الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوقه، ويوقفه: اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوِّقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضرُّه، ولا يقطعه من مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره، وحبه، والإقبال عليه، في محلِّ هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصيرُ الهمُّ كلُّه به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه، وما يقرِّب منه، فيصير أُنسه بالله بدلاً من أُنْسِهِ بالخلق، فيَعِده بذلك لأُنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم)) (1).
سادساً: زمن الاعتكاف ووقته:
مُدَّة الاعتكاف اللبث والمكث في المسجد مدة من الزمن بنيَّة العبادة لله هو ركن الاعتكاف (2)، فلو لم يقع اللبث في المسجد بنية العبادة لم ينعقد الاعتكاف، وفي أقل مدة الاعتكاف خلاف بين أهل العلم، والصواب أن وقت الاعتكاف ليس لأقلِّه حدٌّ،
(1) زاد المعاد، 2/ 87.
(2)
كتاب الصيام من شرح العمدة لابن تيمية، 2/ 751.
فيصحّ الاعتكاف مقداراً من الزمن وإن قلَّ، ولو لحظة أو ساعة (1)، لقول الله تعالى:{وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (2)، وهذا اللفظ عام يشمل القليل والكثير، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول:((والصواب في الاعتكاف أنه لا حدَّ لأكثره ولا لأقلِّه، وليس له حد محدود، فلو دخل المسجد ونوى الاعتكاف ساعة أو ساعتين فهو اعتكاف)) (3)، والله تعالى أعلم (4).
(1) الساعة في عرف الفقهاء جزء من الزمن، لا جزء من أربع وعشرين ساعة [الموسوعة الفقهية الكويتية، ونسبه لابن عابدين مع الدر المختار، 2/ 444، انظر: الموسوعة المذكورة، 5/ 213].
(2)
سورة البقرة، الآية:187.
(3)
سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الأحاديث: 2025 - 2027.
(4)
اختلف الفقهاء في مقدار اللبث المجزئ في الاعتكاف على أقوال على النحو الآتي: القول الأول: مذهب الحنابلة، والحنفية: ما يسمى به معتكفاً لابثاً، قال المرداوي في الإنصاف، 7/ 566:((فعلى المذهب أقلَّه إذا كان تطوعاً أو نذراً مطلقاً ما يسمى به معتكفاً لابثاً))، قال ابن مفلح في الفروع، 5/ 143: ((فظاهره ولو لحظة وفاقاً للأصح عند الشافعية، وأقله عندهم مكث يزيد على طمأنينة الركوع أدنى زيادة
…
ولا يكفي عبُورُه خلافاً لبعض الشافعية)). قال في الإنصاف، 7/ 566:((وفي كلام جماعة من الأصحاب: أقله ساعة لا لحظة)).
القول الثاني: مذهب الشافعية في الأصح عندهم: تكفي لحظة، لكن لابد من اللبث في المسجد، فيكفي التردد فيه لا المرور بلا لبث، ويندب عندهم أن يكون يوماً؛ لأنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف أقل من يوم.
القول الثالث: مذهب المالكية: أقل الاعتكاف يوم وليلة، والمستحب أن لا ينقص عن عشرة أيام.
ودليل من قال: أقله ساعة: قوله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [سورة البقرة، الآية: 187]،وهذا يشمل القليل والكثير، وبعض ألفاظ حديث ابن عمر رضي الله عنهما في نذر عمر قال: سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكافٍ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوفائه)). [البخاري، برقم 4320]. وهذا يشمل الاعتكاف القليل والكثير، والله أعلم.
ودليل من قال: أقل الاعتكاف: يوم وليلة؛ حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوف بنذرك))، وفي رواية أنه نذر اعتكاف يوم فقال: يا رسول الله إنه كان عليَّ اعتكاف يوم في الجاهلية؟ ((فأمره أن يفي به))، وفي لفظ لمسلم: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ قال:((اذهب فاعتكف يوماً)) [متفق عليه: البخاري، 2032، 2043، 3144، 4320، 6697،ومسلم برقم 27 - (1656) ورقم 28 - (1656)].
قال ابن حبان: ألفاظ هذا الحديث مصرحة بأنه نذر اعتكاف ليلة إلا هذه الرواية: ((اذهب فاعتكف يوماً))
…
فيشبه أن يكون أراد باليوم مع ليلته، وبالليلة مع اليوم، حتى لا يكون بين الخبرين تضاد. [فتح الباري لابن حجر، 4/ 274]، وقال ابن خزيمة، 3/ 348:((إن العرب تقول يوماً: تريد بليلته، وتقول: ليلة: تريد بيومها))، لكن روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال - أي عمر -: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أوفِ بنذرك فاعتكف ليلة))، رواه الدارقطني، 2/ 199، وقال:((هذا إسناد ثابت))، وهذا صريح في أنه إنما نذر اعتكاف ليلة، وعلى هذا فأقل ما ورد: يوم أو ليلة. [انظر: كتاب الفروع لابن مفلح،
5/ 143، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف، 7/ 566 - 567، والموسوعة الفقهية الكويتية،
5/ 212 - 213].