الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(23) كتاب الحدود
(1) باب حد السرقة وما يقطع فيه
[1774]
عَن عَائِشَةَ قَالَت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقطَعُ السَّارِقَ فِي رُبعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.
رواه أحمد (6/ 36)، ومسلم (1684)(1)، وأبو داود (4383)، والترمذيُّ (1445)، والنسائي (8/ 79)، وابن ماجه (2585).
ــ
(23)
كتاب الحدود (1)
هي: جمع حدّ. وأصل الحدّ: المنع حيث وقع وإن اختلفت أبنيته وصيغه. وسميت العقوبات المترتبة على الجنايات: حدودًا؛ لأنَّها تمنع من عود الجاني ومن فعل المعتبر بها.
(1)
ومن باب حدّ السَّرِقة وما يقطع فيه
السَّرِقةُ والسَّرِقُ - بكسر الراء فيهما -: هو اسم الشيء المسروق، والمصدر من (سَرَق، يَسرِقُ): سَرَقًا - بفتح الرَّاء - كذا قاله الجوهري. وأصل هذا اللفظ إنما هو: أخذ الشيء في خفية. ومنه: استَرَق السَّمع. وسَارَقَه النظر. قال ابن عرفة:
(1) في "ع": تقديم كتاب الضحايا على كتاب الحدود.
[1775]
وعنها: أنها سمعت رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقطع يد السارق إلا فِي رُبعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا
رواه مسلم (1684)(3)، والنسائي (8/ 81).
ــ
السارق عند العرب هو: من جاء مستترًا إلى حرزٍ فأخذ منه ما ليس له. فإن أخذ من ظاهرٍ فهو مختلس، ومستلبٌ، ومنتهبٌ، ومحترسٌ. فإن منع مما في يده فهو غاصبٌ له.
قلت: وهذا الذي قاله ابن عرفة هو السارق في عُرفِ الشرع.
ويستدعي النَّظر في هذا الباب النَّظر في: السَّارق، والمسروق منه، والشيء المسروق، وحكم السَّارق. ولا خلاف في أن السَّارق إذا كملت شروطه يقطع دون الغاصب، والمُختَلِس، والخَائِن. وفيمن يستعير المتاع فيَجحَدُهُ (1) خلاف شاذٌّ، حكي عن أحمد، وإسحاق، فقالا: يقطع. والسَّلف والخلف على خلافهما. وسيأتي القول في حديث المخزوميَّة (2).
وإنَّما خصَّ الشرع القطع بالسَّارق؛ لأن أخذ الشيء مُجاهَرَة يمكن أن يُستَرجع منه غالبًا. والخائن مكَّنَهُ ربُّ الشيء منه، وكان متمكنًا من الاستيثاق بالبينة. وكذلك المُعير. ولا يُمَكَّن شيء من ذلك في السَّرِقة، فبالغ الشرع في الزجر عنها؛ لما انفردت به عن غيرها بقطع اليد.
وقد أجمع المسلمون: على أن اليمنى [تقطع إذا وجدت؛ لأنَّها الأصل في محاولة كل الأعمال].
و(قول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم] (3) يَقطع في ربع دينار
(1) ليست في (ج 2).
(2)
سيأتي في التلخيص برقم (2078 و 2079).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من (ع).
[1776]
وعن ابن عمر: أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم.
رواه أحمد (2/ 80)، والبخاريُّ (6797)، ومسلم (1686)(6)، وأبو داود (4386)، والنسائي (8/ 77)، وابن ماجه (2584).
ــ
فصاعدًا). وفي الطريق الأخرى: (لا تُقطع يد السَّارق إلا في ربع دينار فصاعدًا). هذا تقرير لقاعدة ما تقطع فيه يد السَّارق من النبي صلى الله عليه وسلم وبلفظه. لكنَّه ظاهر فيما إذا كان المسروق ذهبًا، فلو كان غير ذهب، وكان فضة، فهل يعتبر قيمتها بالذهب؛ فإن سوّيت ربع دينار فصاعدًا قطع فيها، أو إنما تعتبر بنفسها؛ فإذا بلغت ثلاثة دراهم وزنًا قطع فيها، فيكون كل واحد من الذهب والفضة أصلًا معتبرًا بنفسه؛ قولان:
الأول: للشافعي، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي ثور، وهو مروي عن عمر، وعلي، وعثمان، وبه قالت عائشة، وعمر بن عبد العزيز. والثاني: لمالك وأصحابه.
وقال أحمد وإسحاق: إن سرق ذهبًا فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة فكانت قيمته ربع دينار، أو ثلاثة دراهم من الورق. وهذا نحو مما صار إليه مالك في أحد القولين. وفي المشهور: أنه إنما تقوَّم العروض بالدراهم، كما قال في حديث ابن عمر. وقال بعض أصحابنا: يقوَّم بالغالب في موضع السَّرِقة من الذهب والفضة كما تقوَّم المتلفات. وهو القياس. وهذان القولان ناشئان من حديثي عائشة، وابن عمر المذكورين في هذا الباب.
