الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(9) باب نظرة الفجأة، وتسليم الراكب على الماشي، وحق الطريق
[2068]
عَن جَرِيرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَن نَظَرة الفُجَاءَةِ، فَأَمَرَنِي أَن أَصرِفَ بَصَرِي.
رواه أحمد (4/ 358)، ومسلم (2159)(45)، وأبو داود (2148)، والترمذيُّ (2776).
ــ
مطلع كيفما كان، ومن أي جهة كان. بل: يتعيَّن أن يقال: إن الشرع إذا علَّق هذا الحكم على الاطلاع في البيت؛ لأنه مظنة الاطلاع على العورة، فلأن يعلق على نفس الاطلاع على العورة أحرى، وأولى، وهذا نظر راجح، غير أن أصحابنا حكوا الإجماع على أن من اطلع على عورة رجل بغير إذنه، ففقأ عينه: أنه لا يسقط عنه الضمان، كما ذكرناه. فإن صح هذا الإجماع، فهو واجب الاتباع. وإن وجد خلاف فما ذكرناه هو الإنصاف.
(9 و 10) ومن باب: نظر الفجأة وتسليم الراكب على الماشي (1)
قوله: (سألته عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري) الفجاءة: بضم الفاء والمدِّ والهمز: مصدر فجأني الأمر يفجؤني فُجاءَة: إذا صادفك بغتة من غير قصد. ومنه: قَطَرِي بن الفجاءة؛ اسم رجل. ويقال: فاجأني، يفاجئني، مفاجأةً، وفجاء. وإنما أمره أن يصرف بصره عن استدامة النظر إلى ما وقع عينه عليه أول
(1) شرح القرطبي رحمه الله تحت هذا العنوان أيضًا ما أشكل في باب: حق المسلم على المسلم.
[2069]
وعن أَبي هُرَيرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى المَاشِي، وَالمَاشِي عَلَى القَاعِدِ، وَالقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ.
رواه أحمد (2/ 510)، والبخاريُّ (6232 و 6233)، ومسلم (2160)، وأبو داود (5198 و 5199)، والترمذيُّ (2704 و 2705).
ــ
مرة؛ وإنما لم يتعرض لذكر الأولى؛ لأنَّها لا تدخل تحت خطاب تكليف؛ إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودًا، فلا تكون مكتسبة، فلا يكون مكلفًا بها، فأعرض عما ليس مكلَّفًا به، ونهاه عما يُكلَّف به؛ لأنَّ استدامة النظر مكتسبة للإنسان؛ إذ قد يستحسن ما وافقه بصره، فيتابع النظر، فيحصل المحذور - وهو النظر إلى ما لا يحل -. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:(لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية)(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يُسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير) قد تقدَّم الأمر بالسلام، وبإفشائه في كتاب الإيمان، ولا خلاف بين العلماء في أن الابتداء بالسلام سُنَّة، وأن الرد واجب، قاله أبو محمد عبد الوهاب. وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء: على أنَّ الابتداء بالسَّلام سُنَّة والردُّ فريضة. غير أن أبا عبد الله المازري قال: الابتداء بالسَّلام سُنَّة والردُّ واجب في المشهور؛ فإذا ردَّ واحدٌ من الجماعة أجزأ عنهم، ثمَّ إن الناس في الابتداء بالسَّلام إما أن تتساوى أحوالهم، أو تتفاوت. فإن تساوت فخيرهم الذي يبدأ صاحبه بالسلام: كالماشي على الماشي، والراكب على الراكب، غير أن الأولى مبادرة ذوي المراتب الدينية، كأهل العلم، والفضل احترامًا لهم، وتوقيرًا، وأما ذوي المراتب الدنيوية المحضة فإنَّ سلَّموا يردَّ عليهم، وإن ظهر عليهم إعجاب، أو كبر فلا يُسلَّم عليهم؛ لأنَّ ذلك معونة لهم على المعصية، وإن لم يظهر ذلك عليهم جاز أن يُبدؤوا بالسَّلام، وابتداؤهم هم بالسلام أولى بهم؛ لأنَّ ذلك يدلّ على
(1) رواه الحاكم (2/ 194).
