الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واتجاه الشافعية هذا متفق مع الأصل في القبول: وهو أن يتصل بالإيجاب مباشرة وفوراً لينعقد العقد، ويخفف تشدد هذا الرأي أخذ الشافعية بمبدأ خيار المجلس لكل من العاقدين بعد انعقاد العقد، والذي بمقتضاه يثبت لكل من العاقدين حق فسخ العقد ما داما في المجلس لم يفترقا عنه بأبدانهما.
هذا وقد فسر غير الرملي من الشافعية اتصال القبول بالإيجاب بأنه السائد عرفاً بين الناس، فلا يضر الفصل اليسير ويضر الطويل وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول. فيكون رأي الشافعية كغيرهم (1).
حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة
تمهيد:
تمكن أبناء العالم المعاصر من إنجاز كثير من معاملاتهم وعقودهم المالية بواسطة آلات الاتصال الحديثة، كالهاتف والبرقية واللاسلكي والتلكس والفاكس ونحوها، وأصبح ضرورياً معرفة كيفية إبرام تلك العقود من الناحية الشرعية، وهذا ما أبينه هنا بالاعتماد على ما كتبه فقهاؤنا وقرروه عند الكلام على
صيغة العقد
، وشروط الإيجاب والقبول، وشروط تحقيق معنى اتصال القبول بالإيجاب ليكون شطرا العقد في مجلس واحد.
وبما أن هذه المعلومات معروفة في الجامعات، فأكتفي بإيجازها هنا، لتكون مدخلاً للحكم على موضوع البحث.
صيغة العقد: هي ماصدر من المتعاقدين دالاً على توجه إرادتهما الباطنة
(1) حاشية الباجوري على ابن قاسم الغزي: 354/ 1، المجموع للنووي: 179/ 9.
لإنشاء العقد وإبرامه. وتعرف تلك الإرادة الباطنة بواسطة اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من الفعل (المعاطاة) أو الإشارة أو الكتابة. وهذه الصيغة هي الإيجاب والقبول الدالان على تراضي الجانبين بإنشاء التزام بينهما، وتسمى الصيغة عند القانونيين التعبير عن الإرادة.
والتعبير عن الإرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفاً أو لغة على إنشاء العقد، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة (1).
والقول أو اللفظ مثل بعت واشتريت، ورهنت وارتهنت، ووهبت وقبلت، وزوجت وتزوجت.
والفعل أو المعاطاة أو المراوضة: هو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ بإيجاب أو قبول (2)، كأن يأخذ المشتري المبيع ويدفع الثمن للبائع دون كلام من كلا الطرفين أو من أحدهما، سواء أكان المبيع حقيراً بسيطاً أم نفيساً. وهذا جائز عند جمهور العلماء غير الشافعية، لتعارفه بين الناس، لكن عقد الزواج بالإجماع لا ينعقد ولا يصح بالفعل أو بالمعاطاة كإعطاء المهر مثلاً، بل لا بدّ فيه من النطق بالإيجاب والقبول، لخطورته وأهميته، وتأثيره الدائم على المرأة، وحفاظاً على حرمات الأعراض المصونة شرعاً.
ويجوز انعقاد العقد بإشارة الأخرس أو معتقل اللسان المفهومة باتفاق الفقهاء للضرورة، حتى لا يحرم من حق التعاقد، لذا نصت القاعدة الفقهية:«الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان» (المجلة: م 70).
وأجاز فقهاء المالكية والحنابلة
(1) مجلة الأحكام العدلية (م 173، 174).
(2)
المجلة (م 175).
التعبير عن الإرادة من الناطق بالإشارة المفهمة المتداولة عرفاً، لأنها أولى في الدلالة من الفعل الذي ينعقد به العقد، كما في المعاطاة (1).
ويصح التعاقد بالكتابة بين طرفين في رأي الحنفية والمالكية سواء أكانا ناطقين أم عاجزين عن النطق، حاضرين في مجلس واحد أم غائبين، وبأي لغة يفهمها المتعاقدان، بشرط أن تكون الكتابة مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد الانتهاء منها) ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر المرسل إليه وتوقيع المرسل) فإذا كانت غير مستبينة كالكتابة على الماء أو في الهواء، أو غير مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع مثلاً، لم ينعقد بها العقد (2)، وعليه نصت القاعدة الفقهية:(الكتاب كالخطاب)(المجلة: م 96). مثل أن يرسل شخص خطاباً لآخر يقول فيه: (بعتك سيارتي بكذا) فإذا وصله الكتاب، وقال في مجلس قراءة الكتاب: قبلت، انعقد البيع. أما إن ترك المجلس أو صدر منه ما يدل على الإعراض عن الإيجاب، كان قبوله غير معتبر.
وإرسال رسول إلى آخر حامل مضمون الإيجاب مثل إرسال الكتاب، ويعتبر مجلس وصول الرسول هو مجلس العقد، فيلتزم أن يقبل فيه، فإن قام من المجلس قبل أن يقبل، انتهى مفعول الإيجاب، ويكون المعول عليه هو مجلس بلوغ الرسالة أو الكتابة، كأن يقول شخص: بعت لفلان كذا، فاذهب يا فلان وقل له هذا، فذهب فأخبره، فقبل المشتري في مجلسه ذلك، صح العقد.
ومهمة الرسول أضعف من مهمة الوكيل، لأن الرسول مجرد مفوض بنقل تعبير المرسل دون زيادة أو نقصان، أما الوكيل فإنه يتولى إبرام العقد بعبارته، ولا
(1) الشرح الكبير للدردير: 3/ 3، المغني: 562/ 5.
(2)
الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 10/ 4 وما بعدها، فتح القدير: 79/ 5، البدائع: 137/ 5، الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 3/ 3.