الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(12) باب الأمر بالمواساة بالفضل وجمع الأزواد إذا قلت
[1826]
عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ قَالَ: بَينَمَا نَحنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يضرب يَمِينًا وَشِمَالًا،
ــ
على وجوب الضيافة. وهو ظاهرٌ في ذلك، غير أن هذا محمولٌ على ما كان في أول الإسلام من شدَّة الأمر، وقلَّة الأزواد، فقد كانت السَّرية يخرجها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجد لها إلا مِزوَدَي تمر. فكان أمير السَّرية يقوتهم إيَّاه، كما قد اتفق في جيش أبي عبيدة، وسيأتي.
وإذا وجب التضييف كان للضيف طلب حقه شرعًا، وإن لم يكن الحال هكذا فيحتمل أن يكون هذا الحق المأمور بأخذه هو حقُّ ما تقتضيه مكارم الأخلاق، وعادات العرب، كما قررناه، فيكون هذا الأخذ على جهة الحضِّ والترغيب بإبداء ما في الضيافة من الثواب والخير، وحُسن الأحدوثة، ونفي الذمِّ، والبخل، لا على جهة الجبر والقهر؛ إذ الأصل ألا يحلَّ مالُ امرئ مسلم إلا بطيب قلبه، ويحتمل أن يراد بالقوم الممرور بهم أهل الذمة، فينزل بهم الضيف، فيمنعونه ما قد جعل عليهم من التضييف، فهؤلاء يؤخذ منهم ما جعل عليهم من الضيافة على جهة الجبر من غير ظلمٍ ولا تعدٍّ. وقد رأى مالك سقوط ما وجب عليهم من ذلك لما أحدث عليهم من الظلم. والله تعالى أعلم.
(12)
ومن باب: الأمر بالمواساة وجمع الأزواد إذا قلت
(قوله: جاء رجل على راحلته فجعل يضرب يمينًا وشمالًا) كذا رواه ابن ماهان بالضاد المعجمة، وبالباء الموحدة من تحتها، من الضرب في الأرض؛ الذي يراد به: الاضطراب والحركة، فكأنه كان يجيء بناقته، ويذهب بها فعل المجهود الطالب. وفي كتاب أبي داود: يضرب راحلته يمينًا وشمالًا. وقد رواه العذري فقال: يُصرِّف - بالصاد المهملة والفاء -من الصَّرف، ولم يذكر المصروف
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن كَانَ مَعَهُ فَضلُ ظَهرٍ فَليَعُد بِهِ عَلَى مَن لَا ظَهرَ لَهُ، وَمَن كَانَ لَهُ فَضلٌ مِن زَادٍ فَليَعُد بِهِ عَلَى مَن لَا زَادَ لَهُ. قَالَ: فَذَكَرَ مِن أَصنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ، حَتَّى رئينَا: إنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضلٍ.
رواه أحمد (3/ 34)، ومسلم (1728)، وأبو داود (1663).
[1827]
وعن إِيَاس بن سَلَمَةَ، عَن أَبِيهِ قَالَ: خَرَجنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزوَةٍ، فَأَصَابَنَا جَهدٌ، حَتَّى هَمَمنَا أَن نَنحَرَ بَعضَ دوابنا، فَأَمَرَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَمَعنَا أزَوَادَنَا، فَبَسَطنَا لَهُ نِطَعًا، فَاجتَمَعَ زَادُ القَومِ عَلَى
ــ
ما هو؟ وقد رواه السَّمرقندي والصدفي كذلك، وبيَّنوا المصروف، فقالوا: يصرف بصره يمينًا وشمالًا. يعني: كان يقلب طرفه فيمن يعطيه ما يدفع عنه ضرورته. ولا تباعد بين هذه الروايات؛ إذ قد صدر من الرجل كل ذلك، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الحال أمر كل من كان عنده زيادة على قدر كفايته أن يبذله، ولا يمسكه، وكان ذلك الأمر على جهة الوجوب لعموم الحاجة، وشدَّة الفاقة؛ ولذلك قال الصحابي: حتى رئينا: أنَّه لا حق لأحد منا في فضل؛ أي: في زيادة على قدر الحاجة. وهكذا الحكم إلى يوم القيامة؛ مهما نزلت حاجة، أو مجاعة، في السَّفر، أو في الحضر، وجبت المواساة بما زاد على كفاية تلك الحال، وحرم إمساك الفضل.
و(قوله: حتى رئينا) هكذا وقعت هذه الرواية بضم الراء وكسر ما بعدها مبنيًا لما لم يسم فاعله؛ أي: أظهر لنا. وفي بعض النسخ: (رأينا) مبنيًا للفاعل. وفي بعضها: حتى قلنا. من القول بمعنى الظن، كما قال الشاعر (1):
متى تقول القُلُصَ الرَّواسِمَا
…
يُدنِين أُمَّ قاسمٍ وقاسما؟
و(قوله: فجمعنا أزوادنا): هذه الرواية الواضحة المحفوظة. وقد وقع
(1) هو هُدْبة بن خشرم.
النِّطَعِ، قَالَ: فَتَطَاوَلتُ لِأَحزِرَهُ كَم هُوَ، فَحَزَرتُهُ كَرَبضَةِ العَنزِ، وَنَحنُ أَربَعَ عَشرَةَ مِائَةً، قَالَ: فَأَكَلنَا حَتَّى شَبِعنَا جَمِيعًا، ثُمَّ حَشَونَا جُرُبَنَا، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَهَل مِن وَضُوءٍ؟ . قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ، وفِيهَا نُطفَةٌ، فَأَفرَغَهَا فِي قَدَحٍ، فَتَوَضَّأنَا كُلُّنَا، نُدَغفِقُهُ دَغفَقَةً، أَربَعَ عَشرَةَ مِائَةً. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ بَعدَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ، فَقَالَوا: هَل مِن طَهُورٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَرِغَ الوَضُوءُ.
رواه مسلم (1729).
* * *
ــ
لبعضهم: (تزوادنا) بالتاء باثنتين من فوقها، بفتح التاء وكسرها، وهو اسم من الزاد؛ كالتِّسيار، والتمثال. ووقع لبعضهم:(مزاودنا)، والأول أوجه، وأصح.
و(قوله: فحزرته كربضة العَنز) أي: قدرته مثل جُثَّة العنز، فحقُّه على هذا أن يكون مضموم الراء؛ لأنَّه اسم. وكذلك حفظي عمَّن أثق به. فيكون: كـ (ظلمة) و (غرفة). وقد روي بكسر الراء، ذهب فيه مذهب الهيئات، كـ (الجلسة)، و (المشية). وقد روي بفتح الراء، وهي أبعدُها؛ لأنَّه حينئذ يكون مصدرًا، ولا يُحزَر المصدر، ولا يُقدَّر.
و(النُّطفة): القطرة، ومراده بها هنا: القليل من الماء. يقال: نطف الماء ينطف؛ أي: قطر.
و(ندغفقه دغفقة) أي: نأخذ منه ونصب على أيدينا صبًّا شديدًا.
و(الجُرُبُ): جمع جراب، وهي الأوعية التي يجعل فيها الزاد. وتسمى أيضًا: مزاوِد.
وهذا الحديث قد اشتمل على معجزتين من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام والشراب. وقد وقع ذلك منه مرات كثيرة. وروي من طرق عديدة، ووقع منه في جموع كثيرة، ومشاهد عظيمة؛ فهي من معجزاته المتواترة، وكراماته المتظاهرة، وقد بيَّنَّا ذلك في كتابنا في الردِّ على النصارى.