[2070]
وعن أبي طَلحَةَ قال: كُنَّا قُعُودًا بِالأَفنِيَةِ نَتَحَدَّثُ، فَجَاءَ
ــ
تواضعهم، وإن تفاوتت فالحكم فيها على ما يقتضيه هذا الحديث، فيبدأ الراكب بالسَّلام على الماشي لعلوِّ مرتبته؛ لأنَّ ذلك أبعد له من الزهو. وأمَّا الماشي: فقد قيل فيه مثل ذلك، وفيه بُعد؛ إذ الماشي لا يزهى بمشيه غالبًا. وقيل: هو معلل: بأن القاعد قد يقع له خوف من الماشي؛ فإذا بدأه بالسَّلام أمن من ذلك، وهذا أيضًا بعيد؛ إذ لا خصوصية للخوف بالقاعد، فقد يخاف الماشي من القاعد، وأشبه من هذا أن يقال: إن القاعد على حال وقار وثبوت وسكون، فله مزيَّة على الماشي بذلك؛ لأنَّ حاله على العكس من ذلك. وأما ابتداء القليل بالسَّلام على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين وأكثريتهم.
وقد زاد البخاري في هذا الحديث: (ويسلم الصغير على الكبير) وهذه المعاني التي تكلَّف العلماء إبرازها هي حكم تناسب المصالح المحسِّنة والمكمِّلة، ولا نقول: إنها نصبت نصب العلل الواجبة الاعتبار، حتى لا يجوز أن يعدل عنها، فنقول: إن ابتداء القاعد للماشي غير جائز، وكذلك ابتداء الماشي الراكب، بل يجوز ذلك؛ لأنَّه مُظهر للسَّلام، ومفشٍ له كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(أفشوا السَّلام بينكم)(1)، وبقوله:(إذا لقيت أخاك فسلم عليه)(2) وإذا تقرر هذا فكل واحد من الماشي والقاعد مأمور بأن يسلِّم على أخيه إذا لقيه، غير أن مراعاة تلك المراتب أولى، والله أعلم.
ثم هذا السَّلام المأمور به، وهو أن يقول: السَّلام عليكم، أو: سلامٌ عليكم؛ إذ قد جاء اللفظان في الكتاب والسنة. والسلام في الأصل بمعنى: السلامة، كاللذاذ واللذاذة، كما قال تعالى:{فَسَلامٌ لَكَ مِن أَصحَابِ اليَمِينِ} أي: فسلامةٌ؛ فعلى هذا يكون معنى قول المسلم (سلام عليك)
(1) رواه مسلم (54) من حديث أبي هريرة.
(2)
رواه أبو داود (5200).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أي: سلامةٌ لك مني وأمان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(السلام أمان لذمتنا، وتحيَّة لملتنا)(1) والسَّلام أيضًا: اسم من أسماء الله تعالى، كما قال تعالى:{السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ} ومعناه في حق الله تعالى: أنه المنزه عن النقائص والآفات التي تجوز على خلقه. وعلى هذا: فيكون معنى قول المسلم: السلام عليك؛ أي: الله مطلع عليك، وناظر إليك، فكأنَّه يذكره باطلاع الله تعالى، ويخوفه به ليأمن منه، ويُسلِّمُه من شرِّه، فإذا دخلت الألف واللام على المعنى الأول كان معناه: السلامة كلها لك مني، وإذا أدخلت على اسم الله تعالى: كانت تفخيمًا وتعظيمًا؛ أي: الله العظيم السليم من النقائص، والآفات، المسلِّم لمن استجار به من جميع المخلوقات. ويقال في السَّلام: سِلمٌ - بكسر السين - قال الشاعر:
وقفنا فقُلنا إيهِ سِلمًا فسلَّمَت
…
كما انكَلَّ بالبَرقِ الغَمَامُ اللَّوائِحُ
ولا يقل المبتدئ: عليك السَّلام، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه النِّسائي، وأبو داود من حديث جابر بن سليم قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السَّلام، يا رسول الله! فقال:(عليك السلام تحية الميت، السلام عليك - ثلاثا -)(2) أي: هكذا فقل.
و(قوله: عليك السَّلام تحيَّة المَيِّت) يعني أنه الأكثر في عادة الشعراء، كما قال:
عليك سلام الله قيسُ بن عاصمٍ
…
ورَحمَتُه ما شاء أن يَتَرحَّما
لا أن ذلك اللفظ هو المشروع في حق الموتى؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم قد سلَّم على الموتى،
(1) رواه الطبراني في الصغير (1/ 75)، والخطيب في تاريخه (4/ 396)، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 79) وفيه عصمة بن محمد الأنصاري، قال يحيى ابن معين: عصمة كذاب يضع الحديث.
(2)
رواه أبو داود (5209)، والترمذي (2723)، والنسائي (9694) في الكبرى.
