الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الحنابلة (1): فلم يشترطوا هذا الشرط، واكتفوا بمنع البيع المشتمل على الغرر (2) الذي نهى عنه الشرع، مثل بيع الحَمْل في البطن دون الأم، وبيع اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم. وأجازوا فيما عدا ذلك ـ كما قرر ابن تيمية وابن القيم ـ بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، كبيع الدار على الهيكل أو الخريطة؛ لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر: وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً كبيع الفرس والجمل الشارد، فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود، فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر، لا للعدم.
بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد.
وأما حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان فالسبب فيه: هو الغرر لعدم القدرة على التسليم، لا أنه معدوم.
بيع الثمار أو الخضار أو الزروع:
يترتب على اشتراط وجود المعقود عليه أو قابليته للوجود في المستقبل حكم
(1) أعلام الموقعين: 8/ 2 ومابعدها، نظرية العقد لابن تيمية: ص 224، المغني: 200/ 4، 208.
(2)
روى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر» أي نهى عن بيع المبيع المشتمل على غرر، فالمبيع نفسه لا البيع هو الغرر، كالثمرة قبل بدو صلاحها. والغرر: ماتردد بين السلامة والعطب. أو ما لا يقدر المتعاقد على تسليمه موجوداً كان أو معدوماً. وبيع الحصاة: أي ماوقعت عليه الحصاة من عدة أشياء (نيل الأوطار: 147/ 5).
بيع الثمر أو الخضر أو الزرع في الأرض قبل ظهوره أو بعد ظهوره وقبل نضجه (1).
أـ اتفق الفقهاء على بطلان بيع الثمار والزروع قبل أن تخلق، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يخلق، ونهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. وعلل النهي عن البيع بقوله صلى الله عليه وسلم:«أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه» (2).
ب ـ إذا أصبح الزرع والثمر بحالة ينتفع بهما انتفاعاً كاملاً، صح التعاقد عليه؛ لأن محل العقد موجود. ويجوز إبقاؤه في الأرض أو على الشجر إلى وقت الحصاد أو القطاف عند غير أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن العرف يقتضيه ويتعامل به الناس عادة.
ج ـ إذا أصبح الزرع والثمر بحالة لا ينتفع بهما انتفاعاً كاملاً، كأن صار العنب حصرماً، والبلح بسراً، والزرع سنبلاً أخضر لم ييبس، جاز بيعه عند الإمامين مالك ومحمد بن الحسن استحساناً لتعارف الناس وتعاملهم به. ولم يجز بيعه عند أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي، لأن إبقاءه أمر مطلوب، وفي إبقائه منفعة للمشتري لا يقتضيها العقد ولا يلائمه.
(1) انظر عند الحنفية: البدائع: 173/ 5، المبسوط: 195/ 12 ومابعدها، فتح القدير: 102/ 5 ومابعدها، تبيين الحقائق: 12/ 4، الدر المختار: 40/ 4، وعند المالكية: المنتقى على الموطأ: 217/ 4 ومابعدها، بداية المجتهد: 148/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص261. وعند الشافعية: تكملة المجموع: 351/ 11، 360، مغني المحتاج: 86/ 2، 89، 91 ومابعدها، وعند الحنابلة: المغني: 80/ 4، 87، 89 ومابعدها، غاية المنتهى: 68/ 2 ومابعدها، وعند الظاهرية: المحلى: 471/ 8 وعند الزيدية: البحر الزخار: 317/ 3، وعند الإمامية: المختصر النافع: ص 154، وعند الإباضية: شرح النيل: 72/ 4 ومابعدها.
(2)
أخرجه البخاري ومسلم عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تَزْهى، قالوا: وما تزهى؟ قال: تحمرّ، وقال: إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك» (نيل الأوطار: 173/ 5).
د ـ إذا بدا صلاح بعض الأشجار المثمرة في بستان أو في بساتين متجاورة يجوز بيع ما ظهر صلاحه وما لم يظهر عند المالكية والشيعة الإمامية وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة، عملاً بحسن الظن بالله تعالى وبمسامحة الإنسان لأخيه، وتعارف الناس عليه، إلحاقاً لما لم يظهر صلاحه بما ظهر، ودفعاً للمشقة على الناس في تعاملهم.
ولم يجز ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية والظاهرية والإباضية؛ لأن العقد اشتمل على معلوم ومجهول قد لا يخرجه الله تعالى من الشجرة، ولعدم القدرة على تسليم المبيع كله.
والخلاصة: إن من منع البيع في هذه الصور أراد الاحتياط في أخذ مال الغير، ومن أجاز البيع أراد التيسير على الناس ومراعاة الأعراف.
هذا ويتفق القانون المدني السوري (م 132،133) مع الفقه الإسلامي في هذا الشرط، فقد شرط فقهاء القانون في محل الالتزام أن يكون شيئاً موجوداً وقت نشوء الالتزام، أو قابلاً للوجود في المستقبل (1)، لكن لا يجوز قانوناً ولا شرعاً بيع التركة المستقبلة، فلا يجوز للوارث بيع حصته من تركة مورثه وهو على قيد الحياة. ويجوز قانوناً لا شرعاً بيع المؤلف مؤلفه قبل إتمامه، وبيع المحصولات المستقبلة قبل أن تنبت بثمن مقدر، وبيع النتاج الذي لم يولد، ويمكن تصحيح هذه العقود على رأي ابن تيمية الذي يجيز العقد على الشيء الذي يمكن وجوده في المستقبل إذا امتنع الغرر.
(1) النظرية العامة للالتزام للدكتور عبد الحي حجازي: ص 65.