الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) باب لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه فكره، ورد المحدثات، ومن خير الشهداء
؟
[1810]
عَن عَبدِ الله بنِ أَبِي بَكرَةَ قَالَ: كَتَبَ أَبِي وَكَتَبتُ لَهُ إِلَى عُبَيدِ اللَّهِ بنِ أَبِي بَكرَةَ، وَهُوَ قَاضي بِسِجِستَانَ: أَلَا تَحكُمَ بَينَ اثنَينِ وَأَنتَ غَضبَانُ، فَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَحكُم أَحَدٌ بَينَ اثنَينِ وَهُوَ غَضبَانُ.
رواه أحمد (5/ 36 و 37 و 52)، والبخاري (7158)، ومسلم (1717)، وأبو داود (3589)، والترمذيُّ (1334)، والنسائي (8/ 237 و 238)، وابن ماجه (2316).
ــ
(4)
ومن باب: لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه فكره
(قوله: لا يحكم أحدٌ بين اثنين وهو غضبان) إنَّما كان الغضب مانعًا من الحكم؛ لأنَّه يشوِّش عليه فكره، ويخلُّ بفهمه، فيجب أن يُلحق به ما في معناه، كالجوع، والألم، والخوف، وما أشبه ذلك. وذلك إما بطريق الأولى، كالخوف، والمرض، فإنهما أولى بذلك من الغضب. وإما بطريق توسيع المناط، وذلك أن تَحذِف خصوصية ذكر الغضب، وتُعدِّيه إلى ما في معناه. وهذا النوع من القياس من أجل أنواعه، ولذلك قال به جماعة الفقهاء، وكثير من نفاة القياس. وقد استوفينا ذلك في الأصول، ولا يعارض هذا الحديث بحكم النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بإمساك الماء إلى أن يبلغ الجدُر. وقد غضب من قول الأنصاري: أن كان ابن عمتك (1)؟ !
(1) رواه أحمد (4/ 4 - 5)، والبخاري (2359 و 2360)، ومسلم (2357)، والترمذي (1363)، والنسائي (8/ 245)، وابن ماجه (15).
[1811]
وعن عَائِشَةَ قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَن أَحدَثَ فِي أَمرِنَا هَذَا مَا لَيسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ.
وفي رواية: مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ.
رواه أحمد (6/ 73 و 240 و 270)، والبخاري (2697)، ومسلم (1718)(17 و 18)، وأبو داود (4606)، وابن ماجه (14).
ــ
لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الهوى، والباطل، والخطأ في غضبه، ورضاه، وصحته، ومرضه. ولذلك قال:(اكتبوا عني في الغضب والرضا)(1). ولذلك نفذت أحكامه، وعمل بحديثه الصادر منه في حال شدَّة مرضه ونزعه، كما قد نفذ في حال صحته ونشاطه.
و(قوله: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ) أي: من اخترع في الشرع ما لا يشهد له أصل من أصوله فهو مفسوخ، لا يعمل به، ولا يلتفت إليه.
وفيه حجَّة: على أن النهي يدلُّ على الفساد. وهو قول جمهور الفقهاء. وذهب بعض أصحابنا، وأكثر المتكلمين: إلى أنه لا يدل على الفساد، وإنما مدلوله المنع من إدخال المنهي عنه في الوجود فقط. وأما حكمه إذا وقع من فساد أو صحة: فالنَّهي لا يدلُّ عليه، وينظر دليل ذلك من خارج النَّهي.
وقد اختلف حال المنهيات في الشرع؛ فبعضها يصحُّ إذا وقع، كالطلاق في الحيض. وبعضها لا يصحُّ، كبيع الملاقيح والمضامين. وبعضها يختلف فيه أصحابنا والفقهاء، كالبيع وقت النداء. وللمسألة غَورٌ. وقد بيَّنَّاه في الأصول.
وفتى (2) القاسم بن محمد فيمن له مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها،
(1) رواه أحمد (2/ 162 و 192)، وأبو داود (3646) بنحوه.
(2)
أي: فتيا أو فتوى. انظر: اللسان مادة (فتا).
[1812]
وعَن زَيدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَلَا أُخبِرُكُم بِخَيرِ الشُّهَدَاءِ؟ ! الَّذِي يَأتِي بِشَهَادَتِهِ قَبلَ أَن يُسأَلَهَا.