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عَلَينَا، فَقَالَ: مَا لَكُم وَلِمَجَالِسِ الصُّعُدَاتِ؟ اجتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ. فَقُلنَا: إِنَّمَا قَعَدنَا لِغَيرِ مَا بَأسٍ، قَعَدنَا نَتَذَاكَرُ
ــ
كما سلَّم على الأحياء، فقال:(السَّلام عليكم دار قومٍ مؤمنين)(1) ويتأكد تقديم لفظ السَّلام إذا تنزلنا على أن اسم السَّلام من أسماء الله تعالى، فإنَّ أسماءه تعالى أحقُّ بالتقديم. وأما الرادُّ: فالواجب عليه أن يردَّ ما سمعه، والمندوب أن يزيد إن بقَّى له المبتدئ ما يزيد، فلو انتهى المبتدئ بالسلام إلى غايته؛ التي هي: السَّلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ لم يزد الرادُّ على ذلك شيئًا؛ لأنَّ السلام انتهى إلى البركة، كما قال عبد الله بن عباس. وقد أنكر عبد الله بن عمر على من زاد على ذلك شيئًا، وهذا كلُّه مستفادٌ من قوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحسَنَ مِنهَا أَو رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ حَسِيبًا} أي: يحاسب على الأقوال كما يحاسب على الأفعال.
و(قوله: ما لكم ولمجالس الصُّعدات، اجتنبوا مجالس الصُّعدات) الصُّعدات: جمع صعيد، وهو الطريق مطلقًا. وقيل: الطريق الذي لا نبات فيه؛ مأخوذ من الصعيد، وهو: التراب على قول الفرَّاء، أو وجه الأرض على قول ثعلب. ويجمع: صُعُدا، وصعدات، كطرق وطرقات. وقد جاء الصعيد في الرواية الأخرى مفسَّرًا بالطريق. وهذا الحديث إنكارٌ للجلوس على الطرقات، وزجرٌ عنه، لكن محمله على ما إذا لم ترهق إلى ذلك حاجة، كما قالوا: ما لنا من ذلك بُدٌّ؛ نتحدَّث فيها. لكن العلماء فهموا: أن ذلك المنع ليس على جهة التحريم، وإنَّما هو من باب سدِّ الذرائع، والإرشاد إلى الأصلح، ولذلك قالوا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدَّث؛ أي: نتذاكر العلم والدين، ونتحدَّث بالمصالح والخير، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم منهم ذلك، وتحقَّق حاجتهم إليه؛ أباح لهم ذلك، ثم
(1) رواه أحمد (2/ 300 و 408)، ومسلم (249)، والنسائي (1/ 93، 95)، وابن ماجه (4306).
وَنَتَحَدَّثُ، فقَالَ: إِمَّا لَا، فَأَدُّوا حَقَّهَا: غَضُّ البَصَرِ، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَحُسنُ الكَلَامِ.
رواه أحمد (4/ 3)، ومسلم (2161).
[2071]
وعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُم وَالجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَنَا بُدٌّ مِن مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فإِذَا أَبَيتُم إِلَّا المَجلِسَ، فَأَعطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ.
ــ
نبَّههم على ما يتعين عليهم في مجالسهم تلك من الأحكام.
و(قوله: إمَّا لا) هي: (إن) الشرطية المكسورة زيدت عليها (ما) تأكيدًا للشرط، و (لا) عبارة عن الامتناع والإباية، فكأنَّه قال: إن كان ولا بُدَّ من إبايتكم، ولا غنى لكم عن قعودكم فيها؛ فأعطوا الطريق حقَّها. فلمَّا سمعوا لفظ الحق - وهو مجمل - سألوا عن تفصيله، ففصَّله لهم بقوله صلى الله عليه وسلم:(غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السَّلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهذه الحقوق كلها واجبة على من قعد على طريق. ولما كان القعود على الطريق يُفضي إلى أن تتعلق به هذه الحقوق، ولعلَّه لا يقوم ببعضها فيتعرَّض لذمِّ الله تعالى ولعقوبته كره القعود فيها، وغلَّظ بالزجر المتقدِّم، والإنكار، فإن دعت إلى ذلك حاجة، كالاجتماع في مصالح الجيران، وقضاء حوائجهم، وتفقد أمورهم، إلى غير ذلك، قعد على قدر حاجتهم، فإن عرض له شيء من تلك الحقوق وجب القيام به عليه.
و(كف الأذى) يعني به: لا يؤذي بجلوسه أحدًا من جلسائه بإقامته من مجلسه ولا بالقعود فوقه، ولا بالتضييق عليه، ولا يجلس قبالة دار جاره، فيتأذى بذلك. وقد يكون كفُّ الأذى: بأن يكف بعضهم عن بعض، إلا أن هذا يدخل في قسم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فحمله على المعنى الأول أولى.
و(قوله: وحسن الكلام) يريد أن من جلس على الطريق فقد تعرض لكلام الناس، فليحسِّن لهم كلامه، ويصلح شأنه.