وقد نقلت أقوال عن كثير من السلف والعلماء في تحديد نصاب السَّرِقة لم يثبت فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث معتمد، ولا لها في الأصول ظاهر مستند؛ فمنها ما روي عن عمر، وقال به سليمان بن يسار، وابن شبرمة. وهو: أنَّ الخَمسَ لا تقطع إلا في خَمسٍ.
ومنها:
[1777]
وعن أبي هريرة، قال: قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده.
ــ
أنَّها لا تقطع إلا في عشرة دراهم. وبه قال عطاء، والنُّعمان، وصاحباه.
ومنها: أنها تقطع في أربعة دراهم فصاعدًا. وهو مروي عن أبي هريرة، وأبي سعيد.
ومنها: أنها تقطع في درهم فما فوقه، وهو مروي عن عثمان.
ومنها: أنها تقطع في كل ما له قيمة، وروي عن الحسن في أحد أقواله، وهو قول الخوارج، وأهل الظاهر. [واختاره ابن بنت الشافعي](1).
ومنها: أنها لا تقطع في أقل من درهمين، وروي عن الحسن.
ومنها: أنها لا تقطع في أقل من أربعين درهما، أو أربعة دنانير. وروي عن النخعي.
قلت: وهذه كلها أقوال متكافئة، خلية عن الأدلة الواضحة الشافية، ولا يصحُّ ما رواه الحجَّاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا:(لا تقطع يد السَّارق في أقل من عشرة دراهم)(2) لضعف إسناده، ولما يعارضه من قوله في الصحيح:(لا تقطع يد السَّارق إلا في ربع دينار فصاعدًا). ولا حجَّة لمن احتجَّ بقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السَّارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) لأنَّه وإن احتمل أن يراد بالبيضة بيضة الحديد، وبالحبل حب السُّفن، كما قد قيل فيه: فالأظهر من مساقه: أنَّه يراد به التقليل، لكن أقل ذلك القليل مقيَّد بقوله:(لا تقطع يد السَّارق إلا في ربع دينار)، وهذا نصٌّ، وبقول عائشة: لم تكن يد السَّارق تقطع في الشيء التَّافه، خرَّجه البخاري (3) وغيره. وهذا منها خبر عن عادة الشرع الجارية عندهم. ومعلوم: أن الواحدة من بيض الدَّجاج، والحبل الذي يشدّ
(1) ما بين حاصرتين زيادة من (ج 2).
(2)
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 273).
(3)
ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 104) بلفظ: "إن اليد لا تقطع في الشيء التافه" عن عائشة رضي الله عنها.
وفي رواية: إن سرق حبلا وإن سرق بيضة.
ــ
به المتاع والرَّحل تافهٌ. وإنَّما سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مسلك العرب فيما إذا أغيَت في تكثير شيء أو تحقيره، فإنَّها تذكر في ذلك ما لا يصحّ وجوده، أو ما يندر وجوده إبلاغًا في ذلك، فتقول: لأصعَدنَّ بفلان إلى السماء، ولأهبطنَّ به إلى تخوم الثَّرى. وفلانٌ مناطُ الثُّريَّا. وهو مِنِّي مقعد القابلة. ومن بنى لله مسجدًا ولو مثل مفحص قطاة بُني له بيتٌ في الجنة. ولا يُتصوَّر مسجد مثل ذلك. وتصدَّقن ولو بظلفٍ مُحرَّقٍ. وهو مِمَّا لا يُتصدقُ به. ومثل هذا كثير في كلامهم، وعادة لا تستنكر في خطابهم. وقيل في الحديث: إنَّه إذا سرق البيضة أو الحبل ربما حمله ذلك على أن يسرق ما يقطع فيه، لأنه ربما يجترئ على سرقة غيرهما، فيعتاد ذلك فتقطع يده.
و(قوله: لعن الله السَّارق) أي: أبعده الله. وقد تقدَّم: أن أصل اللعن: الطرد، والبعد.
وفيه ما يدلّ: على جواز لعن جنس العصاة؛ لأنَّه لا بدَّ أن يكون في ذلك الجنس من يستحق ذلك اللعن، أو الذم، أو الدُّعاء عليه. وليس كذلك العاصي المعيَّن؛ لأنَّه قد لا يستحق ذلك، فيعلم الله أنَّه يتوب من ذلك، فلا يستحق ذلك اللعن بذلك.
وقد ذهب بعض النَّاس: إلى أنَّه يجوز لعن المعيَّن من أهل المعاصي ما لم يُحَدّ. فإذا حدّ لم يجز؛ لأن الحدود كفارة. وهذا فاسد؛ لأنَّ العاصي المؤمن لم يخرج بمعصيته عن اسم المؤمن. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله)(1). وقد نهي عن اللَّعن. وهو كثير. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعن الملقب بـ (حمار) الذي كان يشرب الخمر كثيرًا، فلعنه بعضهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه (2). وهو صحيح
(1) رواه البخاري (6652)، ومسلم (110)، وأبو داود (3257)، والترمذي (2638)، والنسائي (7/ 5 - 6).
