعت من أخيك تمراً فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» (3).
ومجمل القول: إن فسخ الإجارة بالأعذار، وإنقاص الثمن بالجوائح في بيع الثمار ونحوهما من الحوادث الطارئة عند فقهاء الإسلام مثل كساد الأوراق النقدية، أو انقطاعها المستوجب لبطلان البيع، تعتبر أمثلة حية لنظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي، تطبيقاً لمبدأ العدالة، ومراعاة لما يجب من توفر التعادل والتوازن في الالتزامات وتنفيذها (4).
(1) الجوائح: ي الآفات التي تصيب الثمار، فتهلكها، مثل البرد والقحط والعطش والعفن وأمراض النباتات والزرع ونحوها من الآفات السماوية.
(2)
بداية المجتهد: 184/ 2، القوانين الفقهية: ص 262، المنتقى على الموطأ: 231/ 4، الشرح الكبير للدردير:، المغني: 104/ 4، أعلام الموقعين: 337/ 2 ومابعدها.
(3)
الحديث الأول رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن جابر، والأمر بوضع الجوائح رواية مسلم، والرواية الثالثة عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار: 178/ 5، موطأ مالك: 126/ 3، سنن أبي داود: 248/ 2).
(4)
كتابنا نظرية الضرورة الشرعية: ص 324.