ــ
فإنَّه يجمع ذلك كلُّه في مسكن واحد. فيه إشكال؛ إذ هي مخالفة لما أوصى به الموصي. والأصل اتِّباع أقواله والعمل بظاهرها؛ فإنَّه كالمشرع. ففتيا القاسم ليس على ظاهرها، وإنما هي محمولة على ما إذا أراد أحد الفريقين من الورثة، أو الموصى لهم القسمة، وتمييز حقه، وكانت المساكن متقاربة، بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة، فحينئذ تقوَّم تلك المساكن قيمة التعديل، وتقسم بينهم، فيجمع نصيب الموصى لهم في موضع واحد يشتركون فيه بحسب وصاياهم، ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك، بحسب مواريثهم.
فإن قيل: فقد استحالت الوصية عن أصلها.
فالجواب: أن ذلك بحسب ما أدَّت إليه سُنَّة القسمة عند الدُّعاء إليها، فإن الموصي لو أوصى بثلث كل مسكن، ومنع من القَسم لم يلتفت إلى منعه، وكان ذلك المنع مردودًا. وهو الذي استدلَّ على ردِّه القاسم بقوله صلى الله عليه وسلم:(من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ) فلو لم يطلب أحدٌ من الفريقين قسمة، أو كانت المساكن لا يُضمُّ بعضها إلى بعض لبعدها، وتباين اختلافها بقي كلُّ واحد منهم على نصيبه حسب ما وُصِّي له به. وهذا كلُّه مذهب مالك.
و(قوله: ألا أخبركم بخير الشهداء) الشهداء: جمع شهيد، كظرفاء: جمع ظريف، ويجمع أيضًا على: شهود، لكنه جمع شاهد، كحضور جمع حاضر، وخروج جمع خارج. ويعني بخير الشهداء: أكملهم في رتبة الشهادة، وأكثرهم ثوابًا عند الله تعالى.
و(قوله: الذي يأتي بشهادته قبل أن يسأَلَها) يعني به الشهادة التي يجب أداؤها، ولم يَسألها؛ كشهادة بحق لم يحضر مستحقه، أو بشيء يخاف ضياعه، أو فوته بطلاق، أو عتق على من أقام على تصرُّفه من الاستمتاع بالزوجة، واستخدام العبد، إلى غير ذلك، فيجب على من تحمَّل شيئًا من ذلك أداء تلك الشهادة، ولا
رواه أحمد (5/ 114 و 116 و 117) و (5/ 192 و 193)، ومسلم (1719)، وأبو داود (3569)، والترمذيُّ (2296 و 2297)، وابن ماجه (2364).
* * *
ــ
يقف أداؤها على أن تُسأَلَ منه، فيضيع الحق، وقد قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} ولا يعارض هذا بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (ثم يأتي من بعد ذلك قوم يشهدون ولا يُستشهدون)(1) لأن هذا محمولٌ على أحد وجهين:
أحدهما: أن يراد به: شاهد الزور؛ فإنَّه يشهد بما لم يستشهد؛ أي: بما لم يحمله.
والثاني: أن يراد به الذي يحمله الشَّرَهُ على تنفيذ ما يشهد به فيبادر بالشهادة قبل أن يُسأَلَها. فهذه شهادة مردودة، فإن ذلك يدلُّ على هوى غالب على الشاهد. ولا خلاف عندنا في هذا إن شاء الله تعالى. وما ذكرناه أحسن ما حمل عليه هذا الحديث.
وقد روي عن النَّخعي: أنَّه قال: المراد بالشهادة في هذا الحديث: اليمين. واستدلَّ عليه بقوله صلى الله عليه وسلم في بقيَّة الحديث: (تسبق يمين أحدهم شهادته، وشهادته يمينه)، وفيه نظر. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
فرع: لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه التي ذكرناها فلم يؤدها أنَّها جُرحَةٌ في الشَّاهد والشهادة. ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين. هذا قول ابن القاسم وغيره. وذهب بعضهم: إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جُرحَة في تلك الشهادة نفسها خاصة، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك.
(1) رواه أحمد (4/ 427 و 436)، والبخاري (2651)، ومسلم (2535)(214)، وأبو داود (4657)، والترمذي (2222)، والنسائي (7/ 17 - 18).