(2)
رواه البخاري (6780).
رواه البخاريُّ (6783)، ومسلم (1687)(7)، والنسائي (8/ 65).
* * *
ــ
نصٌّ في الباب. وفرق بين لعن الجنس والشخص؛ لأنَّ لعن الجنس تحقيق وتحذير، ولعن الشخص حسبان (1) وتعيير. وأمَّا الكافر فلا حُرمةَ له. ويجب الكفُّ عن أذى مَن له ذمَّة.
ولا حجَّة لمن رأى: أنَّه لا تقطع الخَمس إلا في خَمسٍ بما رواه أنس عن أبي بكر: أنَّه قَطَع في خمسة دراهم؛ لأنَّه ليس فيه دلالة على أن هذا أقلّ ما يقطع فيه، ولو كان نصًّا لما كان معارضًا لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تقطع يد السَّارق في أقل من ربع دينار). فإن هذا نصٌّ من النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعارض بغيره.
واختلف العلماء في الحدّ الذي تقطع منه اليد. وفيمن قطعت يده ثمَّ سرق؛ ما الذي يقطع له؟ وفيمن كانت له يمين شَلَاّء. فهذه مسائل:
الأولى: لا خلاف أن اليمين هي التي تقطع أولًا. ثمَّ اختلفوا إن سرق ثانية. فقال مالك، وأهل المدينة، والشافعي، وأبو ثور، وغيرهم: تقطع رجله اليسرى، ثمَّ في الثالثة يده اليسرى، ثمَّ في الرابعة رجله اليمنى، ثم بعد هذا يعزر ويحبس. قال أبو مصعب من أصحابنا: يقتل بعد الرابعة. وقد ثبت عن أبي بكر وعمر: أنهما قطعا اليد بعد اليد، والرِّجل بعد الرِّجل. وقيل: تقطع في الثانية رجله اليسرى، ثمَّ لا قطع في غيرها، فإن عاد حبس، وعزر. روي ذلك عن علي، وبه قال الزهري، وحمَّاد، وأحمد.
فلو كانت اليمنى شلَاّء، أو مقطوعة أكثر الأصابع، أو لا يمين له - وهي المسألة الثانية -؛ ففيه عن مالك روايتان:
إحداهما: تُقطع يده اليسرى. والأخرى: رِجله اليسرى. وقال الزُّهري: تُقطع الشَّلَاّء؛ لأنَّها جمال. وبه قال إسحاق، وأبو ثور. وقال أحمد: إذا كان يُحَرِّكُها قُطِعت. وعند الحنفية تفصيلٌ بعيدُ التحصيل (2).
(1)"الحُسبان": العذاب والبلاء.
(2)
في (ع) و (ل 1): تفصيل طويل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ثم إلى أين تُقطع- وهي المسألة الثالثة -؛ فعند الكافة: تقطع اليد من الرُّسغ، والرِّجل من المفصل. وهو مروي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما. وقال علي رضي الله عنه: تُقطع الرجل من شطر القدم، ويُترك له العقب، وبه قال أحمد، وأبو ثور. وقيل: تُقطع اليد إلى المرفق. وقيل: إلى المنكب. وهما شاذان.
تنبيه: آيةُ السَّرقة وردت عامة مطلقة، لكنها مخصَّصة مقيَّدة عند كافة العلماء؛ إذ قد خرج من عموم السَّارق من سرق ملكه، ومن سرق أقل من نصاب، وغير ذلك. وتقيَّدت باشتراط الحِرز، فلا قطع على من سرق شيئًا من غير حرز بالإجماع إلا ما شذَّ فيه الحسن، وأهل الظاهر، فلم يشترطوا الحِرز. وقد روى النسائي من حديث رافع بن خديج: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع في كَثَرٍ ولا ثَمَرٍ)(1)، والكَثَر: الجُمَّار (2). وروى من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنَّه سُئل عن الثمر المُعَلَّق؟ فقال: (من أصاب منه من ذي حاجة غير مُتَّخِذٍ خُبنَة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين (3) فبلغ ثمن المِجَنِّ فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة) (4). وفي رواية:(وليس في الماشية قطعٌ إلا فيما آواه المراح فبلغ ثمن المِجَنِّ ففيه قطع اليد، وما لم يبلغ ثمن المِجَنِّ ففيه غرامة مثليه وجلدات (5). قال أبو عمر: قوله: وغرامة مثليه: هو منسوخ. ولا أعلم أحدًا من الفقهاء قال به إلا رواية أحمد. ومحمل هذا على التشديد، والعقوبة. وأبو عمر يصحح حديث عمرو بن شعيب إذا كان الرَّاوي عنه ثقةٌ، والراوي عنه
(1) رواه النسائي (8/ 87).
(2)
"الكَثَر" بفتحتين: جُمَّار النخل، وهو شحمه الذي وسط النخلة.
(3)
"الجرين": البيدر، وموضع تجفيف الثمار.
(4)
رواه النسائي (5/ 85).
(5)
رواه النسائي (8/ 86).