الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالث ـ قصد حل اليمين: فلو قصد تأكيد اليمين أو التفويض إلى الله أو التأدب والتبرك، لم ينفعه الاستثناء.
أما النذر فلا ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة.
ووافقهم بقية الفقهاء في الشرطين الأولين (1). وإن قال: إلا أن يشاء فلان، فإن لم تعلم مشيئته لغيبة أو جنون أو موت، انحلت اليمين، لأنه لم يوجد الشرط. وإن عرفت مشيئته فشاء، لزمه الفعل.
المبحث الرابع ـ أحوال اليمين التي يحلف عليها فعلا ً:
يحلف الإنسان عادة على الأحوال المحيطة به من أكل وشرب ودخول وخروج وجلوس وركوب وسكنى ولبس وكلام وضرب ونحوها، قاصداً حث نفسه أو غيره على فعل الشيء أو المنع منه، فإن خالف مقتضى يمينه حنث ووجبت عليه الكفارة. لهذا كان مناسباً أن يعنون لهذا المبحث بأحوال اليمين التي يكون الكلام عنها في أحد عشر مطلباً بحسب ما هو الأغلب وقوعه بين الناس.
وقبل البدء بالكلام عن هذه المطالب أحقق هذه المسائل المهمة التي اختلف فيها الفقهاء، والتي يتوقف إصدار الحكم في أهم موضوعات هذه المطالب على معرفتها وهي:
هل الأيمان مبنية على العرف أو النية أوصيغة اللفظ
؟ قال الحنفية: الأيمان مبنية على العرف والعادة لا على المقاصد والنيات، لأن غرض الحالف: هو المعهود المتعارف عنده، فيتقيد بغرضه. هذا هو الغالب
(1) المغني: 8 ص 716 وما بعدها.
عندهم، وقد تبنى الأيمان عندهم على الألفاظ لا على الأغراض (1).
وقال الشافعية: الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية أي بحسب صيغة اللفظ، لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد، إلا أن ينوي شيئاً فيعمل بنيته، مثاله: لو حلف إنسان ألا يأكل رؤوساً، فأكل رؤوس حيتان (مفرده: حوت) فمن راعى العرف قال: لا يحنث، ومن راعى دلالة اللغة قال: يحنث. وكذلك يحنث من حلف لا يأكل لحماً، فأكل شحماً مراعاة لدلالة اللفظ، وقال الآخرون: لا يحنث.
والخلاصة: أن الشافعي يتبع مقتضى اللغة تارة، وذلك عند ظهورها وشمولها، وهو الأصل العام، وتارة يتبع العرف إذا اشتهر واطرد ......
وقال مالك في المشهور من مذهبه: المعتبر في الأيمان التي لا يقضى (2) على حالفها بموجبها وكذلك النذور هو النية (أي نية الحالف في غير الدعاوى ففيها تعتبر نية المستحلف كما بان سابقاً)، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفط أي ماقصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة، وقيل: لايراعى إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط، وقيل: يراعى النية وبساط الحال أي السبب الحامل على اليمين (3)، أو المقام وقرينة السياق في اصطلاح علم المعاني. ولاينفع في النذر الاستثناء بالمشيئة.
(1) قال ابن عابدين في رسائله (1 ص 304): كل من هاتين القاعدتين مقيدة بالأخرى، فقولهم:(الأيمان مبنية على العرف) معناه العرف المستفاد من اللفظ لا الخارج عن اللفظ اللازم له. وقولهم: (الأيمان مبنية على الألفاظ لا الأغراض) معناه الألفاظ العرفية. وإذا تعارض الوضع الأصلي للكلمة والوضع العرفي ترجح الوضع العرفي.
(2)
أي التي لايصدر فيها حكم قضائي، وإنما يترك شأنها للحالف بينه وبين الله تعالى، وذلك في الأمور التي تكون علاقتها بنفس الإنسان أو بالله سبحانه. أما الأمور التي تتعلق بالناس فهذه مما يقضى فيها على الحالف.
(3)
حدود ابن عرفة: ص 137.
وأما الأيمان التي يقضى بها على صاحبها: ففي مجال الاستفتاء تراعى هذه الضوابط على هذا الترتيب، وإن كان مما يقضى بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ إلا أن يؤيد ما اد عاه من النية قرينة الحال أو العرف.
قال الشاطبي: من مذهب مالك أن يترك الدليل للعرف، فإنه رد الأيمان إلى العرف، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير مايقتضيه العرف. كمن حلف لايدخل بيتاً: لايحنث بدخول المسجد، لأنه لا يسمى بيتاً في العرف (1).
وقال الحنابلة: يرجع في الأيمان إلى النية أي نية الحالف، فإن نوى بيمينه مايحتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه، سواء أكان مانواه موافقاً لظاهر اللفظ، أم مخالفاً له (2) لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى» (3) فإن لم ينو شيئاً رجع إلى سبب اليمين وما هيجها أو أثارها لدلالته على النية. فإن حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظاً من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها، اختصت يمينه بها. وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها ولا أثر للدار فيه، تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار.
هذا .. وقد عرفنا أنه ينقسم هذا المبحث إلى أحد عشر مطلباً أذكرها فيما يأتي:
(1) الاعتصام: 141/ 2.
(2)
انظر هذا المبحث في تبيين الحقائق: 3ص116 ومابعدها، البدائع: 3 ص38، الفتاوى الهندية: 2ص63، الدر المختار: 3 ص 78، رسائل ابن عابدين: 1 ص 292، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 1 ص 82، بداية المجتهد: 1 ص 398، 402 ومابعدها. الشرح الكبير للدردير: 2 ص 135، 139 ومابعدها، مغني المحتاج: 4 ص 335 ومابعدها، المغني: 8 ص 763 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 161 ومابعدها، 171.
(3)
رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث متواتر عن ثلاثين صحابياً (شرح مسلم: 13 ص 53، الأربعين النووية: ص 16، النظم المتناثر من الحديث المتواتر للسيد جعفر الكتاني: ص 17).